القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر الاخبار

Extra3 ، 4 | رواية المنصة الذهبية

 Extra3 ، 4 | رواية المنصة الذهبية 


أحداث هالفصلين بكون موازي.


【صفر】


كان البؤس يحيط به من كل اتجاه. ضوء دموي يصبغ السماء اللامتناهية بلون أحمر على نصف سورها. الريح تعبث بالعشب فتثنيه، وجثث السهام المكسورة مبعثرة في كل مكان. وسط عاصفة تعبق برائحة الدم، عبر بخفة السهول الواسعة خارج السور، حتى وصل إلى جانب ذلك الرجل.


كان هناك سهم في صدر الآخر بعمق، كان ذلك رمح سهم خارق للدروع، وقد انغرس رأسه عميقًا في قلبه، فيما صبغ الدم الطازج طوق درعه الأبيض الناصع باللون القرمزي. لم يبقَ سوى حركة طفيفة لهبوط وارتفاع صدره، مما دل بوضوح على أن حياته توشك على الانطفاء.


كان وجهه مخفيًا تحت الخوذة واللطخات الدموية. وبسبب تجاوزه الأربعين من عمره، ولبقائه في الجبهة طوال العام، صار وجهه مهترئًا من هبوب الرياح، وقد خضب الشيب صدغيه كبريق النجوم. ومع ذلك، لا تزال ملامحه الحادة والعميقة تحتفظ بآثار وسامته في شبابه.


جثا إلى جانبه، وهمَّ بأن يمد يده ليمسح عن وجهه تلك البقع، لكن يده مرت كهواء خفيف، اخترقت جسده بسهولة – وعندها فقط تذكّر أنه لم يعد من أهل هذه الدنيا، بل روح متوفاة منذ زمن لا يعلمه أحد.


الرجل الجريح الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، بدا وكأنه شعر بشيء من ذلك، ففتح عينيه قليلاً. انعكس في حدقتيه ذلك الظل الشفاف، تحت سماء موشحة بلون الدم.


وحين رآه، بدا كأنه صُدم، كمن لا يصدق عينيه، لكنه سرعان ما هدأ، بل وارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة يمكن وصفها بالودودة. تمتم قائلاً: “لقد استطعت أخيرًا أن أراك مجددًا…”


“هل يمكنك…” بعينين مرتخيتين حدق في ذلك الرجل الشبيه بالشبح، خرج صوته همسًا كأنما يتمتم: "هل يمكنك التعرف عليّ؟”


لم يعرف الآخر ما يمكنه قوله، فرفع يده ليُلامس جانب وجهه بلطف.


كان خيالاً واضحًا، ومع ذلك، كأن نسيمًا جليديًا مرّ بجانب صدغه. رفع الرجل يده المتعبة بصعوبة، محاولًا عبثًا أن يُمسك بذلك الخيال المعلّق في الهواء، وكأنه يتمسّك بآخر خيط من خياله قبل أن يفارق الحياة. “فراق دام سبع سنوات… أعتذر يا تشونغ يان، لأنني جعلتك تنتظر طويلًا.”


هزّ الشبح رأسه، وفتح فمه ليتكلم، لكن لم يخرج منه صوت. اكتفى بتشكيل الكلمات: “لا تمت.”


ابتسم الرجل، رغم أن الضوء في عينيه كان يخبو تدريجيًا.

“لم أستطع حمايتك، ولا تمكنت من حماية شمال شين جيانغ. عشت حياةً هائمة، والموت لا يعيبني. وحين نلتقي في الينابيع السفلى، لا تحتقرني لكوني عديم النفع. لن أكون أميرًا بعد الآن، سأكرّس نفسي لحبك فقط… هل توافق؟”


تقدمت سحب داكنة من الأفق البعيد، لتجتاح كل شيء. تساقطت قطرات المطر عبر جسده الشفاف، لتغمر وجه الرجل الآخر. كأنها حفنة من الدموع الجليدية، غسلت بقع الدم وغبار الطريق عن ملامحه.


ثم ارتخت تلك اليد وسقطت من الهواء برفق، لتحط بجانبه.


