Extra39
عنوان الفصل: الصراع من أجل المودة (الجزء الثامن).
عندما فكّر شوي مينغ بتلك الطريقة، عطس تشو وانيْنغ في جبل نانبينغ.
لم يحن الوقت بعد.
تبقّت ساعةٌ واحدة فقط على حلول عيد ميلاده.
لكن تشو لم يكن مدركًا لذلك. هو ومو ران لم يمضيا سوى عامين فقط في جبل نانبينغ. في الحيوات السابقة، على امتداد عشرات آلاف السنين، كانت الحياة بالنسبة له شديدة القسوة. من اعتادوا على المرارة، حين يتذوّقون الحلاوة فجأة، لا يكونون مستقرّين، ولا معتادين عليها.
في عيني شوي مينغ، كان تشو وانيْنغ من أولئك الذين لم يُدلّلوا يومًا. على الأقل في الماضي.
كان الليل قد تأخّر، والمنتصف على الأبواب، لكن مو ران لم يعد بعد.
وقف تشو وانيْنغ عند أطراف غابة الخيزران الأخضر، مرتديًا ثوبًا خفيفًا، يحمل غوتو وينظر في الظلام.
لم يرَ شيئًا.
ارتعشت يداه تحت ندى المساء، فلفّهما، وسعل قليلًا، ثم قطّب حاجبيه. رفع الكلب الصغير رأسه، وربت جانب وجهه بمخالبه، مُصدرًا صوتًا ناعمًا حنونًا.
نظر إليه تشو وانيْنغ وسأله: “هل نعست؟”
“ووف!”
وضعه على الأرض وقال: “عُد إلى الداخل ونَم، سأنتظر قليلًا.”
“ووف!”
تراقصت الفوانيس المضاءة بداخل شرائط من الخيزران المُغطاة بالورق تحت حافة السقف، وكانت ألسنة الشموع تنثر نورها الأصفر الهادئ على وجه تشو وانيْنغ الناعم الملامح، مُضيئةً حاجبيه وعينيه وكتفيه، فبدا أكثر صفاءً ورقة.
ركض غوتو إلى حافة ثوبه وراح ينبح حوله.
“لا تريد أن تعود؟”
“ووف!”
فرفعه مجددًا، ثم قرّب أنف الكلب البارد الرطب من أنفه: “حسنًا، إذن انتظر معي.”
“ووف!”
لكن تشو وانيْنغ لم يكن جيدًا في التواصل مع غوتو، لم يكن بينهما تفاهم مريح. لا يعرف لماذا، لكن مو ران كان دومًا يفهمه بسرعة. أما هو، فبطيء في ذلك.
فكّر للحظة، ثم قال: “أأنت تحاول قولي أن أذهب أنا للنوم؟ ألا أقف هنا؟”
“وووف!”
فرح غوتو وهزّ ذيله وقفز في مكانه بحماس.
“انتظر قليلاً فقط.”
“ووف ووف ووف!”
'لقد انتظرت طويلاً'!
“ألا تريد أن تنام وحدك؟”
“ووف ووف!”
نظر تشو وانيْنغ إليه وهو يهزّ رأسه وذيله، وتذكّر ما قاله مو ران قبل أن يغادر ذلك الصباح: “نم باكرًا، لا تقلق عليّ.”
“الليل لا ينتهي، حين تُصبح الأجنحة صلبة.” تنهد تشو وانيْنغ، وعيناه تملؤهما لمحة خفيفة من الانزعاج. رأى غوتو يتوسل، فأخيرًا التفت إلى الطريق الممتد نحو الجبل، ثم أغلق الباب، وعاد إلى البيت.
لكن النوم لم يكن يسيرًا.
أبقى ضوء المصباح مشتعلًا من أجل مو ران، ثم انكمش على السرير، مغلقًا عينيه، ليغفو ببطء. ورغم هدوء ملامحه المعتادة، فإن جسده، المحمّل بأرواح وذكريات جيلين، لم يكن قادرًا على الاستقرار.
في الأشهر الأولى من تقاعده في جبل نانبينغ، كان يستيقظ كل ليلة تقريبًا.
أحيانًا، يحلم بوجه تاشيان جون الشاحب حين اغتاله شوي مينغ في قاعة ووشان. وجهٌ شبحِيّ، موحش، وسط عاصفة رعدية.
وأحيانًا، يحلم بمو ران ساجدًا خارج جناح تيانين، ودمٌ يتدفّق من صدره، يسأله بصوتٍ متهدّج: “شيزون… هل كفّرت عن ذنوبي؟ هل أصبحت نظيفًا؟”
يحلم بموت قمة الحياة والموت. بالصمت الثقيل للذنب.
وفي الحلم، يقول له: “تشو وانينغ، هذا الموقر يكرهك كثيرًا.”
وفي حلمٍ آخر، في ليلةٍ ثلجية في نانبينغ، كان مو ران يقول له: “وانينغ، سأحبك إلى الأبد.”
لكن بعد أن قالها، بدأ نبضه يخفت… وغاب.
لم يتبقَّ سوى تلك الليلة، الحزن، والفراغ.
ذلك الإحساس لم يفارقه أبدًا. وفي كل مرّة يحلم بها بذلك المشهد، يستيقظ منهكًا، دامع العينين، لا يعرف كم مضى من السنين. ولا يهدأ له بال، إلا حين يتأكد أن الشخص النائم إلى جانبه ما زال يتنفس، ما زال قلبه ينبض.
فقط حينها، يهدأ الألم تدريجيًا.
لكن، حتى في النصف الثاني من الليل، لم يَعُد ينام بعمق.
أحيانًا، كان يفتح عينيه، فقط ليتأمل وجه مو ران النائم، المطمئن، الشاب.
لاحقًا، اكتشف مو ران الأمر.
