Ch84 ffb
حين نزل يو شولانغ درجات مبنى الأبحاث الدوائية ، شعر
كأن الأرض تهتزّ تحته بخفة غير مألوفة ،
وما إن خرج من نطاق أجهزة التبريد حتى اندفعت نحوه
حرارة الصيف الرطبة ، تلتهم أنفاسه دفعة واحدة ،
فاضطر أن يتراجع خطوة للخلف ،
لم يستطع التكيّف مع هذا الانتقال المفاجئ من دفء أوائل
الصيف إلى لهيب منتصفه
الطريق رطب ، والمياه متجمعة في المنخفضات على شكل
بركٍ صغيرة
{ هل أمطرت للتو ؟ }
لقد مضى زمنٌ طويل منذ آخر مرة لاحظ فيها ما يحدث
خارج نافذته
لقد أمضى في هذا المبنى الخاص بالأبحاث الدوائية شهرين
وثلاثة وعشرين يوم ، بالكاد خرج خلال تلك المدة
كانت مهمة تحسين تقنية تحضير مشروب زهور العسلة
الذهبية والفضية تبدو بسيطة على الورق : رفع جودة الدواء
وفاعليته ، مع خفض التكلفة في الوقت نفسه ،
لكن ما بدا سهلًا في القول ، لم يكن إلا عبئًا شاقًا في التنفيذ،
لا يدركه إلا من عاش ضغط تلك الليالي الطويلة
أن يُنجز الفريق في ثلاثة أشهر حجم عمل يكاد يستحيل
إنجازه في نصف عام ، كان أمرًا فوق طاقة البشر
وبصفته المساعد الأول لهوانغ تشيمينغ، حمل يو شولانغ
على كتفيه أثقل ما في المشروع من مسؤولية
في بيئة البحث العلمي ، تُقاس الكفاءة بالشهادات والخبرة
وعدد الأبحاث المنشورة وجودتها
لذا لم يكن موقع يو شولانغ كمساعدٍ أول موضع ترحيب في البداية ،
لأنه لم يملك تلك “الأوراق الرسمية” التي تُقنع الآخرين
لكن مع مرور الوقت ، أثبت نفسه كأهم عامل في تسريع
وتيرة المشروع ودفعه نحو النجاح
بجهده المستمر وسهره الليالي ، أقرّ الجميع في النهاية بأن
الموهبة والفطنة لا تُقاسان بسيرة مكتوبة
كان بارعًا في التعامل مع الناس ، صادقًا في كلامه ،
منظمًا في عمله ، لذا سارت كل الأمور بسلاسة ،
واستطاع المشروع أن يتقدّم بسرعة دون أي عقبات أو خلافات
والآن، وقد أوشك المشروع على نهايته ، دخل الفريق مرحلة
جمع البيانات وتقديم التقارير للمراجعة والتقييم النهائي
ورغم أن المطر قد غسل الأرض قبل قليل ، فإن الحرارة ما
زالت خانقة
وقف يو شولانغ أمام المبنى للحظة ، تائهًا لا يدري إلى أين يتجه
تذكّر كلمات زملائه
العم تشو قال إنه سيأخذ ابنه إلى مدينة الألعاب ليقضي
معه يومًا كاملًا من الضحك
أما الشاب لي ، فكان ينتظر هذه اللحظة منذ أسابيع
ليحتفل بعيد ميلاد حبيبته
وتيان شياوتيان، تلك الفتاة العنيدة ، أقسمت أنها بعد انتهاء
المشروع ستلتهم ثلاث أوعية من معكرونة أمّها اليدوية
حتى الأستاذ هوانغ تشيمينغ لم يخفِي شوقه إلى كلبه
العجوز ، يذكره كل يوم بنبرة من الحنين
وحده يو شولانغ، حين سألوه عمّا سيفعله بعد نهاية
المشروع، لم يعرف بماذا يجيب
ففي السابق ، كانت كل خطوة من حياته تُحدَّد بناءً على ما
يريده فان شياو
لم يظهر فان شياو منذ زمنٍ طويل
منذ ذلك اليوم الذي اتفقا فيه في المكتب على موعد شهر
مارس ، انتقل يو شولانغ في اليوم نفسه من شقة فان شياو
إلى قاعدة الأبحاث ، ومنذ ذلك الحين لم يلتقيا مجددًا