“لا تمت…” سمع صوته الأجش يخرج من حلقه أخيرًا، “لا تمت، آ-فينغ…” 


【واحد】


“آ-فينغ…”


“هل استيقظ؟” صرخ أحدهم واقفًا إلى جانبه. “نادوا الطبيب بسرعة!”


أُعيد فو تينغ شين إلى عالم الأحياء عبر ألم حاد، ورفع جفنيه بصعوبة. جدران بيضاء ناصعة وأضواء، ورائحة مطهّرات خفيفة، وأصوات متشابكة لأناس يتحدثون بسرعة، كل ذلك اجتاح حواسه الخمس دفعة واحدة. إذ انقلب فجأة من وسط الحلم إلى هذا العالم الصاخب، راوده فورًا رجاء داخلي بأن يُغمى عليه مجددًا هربًا من الضجيج. (فو تينغ شين هو عم فوشين)


رمش بعينيه، وحاول أن يتأقلم مع الإضاءة والمشهد الظاهر أمامه، وبدأ جسده يستعيد الإحساس تدريجيًا. حاول أن يثني سبابته، مسترجعًا السيطرة على أطرافه، وراح يراقب بحذر من حوله من أشخاص وما يحيط به — حدث كل ذلك بشكل طبيعي، كما لو كانت غريزة متأصلة صقلتها التجارب، منقوشة في عظامه.


وفي اللحظة التالية، دخل شاب طويل القامة إلى غرفة المشفى بخطوات واسعة، يتبعه طبيب وممرضة يهرولان خلفه. سمع فو تينغ شين الحركة، فرفع عينيه سريعًا، ليصطدم نظره مباشرة بنظرات الآخر دون أي تمهيد.


ورغم أنه بدا أصغر سنًا، إلا أنه لم يكن هناك مجال للخطأ؛ ذاك الوجه لم يظهر سوى في أحلامه من قبل.


عاد صوت المطر من أحلامه يتردد في أذنيه، والألم واليأس اللذان رافقاه كانا واقعيين إلى حد لا يُحتمل، كالماء المتدفق من سد منهار؛ غمر فو تينغ شين حتى كاد ينسى كيف يتنفس. تقلبت مشاعره بعنف، وبدأت العالم يدور أمام عينيه. على الفور، أطلق جهاز المراقبة المثبت عند رأس السرير صفير إنذار. أما الرجل الذي كان متسمّرًا في مكانه تحت وقع تلك النظرة، فقد ارتد وعيه مع الصوت. دون أن يجد وقتًا للتفكير في وقاحته غير المقصودة، اندفع على عجل نحو السرير. “لماذا…”


لم تكتمل كلماته، إذ رفع فو تينغ شين رأسه فجأة، وجسدع يقطر عرقًا باردًا، وأمسك بيده.


انفصل طرف الإبرة الوريدية، وطارت معها قطعة اللاصق، مخلفة خطًا من الدم، كأن بتلات برقوق حمراء تناثرت على بياض السرير. ومع ذلك، لم يبدُ أن فو تينغ شين شعر بأي ألم، بل أمسك بيده بإحكام، وعروق يده الزرقاء بارزة، والدم يتسلل إلى كُمّ الآخر، بينما ظل يحاول بعناد النهوض من السرير. “آ-فينغ…”


“أمسكوه!” قال الطبيب بعجل. “لا تدعوه يتحرك!”


كان الرجل طويل القامة ونحيل البنية، لكنه قوي البأس. وبمجرد سماعه لأوامر الطبيب، دفع فو تينغ شين للعودة إلى السرير — غير أن حركته لم تكن رقيقة على الإطلاق. وحين اقترب منه، رأى فو تينغ شين من خلال نظارته عينيه المتشبعتين بعروق الدم، ونظراته التي تموج بالغضب، وكأنه يضغط على كتفه بقوة هائلة، حتى بدت قاسية بلا مبرر.


“من تنادي؟” سأل بصوت منخفض، يطحن كلماته بين أسنانه.


صُدم فو تينغشين من سؤاله، وعقد لسانه.




لم يُعرف إن كان السبب هو الغضب أم غيره، لكن صوت الرجل بدا مرتجفًا على نحو طفيف، وأحس فو تينغ شين بشكل لا يمكن تفسيره أنه على وشك البكاء.