كان في ذلك اليوم في هيئة تاشيان جون، ذلك الرجل الوحيد الذي تجوّل لسنين طويلة في قصر ووشان الخالي.
وحين رأى وجه تشو وانينغ المضطرب، فهم على الفور.
فلم يقل شيئًا، بل فتح ذراعيه واحتضنه بقوة.
على مرّ السنوات، عبر الجسد والدم، نبض قلبٍ قويّ قد نُقل إلى صدر المحبوب، يطرد عنه كوابيس الأمس.
قبّله على رأسه وهمس له: ”لا بأس. وانينغ، لقد انتهى كل شيء.”
تشو وانيْنغ لم ينطق، قد يكون وجهه ميّتًا، لا يريد إظهار ضعفه.
لكن تاشيان جون أحسَّ ببلل في ثوبه الداخلي… دموع دافئة تسيل من قلبٍ ظلّ صامتًا طويلًا. ليست نارًا، لكنّها جعلت قلبه بأكمله يرتجف، ينبض، يشتعل.
كان يتألّم، ويُحب.
لكنه لم يكن يعرف ما الذي عليه فعله.
كان يملك، يُؤذي، يُعذّب.
أما الآن، فبيدٍ خرقاء، كان يربّت على كتفي تشو وانينغ، على ظهره، ويُلصق شفتيه بجبهته وأذنه… ثم ينزل ليُقبّل شفتيه الباردتين.
“وانينغ… سأحبك إلى الأبد.”
وفي قبلةٍ هادئة، كان يهمس له… وأحسّ برعشةٍ حقيقية في ذلك الجسد الذي لم يُظهر يومًا أي ضعف.
فأخذ بيده… وراح يغرق معه مجددًا في لحن الحنان القديم.
ومنذ ذلك الحين، كل ليلة، في أي هيئةٍ كانت… لا ينام مو ران إلا إلى جوار تشو وانيْنغ.
وفي كل مرّة، قبل أن يغفو، يكرر: “سأحبك إلى الأبد.”
هذا الحلو، صار يمحو المرّ. وصار وعدًا يُحافَظ عليه، لا مجرد كلمات تموت.
طوال عامين، لم يحدث قط أن غادر مو ران وحده ولم يعد قبل الغروب.
كان يعلم أن تشو وانينغ، رغم صمته، لا يحب ليل نانبينغ البارد، ويحتاج رفيقًا.
هذه المرة، فقط، لم يعُد قبل غروب الشمس.
تشو وانيْنغ، بوجهه الهادئ، لم يُعاتب. لكن امتناعه عن السؤال لا يعني أن قلبه لم يتألم.
وهكذا… غلبه النوم، وغرق مجددًا في كابوس.
عاد إلى تلك الليلة في نانبينغ، حين مات مو ران.
في الحلم، حاول إيقاظه مرارًا، لكن جرح تيانين في صدره كان وحشيًا، مرعبًا… لم يستطع سوى التفرّج، والبكاء.
ظلّ يكرر اسمه، وهو يشهق: “مو ران…”
مو ران…
وفي برودة ذلك الحلم، بدا وكأن أحدهم فجأة أمسك بيده… ثم طبع قبلة خفيفة على شفتيه…
“شيزون… لا بأس. لقد انتهى كل شيء.”
… لقد انتهى…
شعر تشو وانيْنغ بجفونه تبلل، وعندما استيقظ، تنهد تنهيدة منخفضة، عاد إليه بعض السلام، أراد أن يعود للنوم.
لكنّه فوجئ بأنه مستند إلى صدر دافئ مألوف.
فزّ، واختفت آثار النعاس فجأة، رفع عينيه المتسعتين، ليصطدم بزوج من العيون البنفسجية المظلمة.
“مو… مو ران…؟”
كان مو ران قد عاد دون أن يشعر، وقد تسلّل إلى الفراش مبللًا بندى الليل، مُستلقيًا إلى جانبه. ولكي لا يُوقظه، لم يحتضنه، بل أمسك يده برفق، ونام قريبًا منه.
رفع حاجبيه عندما استيقظ تشو وانينغ: “هم؟ هل أيقظتك؟”
وكان تشو وانيْنغ ينوي أن يعتذر، لكن تاشيان جون لف ذراعيه حوله فجأة: “بما أنك استيقظت، فدعني أحتضنك جيدًا.”
“انقلع.”
كان تاشيان جون يعلم أن الوقت المتبقي له في هذا اليوم قليل. في الأيام العادية، لا بد أن يتشاجر مع تشو وانيْنغ، لكنه هذه المرة، وبعد أن احتضنه، اقترب من أذنه وهمس مبتسمًا بنبرة عميقة: "انقلع؟ هذا الموقر قد جهّز لك مفاجأة، خائف فقط ألا تُدرك قيمتها إلا بعد فوات الأوان.”
“…”
وجه هذا الرجل يزداد وسامة يومًا بعد يوم.
تشو وانينغ، الذي استيقظ من كابوسه للتو، كان لا يزال ثقيل الجسد، وحين وُضع عليه ذلك الوزن الساخن، ارتفعت حاجباه بالسيف، وعيناه المتألقتان بالرطوبة والحزن لم تزل تحملان آثار الحلم، لكن غضبه ونعاسه طغيا: “ألست تنام ليلًا؟”
“لا أنام.”
زاد غضب تشو وانيْنغ: “وما معنى لا تنام؟”
رفع تاشيان جون ذقنه، وفركه برقة، وعيناه تسرحان من حاجبيه حتى شفتيه المنفرجتين قليلًا.
الرجل بين ذراعيه بدا صارمًا وحادّ الطباع، لكنه على مدار حياتين، كل مرة نظر إليه شعر بنارٍ تتقد داخله، وسعادةٍ سريّة لا يمكن كبحها. لطالما أنكر ذلك قديمًا، لكنه في أعماقه، كان يعرف دومًا أن هذا الشخص وحده قادر على إشعاله بهذه الطريقة.