في البداية ، كان يو شولانغ ما يزال يخشى أن يُقدم فان شياو
على فعلٍ متهور أو غريب كما اعتاد ،
لكن مع مرور الأيام وانشغاله في العمل ليلًا ونهارًا ، أصبح
اسم فان شياو، بل وشخصه ، شيئًا لم يعد يجد وقتًا حتى لتذكره
ومع اقتراب المشروع من نهايته ، بدأ قلب يو شولانغ
يضطرب من جديد شيئًا فشيئًا مع كل يوم يمضي
فهو لا يعلم ما الخطوة التالية التي قد يُقدم عليها فان شياو ،
بل صار يخشى أنه بمجرد أن يغادر هذا الباب ، سيجد فان
شياو واقفًا ينتظره بهدوء
سأله أحد الزملاء مبتسمًا :
“ أخ يو فيمَ تفكر ؟ كنت أناديك ،
ما خطتك بعد انتهاء المشروع ؟”
فأجابه يو شولانغ بابتسامة مرهقة:
“ أنام ،
أنام ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ متواصلة .”
حين وقف يو شولانغ خارج مبنى الأبحاث ، ولم يرَى أي أثرٍ
لفان شياو ، تنفّس الصعداء بخفة ،
وسار بمحاذاة الظل الضيق الممتد تحت حافة السقف حتى
خرج من المجمع
المنطقة في أطراف المدينة ، والسيارات قليلة على الطريق
وبعد دقائق ، توقفت أمامه سيارة سوداء غير رسمية
للركاب ، ومدّ السائق عنقه يسأله :
“ تركب ؟”
تردد يو شولانغ لحظة ، ثم أومأ برأسه ، فتح باب المقعد
الأمامي وجلس ، وذكر له عنوانًا قريب
وما إن نزل من السيارة ، حتى وطئت قدمه كتلة طين لزجة
كان الحيّ قديم ، لا يختلف كثيرًا عن العشوائيات ، وأعمال
النظافة فيه متواضعة للغاية
اختار مكان أقلّ قذارة ووقف فيها ، ثم أخرج هاتفه وأرسل
رسالة على ويتشات
الاسم في أعلى مربع المحادثة كان [ باي تاو ] — كانت
تسكن هنا ، وقد أوصلها يو شولانغ إلى هذا المكان ذات
مرة ، ولا يزال يتذكر الموقع على نحوٍ غامض
كتب:
[ هل لديك وقت يا باي تاو ؟
أنا قريب من مكان سكنك ، إن لم أكن أزعجك ، لنتناول العشاء معًا ؟ ]
كانت الساعة الخامسة مساءً ، والراجح أن باي تاو قد استيقظت لتوّها ،
فهي تنام نهارًا وتعيش ليلًا ، حياةً مقلوبة تمامًا عن إيقاع
الناس العاديين
باي تاو قد هربت من قريتها الجبلية لتفلت من زواج قسري ،
فقد استخدمها أهلها وسيلة لتأمين مستقبل أخيها ،
تسلّموا مهرًا ضخمًا وزوّجوها لرجل مسنٍّ سيئ السمعة ،
اشتهر بفساده وفسوقه
هربت باي تاو ، وتنقلت بين المدن ، وكادت في مرتين أن
تُقبض وتُعاد قسرًا إلى قريتها
قدّمت بلاغًا للشرطة ، وسُجن والدها وأخوها لفترة قصيرة ،
لكنهما حين خرجا عادا إلى طبيعتهما القديمة ،
و المهر قد صُرف ، فلم يجدوا سوى أن يلاحقوها
ليستعيدوها كـ ' دين ' يجب سداده
لم تكن باي تاو متعلمة ، ولا تملك مهارة تكسب منها ،
وبسبب جمالها كانت عرضةً للمضايقات أينما حلّت ،
حتى انتهى بها الأمر عاملة في أحد الملاهي الليلية ،
حاول يو شولانغ مساعدتها في إيجاد عمل محترم ، لكنها
رفضت وقالت:
“ تعودت على هذه الحياة ، لم أعد أنفر منها كما كنت في البداية ،
أريد أن أجمع مالًا كثيرًا ، أشتري منزل وسيارة ، ولا أريد أن
أعتمد على أحد بعد اليوم .”