“من هو ’آ-فينغ‘؟ هل تدرك أنك كدت تموت، ومع ذلك لا يزال هو يشغل بالك؟!”


【اثنان】


بعد فوضى الانشغال التام، عادت السكينة والهدوء إلى غرفة المشفى.


كان فو تينغ شين مستلقيًا على السرير بشكل مستقيم كالسهم، إبرة المغذي مغروزة في يده، وضمادة مربوطة حول رأسه، وساقه موضوعة في جبيرة من الجص. بدا بائسًا، لكنه أدار رأسه بعناد لينظر إلى الشخص الواقف أمام النافذة وظهره له. “لا تقف هناك وكأنك تعاقب نفسك،” قال متنهّدًا، “هل ما زلت غاضبًا؟ لقد فقدت ذاكرتي بالفعل…”


“أنت…” تصاعد غضب الرجل، لكنه ما إن التفت إليه وحدّق في عينيه المتظاهرتين بالبراءة، حتى خفت حدّته، وتردّد طويلًا قبل أن يتكلم. "لست غاضبًا.”


“هممم. لست غاضبًا،” رد فو تينغ شين. “ألا تتعب من الوقوف؟ اجلس، ارتح قليلاً، اشرب بعض الماء. لا تتصنع الأدب.”


“……”


كان فو تينغ شين قد أُصيب لسوء حظه في انفجار، وأصيب بارتجاج دماغي، وظل فاقدًا للوعي لثلاثة أيام قبل أن يستفيق. وخلال الفحص الطبي قبل قليل، اكتشف الطبيب ظهور خلل في ذاكرته، إذ لم يكن قادرًا على تذكّر ما مضى من أحداث، ولا يتعرف على أصدقائه أو عائلته، بل حتى هويته؛ وهي حالة تُعرف بـ 'فقدان الذاكرة'.


لكن ما كان مختلفًا كليًّا عن سائر المرضى هو أنه ادّعى أنه رأى حلمًا أثناء غيبوبته. في الحلم، كان جنرالًا يُدعى فو تينغ شين، وبعد أن مات في معركة، ظل يتجول لسبع سنوات في سهول ما وراء السور العظيم. ثم اندلعت حرب أخرى في تلك السهول، وخسرت البلاد التي كان ينتمي إليها. وقُتل القائد الأعلى لتلك القوات — أي 'آ-فينغ' الذي نطق باسمه — برمح في صدره، وأثناء احتضاره رأى فو تينغ شين.


“من رأيته في الحلم كان الابن الثالث للإمبراطور، مُنِح لقب ’أمير سو‘؛ لقبه سون، واسم مجاملته لوو. حين كانت والدته حاملًا به، رأت في منامها أن بوذا يعلّق قلادة خرزية حول عنقها، لذا اقتُبس اسمه من تلك الرؤيا. ولجلب البركة، أعطته لقبًا صغيرًا ’آ-فينغ‘. حدّق فو تينغ شين إليه وقال:

“صديقي… ما اسمك الكريم؟”


سون لوو: “……”


“سون لوو. من ’لوو‘ الخاص بالقلادة الخرزية.” سعل سعالًا جافًا، ثم أضاف شيئًا بطريقة بدت وكأنها تحاول التملّص:

“لا أملك لقبًا.”


“إن لم يكن لديك فلا بأس." تذكّر فو تينغ شين كلمات الرجل الأخيرة في الحلم، وارتسمت على وجهه ابتسامة سطحية. “من ملامحك، أتساءل إن كنت تظن أنني قد وضعت لك قبعة خضراء…” (هذي العبارة تقال في م معناه الخيانة الزوجية من قبل الزوجة ذا قال أحدهم ىوُضعت لك قبعة خضراء'، فهو يقول بطريقة مجازية أنك تعرّضت للخيانة أو أُهينت رجولتك بسبب تصرفات شريكتك)


أراد سون لوو بشدّة أن يندفع ويغلق فمه بيده. “فقدت ذاكرتك، فلماذا لا تزال ثرثارًا هكذا؟!”