يريد احتضانه، تقبيله، يريد أن يكون له. يؤلمه أن يُسيء إليه، لكنه يتألّم أكثر إن فعل.
والآن، بعدما رأى أجمل الناس في هذا العالم، يعلم أن كل الجمالات لا تعادل ذرة من وهج وانينغ. يبدو رائعًا وهو غاضب، ويبدو رائعًا وهو صارم، ويبدو رائعًا وهو يشتمه.
ضحك تاشيان جون وقال: “هناك أشياء كثيرة يمكن فعلها في منتصف الليل، ألم يُعلّمك هذا الموقر شيئًا من قبل؟”
تشو وانيْنغ: “………”
رؤيته متوترًا، غاضبًا، وعاجزًا جعلت قلب الإمبراطور الخالد ينبض بشغف. لم يستطع منع نفسه من الانحناء وتقبيله.
“مو ران—!”
“أمزح فقط.” وبعد التقبيل، لامس تاشيان جون طرف أنفه بلطف وقال: “اقترب إنتهاء وقت هذا الموقر ، لذا سأعتبر أنك مدين لي، وسآتي لتحصيل الدَّين بعد ثلاثة أيام.”
“…”
“أما الليلة، فهناك أمر واحد فقط أريد قوله…” توقف للحظة، ثم ابتسم، وبرزت الغمازات على وجنتيه بوضوح، بخلطة من الشقاوة والرقة:
“عيد ميلاد سعيد، وانينغ.”
تجمّد تشو وانيْنغ في مكانه.
وفي تلك اللحظة، دقّ جرس معبد جينغتسي البعيد ببطء، معلنًا رحيل العام القديم وقدوم الجديد.
نهاية العام الحادي عشر بعد المائة والتسعة.
بداية العام الجديد.
كانت عينا مو ران لا تزالان تحملان كبرياء تاشيان جون، لكن ملامحه بدأت تعود إلى نعومة مو-زونغشي، الذي استوعب ببطء ذكريات اليوم السابق التي حملها له القدر. كان في حيرة، لا يعرف تمامًا ما الذي فعله حين كان تحت تأثير شخصية تاشيان جون.
لكنه، ما إن رأى الشخص أمامه، حتى فاض قلبه بالفرح. اقترب من جبين تشو وانيْنغ، وهمس: “وانينغ.”
“هم؟”
“عيد ميلاد سعيد.”
ثم فكّر قليلًا، وقال: “لقد أعددت لك هدية.”
كان يخطّط في الغد لإجراء بعض التعديلات، ثم يقود تشو وانينغ إلى صندوق الأفكار لرؤية ما أعدّه. لكنه لم يتوقع أن يبوح بالأمر الآن، بهذه الطريقة الطبيعية. كان في قلبه الكثير من الحلاوة التي لم يحتمل كتمانها.
رغم أنه عاش حيواتٍ متعددة، وتزوّج مرتين في الحقيقة والخيال، وقضى ثماني سنوات في حياته السابقة، وسنتين في هذه، إلا أنه الآن بدا كصبيٍ خجول يقدّم هدية لأول مرة لمحبوبه. كان متوترًا، وحتى أطراف أصابعه تعرّقت، واهتزّت بخفة.
“أنا… لم أنهِ كل شيء بعد، لكن… هل ترغب أن أريك قليلًا الآن؟”
حينها فقط، تذكّر تشو وانيْنغ أن اليوم عيد ميلاده.
في الحقيقة، لم يكن مو ران قد عاد في النهار لأنه كان منشغلًا بالإعداد للمفاجأة.
وبينما شعر بالخجل، ضحك وامتلأ قلبه بالدفء. مدّ يده، وأمسك وجه مو ران، عاقدًا عينيه بلين.
“كل هذا الوقت… كنت مشغولًا بهذا؟”
ضحك مو ران.
“هل يريد شيزون أن يراها الآن؟”
جلس تشو وانيْنغ، لملم شعره الأسود الطويل، وقال: “حسنًا، ما الذي أعددته؟”
“مفاجأة استثنائية.”
قاد مو ران تشو وانينغ نحو ساحة الدار. كان غوتو نائمًا، وجهه مدفون تحت مخالبه، لم يستيقظ.
غاص مو ران في العشب، عازمًا على إخراج صندوق الأفكار من حيث خبّأه.
غير أن…
صرخةً اخترقت سكون ليل نانبينغ: “النجدة! أين صندوقي؟!!!!”
الكلب واصل نومه بسلام.
لا شيء حدث. رأس الكلب يقول: “لا يمكنك إيقاظ كلبٍ نائم. باهاهاها!”
أغمض مو ران عينيه بقوة، محاولًا تذكّر ما حدث حين كان تاشيان جون. وبعد لحظة، بدأت ذاكرته تعود تدريجيًا…
وضع كيسًا على جيانغ شي. غطّى شوي مينغ بكيس. وأهدى مي هانشوي كيسًا من الخيش…
لقد انتهى كل شيء. لقد… فَسَدَ كل شيء.
قطّب تشو وانيْنغ حاجبيه قليلًا وسأل: “ما بك؟”
أمسك مو ران برأسه وقال: “أشعر أنني قمت بأشياء سخيفة للغاية البارحة…”
راح يفتش أرجاء الدار، حتى وجد صندوق الأفكار في جيبه.
“هل كنت ستُعطيني هذا؟”
“في الأصل… نعم.”
“والآن؟”
الآن… لا أحد يعلم ما بداخله.
ابتلع مو ران ريقه، وأراد أن يترك تشو في الخارج ويفتحه أولًا، لكن بما أن الكلام قد قيل، لم يعد مناسبًا أن يذهب وحده.