ولا يزال يو شولانغ يتذكر ذلك الحزن العميق والإصرار الذي
انعكس في عينيها حين قالت :
“ فقط بالمال يمكن للمرء أن يكون قوياً، ويمكنه التحكم
في مصيره "
فالمعاناة دائمًا تشوّه ملامحنا ، وتحوّلنا إلى أشخاص آخرين
لا يشبهون أنفسهم
قبل عدّة أشهر على سطح مبنى البلدية ، استخدم فان شياو
معلومات باي تاو وهدّد بفضح مكانها لعائلتها كي يبتزّ يو شولانغ
كانت باي تاو قد ساعدت يو شولانغ من قبل ، وفان شياو
كان يعرف تمامًا طباعه وحدوده الأخلاقية ،
يدرك أنه لن يقبل أبدًا أن يتورط في إيذاء امرأة بريئة
وقف يو شولانغ تحت أشعة الشمس الساطعة ، وارتسمت
على وجهه ابتسامة مُرة
{ بالفعل ، فان شياو يعرفني جيدًا ، ويعرف كيف يضغط على
مكان ضعفه بدقّة قاتلة }
أنزل رأسه ينظر إلى هاتفه ، لم تردّ باي تاو على رسالته ،
فجرّب الاتصال بها ، لكن الهاتف كان مغلق
تنهد متسائلًا { إلى أين يجب أن أذهب الآن ؟
وماذا عساي أن أفعل بعد ذلك ؟ }
سار بحذر متجنبًا البرك الموحلة ، ولم يقطع سوى بضع
خطوات حين سمع أحدهم يناديه :
“ هيه، أيها الشاب ! أنت صديق باي تاو ، أليس كذلك ؟”
التفت يو شولانغ نحو الصوت ، فرأى امرأة شابة متأنقة بطريقة لافتة
في هذا الحيّ المتهالك بدت كزهرة غريبة ؛ ترتدي كعبًا
عالي رفيع ، وشعرها المموج يهتزّ مع كل خطوة ،
بينما تتعقبها نظرات الناس ، بعضها صريح وبعضها مملوء بازدراء مكتوم
خمّن يو شولانغ أنها ربما كانت شريكتها في السكن ، إذ سبق
أن ذكرتها باي تاو بعفوية ذات مرة
فقال بأدب :
“ مرحبًا ، أنا يو شولانغ، صديق باي تاو . أهي في المنزل ؟”
تجاهل النظرات العدائية من حوله وتقدم منها بهدوء ، يسألها بلطف
فأجابت الفتاة بنبرة متوترة :
“ أنت أيضًا لا تعرف أين هي؟ كنت آمل أن أسألك عنها أنا !”
أجابت بينما تقفز من فوق بركة ماء وتعثرت قليلًا ،
فسارع يو شولانغ إلى مدّ يده ليمسك بها ،
لكن أصوات متعالية صدرت من الخلف ،
فيها همهمات استهجان وعبارات مبطنة مثل : “ يا للعار ” و” عديمو الحياء”
تجاهل يو شولانغ كل ذلك ، وكان اهتمامه منصبًّا على كلامها فقط
سألها بنبرة قلقة :
“ ما الأمر ؟ ماذا حدث لباي تاو ؟”
هزّت رأسها بحيرة :
“ لا أعرف بالضبط ، لكنها منذ أن تلقت مكالمة قبل يومين
بدت شاردة ومضطربة ،،
سألتها عمّا بها فلم تجبني . في تلك الليلة ، أنهت دوامها
ولم تعد معي إلى المنزل ، ومنذ ذلك الحين اختفت ،
لا أثر لها ولا اتصال .”
اشتدّ القلق في ملامح يو شولانغ:
“ هل سألتِ صديقاتها الآخرين ؟ ألا أحد يعلم أين ذهبت ؟”
أنزلت الفتاة برأسها وقالت بأسف :
“ باي تاو لم يكن لها أصدقاء مقربون .