فصلّى في قلبه ألا يكون قد خرّب الصندوق البارحة، وشدّ على أسنانه: “لا يمكنني شرح الأمر الآن… دعنا نلقي نظرة.”
دخل مو ران وتشو وانيْنغ إلى صندوق الأفكار، فصُدما بما رأياه.
خاصةً مو ران، الذي كان قد تركه مكانًا بسيطًا. الآن صار مزيّنًا بزخارف متلألئة، ومنظره أشبه بقصرٍ فاخر.
السحب تتطاير، الضباب كثيف، السنابل تتماوج، النجوم متناثرة، الجبال والأنهار البيضاء فُرضت بالألوان بإفراط… باختصار: ليست 'دار المياه الساكنة' بل 'قصر مالك الأرض الفاخر'!
والأسوأ…
خمس رفوف خشبية منتصبة في حقل الزهور. وقد رُبط عليها كل من جيانغ شي، مي هانشوي، شوي مينغ، تانلانغ، والشيخ شوانجي…
كأنهم خمسة فزّاعات أُعدّت لتقديمها كقرابين.
تجمّد تشو وانيْنغ أمام هذا المنظر، وقال بتردد: ”أهذه… هي الهدية التي أعددتها لي؟”
فزع مو ران، نظر إلى وجه تشو وارتبك، قلبه يخفق كطبول الحرب، وصرخ: “شيزون! لا، ليس ما تراه! هذا ليس أنا!!”
وقبل أن ينهي كلامه، قفزت كعكة ناعمة من فوق السقف.
“متنمر الكعك!”
جاءت تلمع بذيلٍ أزرق مشع، تحدّق بعينين كحليّتين لماعتين، مدت يديها نحو تشو وانينغ: “يا إلهي! إله الخشب السماوي!”
لكن، قبل أن تصل إليه، قبض عليها مو ران من تحت إبطيها وهزّها بعنف: “متنمر الكعك! ما الذي حدث هنا؟!!”
“آه؟” لم تفهم الكعكة، أن شخصية مو ران تبدّلت مجددًا، فقالت ببراءة: “ألم تمسك أربعة من أفراد الآيساي من أجل المقايضة؟”
“…”
ارتعشت جبهة مو ران. وبعد صمتٍ طويل، فهم كل شيء.
أغلق عينيه فجأة، وتمنّى لو يستطيع قتل نفسه.
ماذا فعل طوال يوم أمس بحق الجحيم؟!!
تاشيان جون، كان يتنافس مع نفسه!!!
ولم يجد شيئًا يقوله.
أما شوي مينغ، المربوط على الرف الخشبي، فقد كان يصرخ بجنون: “مو ران! أيها الكلب! ما الذي تفعله بحق السماء؟ أنزلني حالًا!!!”
الكعكة لم تهتم، رفّت بعينيها نحو المربوطين الخمسة، وشرحت: “فعلتَ هذا قبل ساعة من الآن. قبضت على خمسة من الآيساي، وخفت أن يُحدِثوا الفوضى، فربطتهم بعد الإمساك.”
مو ران: “…”
شوي مينغ ما زال يصرخ: “شيزون! يا معلّمي! أنقذني!!!”
لوح تشو وانينغ بكُمّه وقال: “انظر ماذا فعلت!”
ثم تقدم فورًا وبدأ بفك قيودهم واحدًا تلو الآخر، من أسر الختم الذي وضعه الإمبراطور.
وبعد أن تم إطلاق سراح الجميع، فرك شوي مينغ معصمه الذي احمرّ من الحبل، وكان غاضبًا ومُرتبكًا للغاية: “مو ران! أنت، أنت، وأنت، ما الذي تفعله بحق الجحيم؟!”
قال تانلانغ، ولم يبدو غاضبًا جدًا: “نعم. لماذا أردت منّا القدوم إلى هذا الصندوق؟” ثم ألقى نظرة على كائن كعكة الأرز، وأضاف، “ما هذا الشيء المصنوع من التوفو؟”
صرخ متنمر الكعك باحتجاجٍ غاضب وقالت: “احترم نفسك، احترم نفسك! أنا كعكة الأربع!! لستُ أربع قطع من التوفو!”
مي هانشوي و شوانجي لم ينبسا ببنت شفة، لكن نظراتهما كانت مليئة بالتساؤل بشأن نوايا تشو وانينغ ومو ران.
كان وجه جيانغ شي ملبّدًا بالكآبة، رتّب أكمامه الفاخرة الدقيقة، مسح التجاعيد واحدًا تلو الآخر، ثم رفع عينيه وقال: “من الأفضل أن تُعطوني تفسيرًا.”
أراد مو ران المرور، فرفع يده وقال وهو يضحك بتوتر: “آه، هذا مجرد سوء تفاهم، آسف…”
“آسف؟” سخر جيانغ شي. “هل كلمة آسف تُعادل المال؟”
“…”
ضيّق عينيه بلون المشمش وقال بفظاظة: “مو-زونغشي، هل تعلم أن لدي صفقة لأناقشها مع جناح الإمبراطور الناري اليوم؟”
“أنا، سأعوض…”
“تسعين مليون ورقة ذهبية، هل ستعوضها؟”
مو ران: “…”
شوي مينغ كان غاضبًا أيضًا. “ألَم تقُل إنك تُحضّر مفاجأة لي؟ ظننت أنها… أنها…” ــ كانت هدية عيد ميلاد لي – ولكن كان من المُحرج جدًا قولها مجددًا، حتى عند استرجاعها.
وأخيرًا قال شوي مينغ بغضب: “ما الذي تفعله بالضبط؟!”