في الملهى الليلي حيث تعمل… الناس هناك يتحدثون عنها
من وراء ظهرها ، يقولون إنها تتصنع الترفع رغم عملها ،
لكنني أعرف الحقيقة — إنها فقط لا تريد أن تغرق أكثر مما اضطرت إليه ”
توقف يو شولانغ لحظة يفكر ، ثم سألها مجددًا :
“ هل لاحظتِ أي شيء غير طبيعي قبل أن تختفي ؟”
صمتت المرأة قليلاً ثم أطلقت همهمة خافتة كأنها تذكّرت شيئًا :
“ آه، نعم… قبل يومين ، جاء رجل يبحث عنها .. كان ذلك
بعد المكالمة مباشرة .
حجز قاعة كبيرة في النادي ، وطلب أن تكون هي وحدها في خدمته .
لكن الغريب أنه لم يبقَى طويلًا — جلس قليلًا وغادر ،
ومع ذلك دفع أكثر من عشرة آلاف يوان ثمن مشروبات لم
يلمس منها شيء .
الإدارة منحت باي تاو ضعف العمولة المعتادة ،
وقالوا الفتيات إنها محظوظة — نصف ساعة فقط ،
لا إزعاج ، لا مضايقة ، وكسبت مبلغًا كبيرًا .”
تحت شمسٍ لاهبة تكاد تحرق الهواء ، شعر يو شولانغ بأن
دفءَ أطراف أصابعه يتلاشى شيئًا فشيئًا ،
فقال بصوت خافت متصلّب :
“ أيّ نوعٍ من الرجال كان ؟”
أجابت الفتاة بعد ترددٍ قصير:
“ كان طويل القامة ، وسيم ، يبدو مهذّبًا ورقيقًا في مظهره .”
“ هل كان له أيّ ملامح مميزة ؟”
أطرقت تفكر قليلًا، ثم قالت ببطء:
“ لا شيء مميز حقًا… سوى أمرٍ غريب واحد —
كان الجوّ حارًّا جدًا يومها ، لكنه يرتدي قميص بأكمام طويلة ،
كأنّه يخشى البرد .”
المسافة بين أطراف الأصابع والقلب قصيرة للغاية ،
لا تحتاج إلا إلى لحظة واحدة لتغدو البرودة كاملة ،
لم يتوقع يو شولانغ أن يعود فان شياو إلى أساليبه القديمة ،
فيعيد استخدام باي تاو كورقة تهديد جديدة في اللحظة
التي أوشكت فيها التجربة على النجاح
الشمس في كبد السماء ، وقد جفّت آثار المطر خلال دقائق معدودة ،
لكنها لم تستطع أن تذيب البرد على وجه يو شولانغ —-
لا الشمس قادرة على إذابتها ، ولا الزمن
—
فتح فان شياو باب منزله ، وألقى بحقيبته على الخزانة عند
المدخل دون اهتمام
لم يُشعل الأنوار ، خلع حذاءه في مكانه المعتاد ،
ومشى في العتمة نحو الثلاجة
فتح بابها، وأخرج زجاجة ماء باردة
وفجأة — طقطقة ، صوت ولاعة اشتعلت خلفه
استدار فجأة ، وعلى ضوء الثلاجة الباهت رأى يو شولانغ
جالس على الأريكة في صالة المعيشة
غمره الفرح حدّ الارتباك ، أسرع يضيء المصباح الجانبي ،
ثم أسرع نحو يو شولانغ بخطوات متعثرة ،
وارتمى عليه يحتضنه بقوة ، كمن وجد طريقه بعد توهان طويل
: “ شولانغ ! لقد عدت !”