تعرّض مو ران لوابل من الأسئلة من الجميع، وبدأ يشعر بالإرهاق والارتباك، واضطر للاعتذار. لم يكن بينه وبينهم علاقات سيئة أساسًا، لكنهم أُسيئ لهم ودُفعوا للمطالبة بتفسير، مما زاد الموقف غموضًا. ولم يعد مو ران يعرف ماذا يفعل، حتى سمع صوت تشو وانينغ بجانبه يقول: “آسف، يبدو أنني لم أُحسن تغير طباعه.”
ساد الصمت بين الجبال والأنهار في الريف.
وكانت الكعكة وحدها تُصفق بحماس حول تشو وانينغ.
قال مو ران وهو يستدير: “شيزون…”
“سأحاول تعويض التأخير، وأتمنى أن تسامحوني.”
لوّح شوي مينغ بيده وقال: “شيزون أنا لا أقصد… أنا فقط كنت أستغرب…”
ثم استدار نحو جيانغ شي وقال: “هيي أنت والتسعين مليون ورقة ذهبية لا تحاول وضعها على عاتق شيزون. أنا وشيزون لا نملك المال…”
جيانغ شي: “…”
أغنى رجل في العالم بدا كأنه تجاهل كلمات شوي مينغ تمامًا، وحدّق في مو ران لفترة، ثم حول نظره نحو تشو وانينغ مجددًا.
لكن ما إن همّ بقول شيء، حتى وقف مو ران أمام تشو وانينغ على عجل وقال: “يا زعيم جيانغ، سأبذل جهدي لتعويض الأمر. وأطلب منك ألا تُحرج شيزون اليوم، على الأقل، لأنه… لأنه…”
تردد مو ران، وانخفض صوته تدريجيًا، وأخيرًا تمتم: “لأن اليوم… في الواقع… إنه عيد ميلاد شيزون…”
جيانغ شي: “…”
“لم يحصل من قبل على عيد ميلاد لائق، لذلك… خسائرك يا زعيم جيانغ سأُعوضها، وسأذهب بنفسي للاعتذار، وأفعل أي شيء تطلبه.”
وقف الشاب بينه وبين جيانغ شي، وكأنه يتوسل: “فقط أرجوك، يا زعيم جيانغ، سامحنا هذه الليلة؟”
عيد ميلاد تشو وانينغ؟!
لهذا صُدم الجميع الحاضرون. وكان شوي مينغ مصدومًا بشكل خاص، وجهه شاحب كالأشباح، وفتح فمه وأغلقه لعدة لحظات، لكنه لم يستطع قول شيء. لم يكن تشو وانينغ يتوقع من مو ران أن يفصح عن الأمر، فبقي للحظة لا يعرف ماذا يفعل.
أخيرًا، كسر تانلانغ، الذي لم يكن على وفاق دائم مع تشو وانينغ، الصمت. ضمّ يديه إلى صدره وقال: “يوهينغ، هل أرسلت تلاميذك لخطفنا جميعًا من أجل عيد ميلادك؟”
“لا، لا!” شرح متنمر الكعك، مشيرًا بمخلبها الصغير نحو مو ران. “هو من أمسك بكم، لأنكم أربعة من فئة الإيساي ويمكن استبدالكم بأدوات رائعة لتزيين مساكن الجبال الريفية!”
صُدم شوي مينغ وقال: “أخذنا كأدوات تبادل؟”
لامس مي هانشوي ذقنه وأجاب: “لا عجب أن كل مرة يدخل فيها أحد، يصبح التأثير أقوى. كان هذا السبب إذًا.”
فقط جيانغ شي كان مذهولًا، غضب ولوّح بكمّه: “هذا حب مريض حقًا!” ثم نظر إلى مو ران مجددًا، وأصدر تشخيصًا بلا تردد: “مو-زونغشي، حالتك ميؤوس منها على الأرجح!”
ضحك مو ران وذهب ليمسك بيد تشو وانينغ. “حقًا لا علاج لها.”
لم يتمالك جيانغ شي نفسه. استدار وأمسك بيده، وبقي صامتًا للحظة. ثم لمح شوي مينغ يحدّق في تشو وانينغ، وكأنه يشعر بالحرج لأنه كتلميذ لم يعرف عيد ميلاد معلمه، وكان يلوم نفسه على عدم تقديم تهنئة له.
شعر جيانغ شي، بالضيق من شوي مينغ، لكنه لم يهاجمه، بل أمسك به لحظة وصمت، ثم قال أخيرًا: “حسنًا. لكن التسعين مليون ورقة ذهبية…”
مو ران: “؟؟؟”
شيوي مينغ: “؟؟؟”
“لا داعي لدفعها. لا تكفي حتى لتلميع الأحذية.”
مي هانشوي: “…”
تشو وانينغ: “…”
شوي مينغ: كم هو متّسخ حذاؤك بحق السماء؟
استدار جيانغ شي، وبدا وكأن شرارة من الكهرباء اشتعلت في عينيه. سخر وقال: “لمّا لا تتكلم؟ لا أحد يعاملك كالأبكم.”
“أنت —!”
وسط هذه الضوضاء، تم توضيح قصة هذه المهزلة العبثية بأكملها، وتبيّن للجميع في النهاية أن اليوم هو عيد ميلاد تشو وانينغ. وعلى الرغم من أنهم قالوا في النهاية إنهم لن يُفشوا الخبر، ولن يُخبروا أحدًا متى عيد ميلاد يوهينغ، إلا أنهم جميعًا بقوا للاحتفال، بما أنهم اجتمعوا على كل حال.
وبحسب ما قال شوانجي، فقد كان هذا قدَرًا.
عندما رأى متنمر الكعك الناس في جو منسجم، شعر بأنه أكمل وعده في قرية كعكة الأرز، فاقترب بسعادة وأراد الانضمام إلى الاحتفال. لكن شوي مينغ استدار وحدّق فيه.
“مو ران، هل هذا هو الوحش الصغير الذي قلت إنك أمسكت به في التلة الخلفية؟”
ضحك مو ران وقال: “نعم.”