قالها بانفعال ، وجهه مدفون في عنق الآخر ،
“ لماذا لم تدعني أذهب لاستقبالك ؟ الجوّ حار جدًا اليوم "
رفع يو شولانغ عينيه نحوه ، وقال ببرود لا تخطئه الأذن:
“ جوٌّ كهذا ، ومع ذلك يرتدي السيد فان قميص طويل الأكمام ؟”
ظل تعبير يو شولانغ غير متأثر ، ونبرة صوته خالية من الدفء ،
لكن فان شياو ظل غافلاً عن ذلك — لا يزال مستمتعاً بعودة
يو شولانغ غير المتوقعة ،
أجاب بشكل غريزي :
“ الجوّ يميل إلى البرودة صباحًا ومساءً ”
وما إن أنهى كلامه حتى شعر بأن الوقت الذي قضاه في التبرير مضيعة ،
و كان أجدر به أن يقبّله بدلًا من الحديث
رفع يده يُمسك وجه يو شولانغ بلطف ، وانحنى ليقبّله ،
لكن ما إن لامست أنفاسهما حتى رفع يو شولانغ سيجارة إلى شفتيه
كان الرجل يعضّ طرف السيجارة بثبات ، وفي جسده سكون
حادّ لا حياة فيه ،
يُخاطب فان شياو بنبرة هادئة كالماء البارد :
“ تمّ إنجاز الجزء المخبري من تحسين عملية إنتاج مشروب زهرة العسلة
والخطوة التالية هي تقديم النتائج إلى مركز التقييم الوطني .
المدة غير محددة بعد ، فهي تعتمد على عدد المشاريع
المقدّمة في الوقت نفسه .”
أومأ فان شياو بفتور دون أن يولي الأمر اهتمامًا كبيرًا ،
ولم يهتم باحتمال أن تحرقه السيجارة ، مال جانبًا ليقبّل
زاوية فم يو شولانغ
: “ لا تتحدث عن هذا الآن شو لانغ…
المدير يو لقد اشتقت إليك كثيرًا ،
لا أعرف كيف تمكنت من تحمل الأشهر الماضية ”
أنزل يو شولانغ نظره نحو فخذه ،
حيث كان شيء صلب يضغط عليه —- ( قضيب فان )
وبما يعرفه عن فان شياو ، فإن هذا الرجل الذي تغلبه
شهوته لا يمكن أن يحافظ على رشده لأكثر من ثلاث دقائق
قال يو شو لانغ مباشرة دون مواربة :
“ المشروع شارف على الانتهاء ، فهل تفكر الآن في وسيلة
جديدة لابتزازي ؟”
توقف نَفَس فان شياو للحظة عند وجه شولانغ، وقال بصوت مبحوح :
“ لا، لم أفعل .”
سأله يو شولانغ وهو يدفعه بعيدًا عنه ، رافعًا عينيه لينظر إليه مباشرةً :
“ هل قابلت باي تاو ؟
بما أن شركة تشانغلينغ لم تعد تحت قبضتك ، هل تذكّرتْها مجددًا ؟”
جلس فان شياو ببطء مستقيمًا ، وقد تلاشى ما في عينيه
من رغبة ، ولم يبقَى إلا إحساس عميق بالعجز
قال بصوت خافت:
“ إذن عدت فقط لتسألني هذا السؤال ؟
يبدو أنني كنت أتوهم… ظننت أنك قد سامحتني ”
ضحك يو شولانغ بسخرية خافتة شقّت صمت الصالة الكئيب
قال ببرود :
“ فان شياو لو أن ما فعلتَه بي فعلتُه أنا بك ، هل كنت لتسامحني ؟”
رفع فان شياو عينيه نحوه بصدق مؤلم :
“ إن كنتَ أنت ، فمهما فعلت بي ، يمكنني تقبل ذلك .”
اصطكت أسنان يو شولانغ بغضب مكبوت وهو يقول بحدة:
“ لا تتوهم !
قبل أن تخترقك الرصاصة ، لن تفهم أبدًا كم هو الألم !”
و بصوت مبحوح غاضب:
“ لا أريد الحديث عن مشاعر أو حب الآن ، أريد أن أعرف
فقط : هل قابلت باي تاو أم لا؟ أين هي الآن ؟!”