أمسك شوي مينغ ذقنه وحدّق فيه بدقة: “إنه مصنوع حقًا من كعكة السكر بالعود العطري.”
“أنا، أنا، وأنا، أجمل أطفال قريتنا!” لوّح الخباز بذيله المضيء بالأزرق.
“صدفةً، أنا أجمل طفل في عالم الزراعة السفلي.”
متنمر الكعك: "فلنكن أصدقاء إذن."
شوي مينغ: "إذًا سأطبخك وآكلك."
تكلّم الرجل والمخلوق معًا، فتجمد متنمر الكعك، وتراجع بخطوتين، ثم استدار وركض: “شوي مينغ ليس إنسانًا! النجدة! مزارع يأكل الوحوش!! أوووهه آه آه!!”
انفجر شوي مينغ ضاحكًا، وأخيرًا انتقم لنفسه بعد أن أُختطف به وتُرك كفزاعة.
في هذه الليلة الهادئة، اجتمع العديد من الأصدقاء القدامى داخل الصندوق. من حيث القرب، لم يكن جميعهم مقربين من تشو وانينغ، لكن كما قال شوانجي، ربما يكون هذا قَدَرًا.
وبما أنهم اجتمعوا، ولم يكن أحد مستاءً من هذه الضوضاء، قرروا أن يقضوا الليل معًا في مسكن الجبل السعيد، أطلقوا الألعاب النارية، وجلسوا حول مائدة في جو من البهجة ليتناولوا الشراب بعد منتصف الليل.
بركة الذهب مليئة بالأسماك، رائحة الأرز تزيح الدخان المتأخر، والدخن يُغسل كاللؤلؤ، ويُغلى في قِدر. رائحة الوجبة الحلوة تناثرت بين التلال. نزل مو ران إلى المطبخ، وكانت المقلاة ساخنة، وصوت القلي يملأ الأرجاء. اشتعلت النار تحت الموقد عند تقليب المقلاة، وانعكس ضوءها على وجهه المضيء.
وحين التفت، رأى شوي مينغ وشوانجي يتحدثان في الخارج عند الغروب. وكان شوانجي وتانلانغ يساعدان في قطف فاكهة طازجة. وكان جيانغ شي يتمشى في الحقل بانتظار العشاء. أما مي هانشوي، فكان يلاعب وحشًا يعزف على آلة موسيقية بين الأزهار ويُعلّمه لحن كونلون.
تحسن مزاج مو ران.
رغم أنه كان يرغب في احتكار كل شيء في تشو وانينغ، إلا أن معلمه كان رائعًا للغاية، لدرجة أنه أراد أن يُحقق له مزيدًا من الأمنيات، وأن يمنحه رفقةً قليلة تسنده. وخطأه بالأمس في حساب الين واليانغ حقق تلك الأمنية عن غير قصد.
فكّر في الأشياء التي وُضِعت في الصندوق، ماء خوخ متدفق، ثعبان نهر سمين، وأصابع مو ران الرشيقة كانت تُقطّع البراعم البيضاء الطرية الممتلئة على الطاولة إلى شرائح دقيقة، ثم تُسلق مع السرخس في مرق ساخن، وتُحضّر الأسماك والجمبري الطازج بصبر. وخلف ستارة الخيزران، دخل تشو وانينغ.
“شيزون، انتظر قليلًا، الطعام سيجهز قريبًا.”
“لا داعي للعجلة. سأُحضر لهم بعض الفواكه إلى الفناء.”
ابتسم مو ران وقال: “حسنًا.”
توجه تشو وانينغ إلى زاوية المطبخ ليلتقط سلة خيزران صغيرة مملوءة بالفواكه الطازجة والحلوة. وحين وصل إلى هناك، فوجئ بوجود جرة خزفية مختومة، وقد كُتب عليها بخط غير متكلف: “عيد ميلاد سعيد”.
مدّ يده ليلتقطها وتفحّص الخط، الذي بدا بوضوح أنه كُتب في ظل شخصية تاشيان جون.
فتح تشو وانينغ الجرة الخزفية المختومة، ولم يتمكن من معرفة ما بداخلها، فسأل بدهشة: “ما هذا…؟”
اقترب مو ران ونظر، ثم قال “آه” وضحك: “إدامة أوزة بأزهار الكمثرى بلون الكارمين، هل نجحت فعلاً؟”
“ما هذا؟”
“إنه طبق عملت على تطويره تحت شخصية أخرى. يستغرق صنعه وقتًا طويلًا. أولًا، يجب تتبيل لحم الأوز بالملح، ثم لفّه بأوراق اللوتس وتبخيره في القدر، ثم يُبرّد بماء البئر البارد. وبعد الانتهاء من التبريد، يُختم في الجرة ويُخمّر بأزهار الكمثرى. يُقال إن اللحم عند إخراجه من الجرة، يكون مشبعًا برائحة النبيذ، باردًا ومنعشًا، كأنك تسكر بهدوء”.
ثم نظر إلى لحم الأوز الغني والدسم الموضوع على لوح التقطيع، وأشار بأصابعه إلى صدر الأوز الممتلئ، وقام بتقطيعه، فبان اللحم بلون الكارمين، مملحًا ومخمّرًا بأزهار الكمثرى البيضاء، يبدو طريًا وممتلئًا بالعصارة.
فكر مو ران قليلًا وقال لتشو وانينغ: “شيزون انظر في خزانة الصلصات مرة أخرى، يجب أن تكون هناك جرة صلصة أخرى”.
ذهب تشو وانينغ وعثر على جرة مصقولة بطلاء أصفر وعليها ختم. وقد كُتبت عليها خمس كلمات بخط بسيط وغير متكلف: 'مكانك محفوظ لبقية حياتي'.
هزّ تشو وانينغ رأسه، لكنه شعر براحة لا متناهية ولطافة تغمر قلبه.
ناول الجرة إلى مو ران، وشاهده وهو يغرف منها صلصة التخليل التي أعدّها بالأمس بمغرفة خيزران صغيرة وتحت شخصية تاشيان جون. ثم سكبها بعناية على لحم الأوز المغلف. تغلغلت الصلصة داخل نسيج اللحم، وتصاعدت منها رائحة فريدة وقوية بتفاعلها مع رائحة النبيذ.
سأل تشو وانينغ: “كيف خطرت لك فكرة هذا الطبق؟”
“أنت لا تتحمل حرارة الصيف. ذات مرة لم تأكل سوى بضع لقمات مما طهيت… هل تذكر؟”
قال هذا، فتذكّر تشو وانينغ أنه في وقت ليس ببعيد، كان تاشيان جون قد ربت على رأسه وطهى له مائدة مليئة بالأطعمة الشهية، لكنه بسبب الحرارة شعر بالتعب ولم يأكل الكثير. وعلى الرغم من أن تاشيان جون لم يقل شيئًا في النهاية، إلا أن ملامحه بدت خائبة في ذلك اليوم.
“شعرت أن من المحزن ألا أستطيع حتى العناية بذوق من أحب.” ابتسم مو ران واستدار، ورفع أكمامه حتى المرفقين. “ففكرت بالأمر ليل نهار، بل وسرقت معلمًا من مطعم في الخارج، وأخيرًا ابتكرت هذا الطبق.”
نظر إلى لفة الأوز المخمرة بأزهار الكمثرى بلون الكارمين، وقد بدا عليه شيء من التوتر والرهبة، كما لو كان يهدي كنزًا، وسأل بخفة: “هل سيعجب وانينغ؟”
ظل تشو وانينغ صامتًا للحظة، ثم ضحك.
جمع الورقتين اللتين تركهما مو ران بالأمس، وحمل طبق الأوز بلونه الصافي، ولحمه الطازج، وصلصته الكثيفة، وتوجّه إلى صالة المطبخ. وقبل أن يقدّم الأطباق، التفت إلى الشاب الوسيم الواقف عند الطاولة وقال: “شكرًا لك، مو ران.”
شكرًا لك على حياتك السابقة، على شخصيتك، وعلى روحك. شكرًا لأنك هنا.
شكرًا لأنك منحتني أفضل عيد ميلاد في حياتي.
كنت أملك معلمًا ذات يوم، لكن الاحتفال حينها لم يكن صادقًا. وكنت تملك زوجة، لكن الأيام كانت مريرة لدرجة أنك لم تكن تحصل حتى على وجبة مشبعة.
أما الآن، وقد انتهى كل ذلك، فسأتذكّر دومًا اليوم الذي وُلدتَ فيه، اليوم الذي كنتُ فيه لا أزال في المعبد، لا أعرف شيئًا عن العالم، ولا عن وجود من سيرافقني مدى الحياة.
لكن في كل عام بعد هذا، سأكون معك.
من الآن فصاعدًا، برفقتك.
لم تكن الوليمة فاخرة، لكن مهارة مو ران في الطهي كانت منقطعة النظير. كان بارعًا في الطبخ، وهذه المائدة خُصصت لمأدبة عيد ميلاد تشو وانينغ، فكانت لذيذة وفريدة. حتى جيانغ شي، الذي اعتاد على أشهى أطعمة الجبال والبحار، فتح عينيه اللوزيتين قليلًا ونظر بدهشة خفيفة عبر طاولة الشراب.
ويبدو أن جيانغ شي أراد أن يسأل مو ران إن كان مستعدًا للعودة للطهي معه غيويي، مقابل راتب مخيف.
لكنه كان ذكيًا. نظر إلى تشو وانينغ وبلع دعوته، ثم شعر بشيء من الغثيان، وفكّر أنه ينبغي عليه في هذه الحياة أن يطوّر دواءً يقطع جذور العلاقات البشرية تمامًا.
من المقيت فعلًا الحديث عن الحب. يكفي أن تنظر إلى مو ران لتدرك أن الطهاة الجيدين تعرقلهم العواطف.
تنهّد وقال في نفسه: 'دعك من هذا، كل المزيد من اللحم، فلن تحظى بفرصة أخرى لاحقًا.'
خفض جيانغ شي عينيه بصمت، ومدّ عيدانه برشاقة وسرعة.
في أثناء الوليمة، لمح شوي مينغ فجأة ظلًا أبيض صغيرًا يومض في الحقول. ظن أنه يتوهّم، ففرك عينيه ونظر عن كثب، ثم شهق بصوت منخفض: “وحش كعك الأرز!”
كانت تركض بسرعة، تراقب البشر وسط الأعشاب والحقول والمرتفعات والصخور، تمارس مراقبتها الممتعة، لكنها لم تكن تودّ أن تُرى ملامحها، واكتفت بهز أضوائها الزرقاء الصغيرة على ذيولها وهي تُصدر صوتًا خافتًا. وحده الصغير الأجمل بينها، الرابع، وقف على شجرة لا يمكن لشوي مينغ أن يمسك بها بسهولة، وترجم الكلمات الغريبة المتبادلة بين الأعشاب إلى لغة مفهومة.
رغم أن لغته كانت سيئة للغاية.
“سيدي، الرابع فرح يومي!”
حدّق شوي مينغ به: “عيد ميلاد؟”
“هل تريد هدية؟ أنا بارع في لغة البشر! كلماتي كثيرة لكنها صحيحة، ومعياريّة جدًّا!”
ضحك مي هانشوي وأمسك بشوي مينغ، الذي كان يصرخ أيضًا باتجاه كعكة الأرز: “أنت لا تفهم، من الصعب حقًا التدرّب على الماندرين، لا تضحك عليه. إنه كعك أرز لطيف.”