ظل فان شياو جالس ، ساكن ، مرفقاه على ركبتيه وظهره منحنٍ ،
رفع رأسه أخيرًا وقال بهدوء جاد متجاهلًا السؤال :
“ يو شولانغ هل أنت حقًا لا تريدني بعد الآن ؟”
كانت السيجارة بين أصابع يو شولانغ قد احترقت حتى آخرها ،
ولسعت النار أطراف أصابعه ، فأطفأها بقوة في المنفضة
ثم أجابه بصرامة قاطعة :
“ لقد قلتُ هذه الجملة مئات المرات ، وإن كنتَ لا تزال
تريد سماعها مجددًا … فكما تشاء ”
نظر يو شولانغ إلى فان شياو بنظرة باردة جامدة :
“ الآن حين أراك ، لا أشعر بشيء سوى الاشمئزاز
لا شيء غيره ،
لا أعلم كيف قضيتَ هذه الأشهر ، لكن بالنسبة لي، كانت
من أكثر الفترات راحةً وحرية في حياتي ،،
لا أريدك بعد الآن ، بل أريد أن أنساك تمامًا ،
أن أنسى كل ما سبّبته لي من ألم ومعاناة ،
أن أنسى حتى أنني يوماً عرفت إنساناً يُدعى فان شياو !”
ساد الصمت في الغرفة حتى خُيِّل أن الهواء توقف
لم يُسمع سوى احتكاك بسيط نتج عن الساعة في معصم
فان شياو حين حرّك يده بتوتر ،
كأن هذا الصوت الضعيف وحده يكسر الصمت الخانق
المحيط بهما ،
قال فان شياو بصوت مبحوح ، وفي عينيه حزن ثقيل
كالعالم بأسره :
“ هل ستقع في حب شخص آخر مستقبلاً ؟
ستحبه كثيرًا ، وتحميه بقوة ، وتطبخ له الطعام ، وتضع
صوره في غرفتك ، وتدعوه ليلبس القفاز حين… يفعل معك
ما كنّا نفعل…”
قاطعه يو شولانغ ببرود قاطع :
“ نعم . وسأفعل ذلك.
فان شياو أنت لا تملك فيك شيئًا مميزًا سوى مدى سوءك .”
ارتجفت يدا فان شياو وهو يسحب سيجارة من العلبة كمن يتمسك بطوق نجاة ،
وأشعلها بسرعة ، ثم سحب منها أنفاس متتالية متوترة ،
وسط الدخان الكثيف ،
خرج صوته أخيرًا متعبًا ومتهالكًا :
“ ذهبتُ فعلًا لأبحث عن باي تاو ، أردت أن أُقنعها بتمثيل
مشهد معي ، شيء مثل حيلة ‘بطل ينقذ الفتاة في محنتها '
في الحالة المثالية ، سأتعرض للطعن عدة مرات ، مما
يجعلك تشعر ببعض الشفقة … و ربما ستلين وتسامحني ،
لكن باي تاو رفضت ،
فهددتها، قلتُ إن لم تتعاون ، سيأتي من يؤذيها
فهربت ،
سمعت أنها لم تظهر في العمل منذ يومين .”
سعل بشدة من عمق صدره بسبب دخان السيجارة ،
لكنه واصل الحديث وهو يضحك ضحكة مكسورة بين الألم والجنون :
“ يو شولانغ أنت مليء بنقاط الضعف ،
باي تاو، هوانغ تشيمين، وحتى أخوك المزعج ذاك… كلهم نقاط ضعفك !”
ثم انفجرت ضحكته بجنون ممزوج بالحقد:
“ والآن ؟ باي تاو هربت ، وأخوك في السجن ،
وهوانغ تشيمين نال شرعيته ،
فماذا بعد؟ لا تظن أنني لا أملك وسيلة بعد اليوم !
حتى أمك الراحلة… يمكنها أن تكون سلاحي ضدك !”
رفع يو شو لانغ رأسه فجأة ، والدماء غلت في عروقه :
“ لقد دُفنت بسلام ! ماذا تنوي أن تفعل ؟!
هل بقي فيك شيء من الإنسانية ؟!”
ضحك فان شياو ضحكة مريرة وقال ببرود كئيب:
“ ألم تقل إنني في نظرك شيطان ؟ فليكن إذًا…”
ثم رمى السيجارة بعيدًا ، وانحنى قليلاً ، صوته يخرج بارداً كحدّ السكين:
“ يو شولانغ الآن أرغب في مضاجعتك !