نظر شوي مينغ إليه مجددًا وقال: “إن كنت تود قول شيء، فلا تشدّني!”
وسط هذا الصخب، أشعلت أرواح كعكات الأرز على التل المقابل ألعابًا نارية تعود لقبيلة الشياطين. وانفجرت الألعاب النارية المتألقة في الليل، وتفتّحت الزهور الملونة تحت السماء المرصعة بالنجوم، وانتشرت على الجبال كلها.
رأى شوانجي ذلك وشعر أن الأجواء مليئة بالدفئ، فرفع كأسه وضحك وقال لتشو وانينغ: “يوهينغ، عيد ميلاد سعيد.”
لم يكن تشو وانينغ معتادًا على مثل هذا الاحتفال، ولم يعرف كيف يرد، فتجمد قليلًا ثم أجاب على نحو مفاجئ: “وأنت كذلك.”
حدّق فيه شوانجي، اتسعت عيناه، أراد أن يضحك لكنه تردّد.
“عيد ميلاد سعيد.” تمتم تانلانغ.
“شكرًا جزيلًا.”
أراد مي هانشوي أن يقدم تهنئته، لكن شوي مينغ جذبه إلى الوراء واندفع قائلًا: “أنا أولًا! أنا أولًا!” شيزون! أتمنى لك حياة سعيدة، وسلامًا، وفرحًا دائمًا، وتعال لرؤيتي في قمة سيشنغ!”
“بطبيعة الحال، كنت سأحضر. لقد اشتقتُ لعيد ميلادك منذ زمن طويل. وقد أعدّ مو ران من أجلك…"
لكن قبل أن تُنطق كلمة 'هدية'، قاطعه سعال مو ران.
قال تشو وانينغ: “لم يُحضّر شيء.”
في الحقيقة، ربّما لا يكذب سيد العقل، لذا من الأفضل ألّا يُقال المزيد.
انحنى جيانغ شي أيضًا بخفة وقال: “سيد تشو، خلود مبارك، تهانينا.”
أما شوي مينغ فعبس وهو يعقد ذراعيه وقال: “أي تهنئة هذه؟ ادفع مالاً على الأقل.”
قال الجميع عبارات التهنئة، وشعر تشو وانينغ بالإحراج؛ لم يعتد على… لا، ينبغي القول إنه لا يعرف كيف يواجه مثل هذه التبريكات.
فهو لم يتلقّ مثلها من قبل.
وفي هذه اللحظة، أمسك مو ران بهدوء بيده المتعرّقة تحت الطاولة، تلك اليد التي بللها التوتر قليلًا. ضحك مو ران في قلبه، كما توقّع، بدا معلمه هادئًا وثابتًا ظاهريًا، لكن أطراف أصابعه كانت ترتجف بخفة.
أحكم مو ران قبضته على يد تشو وانينغ، شبك أصابعه بها، ونقل إليه عبر هذه اللمسة رقّة ودفئًا ساعداه على تهدئة ارتباكه تدريجيًا.
نظر مو ران إليه، في مهبّ الريح وموجات القمح، تحت سماء الليل المتلألئة، وسط المطر المتساقط وألعاب نارية باهرة، وقال بجدية:
“استرخِ.”
“…”
انفجر مو ران ضاحكًا، وعيناه الأرجوانيتان الداكنتان امتلأتا بمشاعر عمرين من الحب.
في هذا الوقت، وسط النجوم المتلألئة والأنهار السماوية.
“أتمنى لك… عيد ميلاد سعيد، وخيرًا يدوم ما بقي من حياتك.”
—
على مدى ثلاثين عامًا، تشابك العالَمان.
وسط ألق شجرة الشرارة وزهور الفضة، كانت عينا مو ران تتلألآن بالرطوبة، ووجهه يشعّ بإخلاص مو-زونغشي، وجنون تاشيان جون، وحنان وخضوع ذلك الشاب الذي وقف أمام البرج في بدايتهما.
سارا معًا عبر حياتين، وأخيرًا وصلا إلى هذا البيت الخيالي المثالي، عند مياه الجنوب الهادئة. حيث أصوات التشان في نانبينغ، وأجراس المعبد في المساء، وعمران يلتقيان. اجتازا النكبات، لكن مصيرهما ما زال متشابكًا بعمق، لا ينفصلان.
كلاهما، في النهاية، بلغا السكينة.
في ذلك العالم، ندم لأنه أدرك متأخرًا أن تشو وانينغ كان سبب إستمراره بالعيش، وأن البقاء معه سيمنحه حياة هانئة لما تبقى من عمر.
تلك العبارة: 'عيد ميلاد سعيد، وحياة هانئة'، سيبقى مو ران يهمس بها في أذن تشو وانينغ طوال حياته.
حتى حين تغمرهما الثلوج والصقيع.
سيحفظ دفئه، سيحفظه، وكذلك سيحفظ تشو وانينغ.
قد لا يكونان أفضل من في العالم، ولا الأجمل، ولا الأغنى، ولا الأعظم، ولا الأوسع صدرًا، لكن بالنسبة لمو ران، لا يُضاهي أحدٌ تشو وانينغ.
وينطبق الأمر ذاته على تشو وانينغ. بغض النظر عن أي شظية من مو ران، وأي شخصية أو حياة عاشها، لا داعي للجدال. تلك الأرواح كلها خاضت صراعات معه على مدار عمرين. إنهما العشاقان المجروحين والممزقين الذين أرادا حمايته.
سيحبه دائمًا بعمق، ويُنيره، ويغمره بالحب والدلال.
مدى الحياة.
لقد منحه كلّ ما يملك، وسيمنحه دومًا كلّ ما يملك.——
أحبك.
..
النهاية. 🩷✨
تعليقات: (0) إضافة تعليق