فهل ستذهب إلى السرير بنفسك… أم أحملك أنا إليه ؟”
فجأة
لكم شولانغ بقبضته بقوة على وجه فان شياو
دفعه بقوة إلى الحائط المقابل ، ووضع يده حول عنقه ،
وصرخ: " فان شياو أنت حقًا شيطان
لكن ألا يوجد للشيطان نقطة ضعف ؟!"
أخرج هاتفه من جيبه ،
رفع الهاتف أمام وجه فان شياو وقال ببرودٍ قاسٍ :
“ أنظر جيدًا ،
أتدري ما هذا ؟ هذه أدلّة جرائمك !”
تحرك إبهامه على الشاشة ، فتعاقبت السطور بسرعة أمام
أعين فان شياو ،
كلّ سطر منها أشبه بسكين جديد يُغرس في صدره :
“ فان شياو أنت متهم بعدّة جرائم اقتصادية — في تايلند
كنتَ تزوّر الحسابات ، وتتهرب من الضرائب ،
وترشي المسؤولين هناك ،
كل واحدة من هذه كفيلة بأن تزجّ بك في السجن لأعوام طويلة !”
قلب يو شولانغ الصفحة التالية بصرامة :
“ وهذه… أدلة على جرائم فان يو في اختلاس الأموال
واستغلال النفوذ لمصالحه الشخصية ،
لا عجب أنه أراد الحصول على ملفاتك ، يبدو أنه علم بأنّك
تملك ما يدينه !”
ثم انتقل إلى صفحة أخرى ، وقال بصوت لا يخلو من المرارة :
“ وهنا أدلة جرائم أخيك الأكبر ، الذي استخدم وسائل غير
قانونية لابتزاز زوجته والضغط على عائلتها من خلال تدمير
شركة والدها !”
شدّ قبضته أكثر ، وضاقت أنفاس فان شياو حتى احمرّ
وجهه ، لكن يو شولانغ لم يتوقف :
“ يوجد أكثر !!! ، هذه هي الأدلة على جرائم والدك —
كان يُنتج ويبيع أدوية مزيّفة في تايلند !
أدوية مزيّفة يا فان شياو ! تلك أرواح بشرية !”
بدأ فان شياو يختنق من قلّة الهواء ، وصوته خرج مبحوحًا متقطّعًا :
“ ماذا… ماذا تنوي أن تفعل ؟”
أجابه يو شولانغ بنظرة تفيض ألمًا واحتقانًا :
“ أتساءل حقًا ماذا سأفعل ؟”
ثم رفع الهاتف ، وإبهامه مهيأ للضغط على الشاشة ، وقال ببطءٍ مميت :
“ بلمسةٍ واحدة فقط ، كل هذه الأدلة — ضدك وضد
عائلتك — ستُرسل فورًا إلى السلطات القضائية والإعلام في تايلند ”
تغيّرت تعابير وجه فان شياو :
“ حقًا تنوي فعل ذلك ؟”
تردد يو شو لانغ للحظة ، كأن الألم القديم قد انقضّ عليه
من جديد :
“ فان شياو… أنا أردت أن أمنحك كل ما هو أفضل ،
كل ما أقدر عليه ،
كنتُ أراك هدية من السماء ، مواساة عن حياة تعيسة .
جعلتني أظن أنني لستُ وحيدًا بعد اليوم ، أنك الشخص
الذي ربطتني به مشاعر عميقة ، تتجاوز الجسد إلى الروح ...”
غمره اليأس فجأة ، فصرخ بصوت مبحوح من عمق صدره :
“ وأنا صغير كنتُ أغار من الأطفال الذين يأكلون الحلوى ،
وعندما التقيتُ بك، ظننت أنني أخيرًا تذوقتُ طعمها…
لكنني اكتشفت أن الحلوى التي أعطيتني إياها كانت مسمومة !
أتدري ما شعوري عندما سمعتك تُهينني من وراء ظهري ؟
أتدري كيف شعرتُ عندما سمعتك تنادي لو تشن بـ‘تشن تشن’؟
وعندما حاصرتني على السطح حتى فقدتُ الأمل ، هل تعلم
ما الذي دار في ذهني ؟!
كنتُ أفكر… هل لو قفزتُ من هناك ، سأنجو أخيرًا من هذا
الشيطان ؟!”
انسابت الدموع على خديه ، فمسحها بكتفه وهو يهمس :
“ منذ كنتُ في الرابعة ، لم أبكِي أبداً ،،
لأنني تعلمت أن الدموع بلا جدوى ، لا تحلّ شيئ
لكن الآن… انكسرتُ تمامًا يا فان شياو
كل ما آمنتُ به طوال هذه السنين يبدو خطأ
لم أعد أعلم إلى أين أذهب…
لقاؤك لم يكن هدية من السماء ، بل عقوبة . عقوبة لي…
ولكنك لم تكتفِي بي، بل جررتَ الآخرين إلى جحيمك أيضًا !”
أضاء ضوء الهاتف الضعيف بينهما ،
فاصلاً جسديهما بنورٍ باهت ،
كأنه حاجز لا يمكن عبوره بين قلبين لم يعد بينهما سوى الخراب
ضغط يو شولانغ بأصابعه على عنق فان شياو بقوة وقال ببرودٍ قاتل:
“ السيد فان أخبرني…
ما طعم أن تكون أنتَ المهدَّد هذه المرة ؟”
ابتسم فان شياو ابتسامة مريرة :
“ ليس شعورًا جيدًا…
هذه الملفات التي في يدك ، أنا من جمعتها بنفسي .
كنتُ أنوي استخدامها لتهديدهم يومًا ما
لكن يبدو أنني أنا من وقع ضحية لها أولًا ...”
رفع عينيه ونظر إلى شولانغ نظرة ثابتة :
“ ومع ذلك… نحن بيننا مشاعر يا مدير يو أليس كذلك؟
أنت طيب القلب كيف يمكنك أن تتحمل إرسالي إلى السجن ؟ "
رفع يده بهدوء مريب ، وبدأ يمسح دمعة ما زالت على خد
شولانغ بإبهامه ، كأنّه يلامس شيئًا مقدّسًا :
“ شولانغ… أنا كنتُ هديتك من القدر ، و أيضًا عقوبتك
لن أسمح لك بالهرب مني ، أبدًا .”
ارتجفت يد شولانغ التي تمسك بالهاتف :
“ فان شياو لا تجبرني على فعل شيء "
أحمرّت عينا فان شياو ، وظهر في نظراته ذاك البريق
المألوف — المزيج من التعلق والجنون:
“ لقد أجبرتك مرات لا حصر لها من قبل ، وفي كل مرة ، انتصرت .
مدير يو … ربما حان الوقت لتقبل مصيرك "
عروق يد يوشولانغ انتفخت ، إبهامه يقترب شيئًا فشيئًا من زر الإرسال
وفي اللحظة نفسها ،
انهالت عليه الصور في ذهنه كأنها مشاهد من فيلم ممزق
— فان شياو وهو يبتسم ، وهو يتدلل ، وهو يواسيه ،
وهو يهدده ، وهو يجنّ من الغيرة ،
الوجه نفسه ، لكن الروح مختلفة ، والألم واحد ،
حبٌّ مسمومٌ لا يُمحى ، وكراهية لا تموت ——
كاد يو شولانغ ينهار
امتدت يد فان شياو الطويلة النحيلة إلى مؤخرة رأسه ،
مرّت أصابعه بخفة على شعره ، داعبه للحظة ،
ثم سحبه نحوه بقوة ،
اقترب منه ، وقبل أن يستوعب يو شو لانغ ما يحدث ،
قبّله —-
همس فان شياو :
“ พระโพธิสัตว์ ข้าจะไถ่บาป เจ้าเป็นอิสระ。”
( بوذا ، سأكفّر عن خطاياي … أنت حرّ الآن )
ومع انطفاء آخر كلمة ، ضغط بيده على إبهام يو شولانغ —
فأُرسلت الرسالة —-
يتبع
تعليقات: (0) إضافة تعليق