كان فو تينغ شين يشعر بالملل، فوجد تسليته في مضايقته، لكن بما أنه استيقظ للتو، كانت طاقته ضعيفة. فقد استنزفته بضع كلمات، وكان يكافح لإبقاء جفنيه مفتوحين من شدة النعاس، وصوته يضعف شيئًا فشيئًا. “اذهب واجلس. سأنام قليلاً.”


“همم.” أغلق سون لوو باب الغرفة بهدوء، ثم جلس على كرسي بجوار السرير وسحب البطانية فوقه. “تصبح على خير. سأراقب المحلول من أجلك.”


كان معظم وعي فو تينغ شين قد غاص في ضباب النوم، لكنه فجأة همس بصوت خافت مبهم وسط غفوته:

“لا ترحل…”


وكأن مطرقة ثقيلة ضربت قلبه، حدّق سون لوو في ملامحه الشاحبة النائمة، ولم يجب بشيء سوى بعد وقت طويل من الصمت.


“لن أرحل.” انحنى برأسه وقبّل برفق نقطة الوخز الزرقاء في يد فو تينغ شين اليمنى، وهمس بجديّة: “من الآن فصاعدًا، لن أرحل أبدًا.”


【ثلاثة】


نام فو تينغ شين عدة أيام متواصلة، دون اعتبار لليل أو نهار، وكان سون لوو ملازمًا له طوال تلك الفترة. وعندما يكون مستيقظًا، كان الرجل يشرح له خلفية عائلة فو وتاريخ العلاقة التي جمعتهما، مستغلًا فترات راحته لينجز أعماله. لقد كانت أيامًا كثيرة من المرافقة المتواصلة والاجتهاد بلا كلل، وفو تينغ شين لم يكن غبيًا؛ ففي تلك الحياة التي قضاها داخل الحلم، كان هو و'صاحب السمو الأمير سو' بمثابة زوجين، وإن لم تجمعهما وثيقة رسمية. كان يعرف تمامًا كيف يتصرف سون لوو عندما يُعجب بشخص ما.


رقيق ومراعٍ، يتحمل عبئًا لا يُشكر عليه. لا شك في أنه كان يكنّ له مشاعر خفية. لا مهرب من ذلك.




بحسب ما رواه سون لوو، فإن عائلتي سون وفو كانتا صديقتين قديمتين، الأولى في السياسة والثانية في الجيش. نشآ معًا منذ الصغر، وكانا قريبين لدرجة أنهما يُعدّان مثالًا نموذجيًا لأصدقاء الطفولة، كأنهما يرتديان بنطالًا واحدًا، وتربطهما مودة عميقة منذ الروضة وحتى المرحلة الثانوية. بعد التخرج، اجتاز سون لوو اختبار القبول في أرقى جامعة محلية، بينما تقدّم فو تينغ شين بطلب للالتحاق بالجيش.


كانت عائلة سون كبيرة، تشهد صراعًا داخليًا محتدمًا بين الفروع، ولم يكن سون لوو يخطط للخوض في السياسة، بل سلك طريق التجارة. أسس مشروعه الخاص أثناء دراسته الجامعية، وبعد التخرج، اندمجت شركته مع مجموعة 'تاي هي' التابعة لعمه، ليصبح عضوًا في مجلس إدارتها. أما فو تينغ شين، فبعد ثلاث سنوات من الخدمة العسكرية، تم اختياره خصيصًا للانضمام إلى نوع خاص من الوحدات في المنطقة العسكرية الشمالية الغربية.


وقبل أيام، وقع حادث مفاجئ خطير أثناء مهمة سرية خارج البلاد، وكان فو تينغ شين من بين المصابين في انفجار، فتعرّض لإصابات خطيرة وأُدخل في غيبوبة، ليُنقل على عجل إلى الوطن لتلقي العلاج. وعندما وصل الخبر إلى سون لوو، جنّ جنونه، وترك كل أعماله وسافر على وجه السرعة إلى الشمال الغربي. ولأنه خشي من ضعف مستوى الرعاية هناك، استغل علاقتهما لنقله إلى مستشفى الجيش بالعاصمة. وطوال المدة التي ظل فو تينغ شين غائبًا عن الوعي، بقي هو ملازمًا له هناك.


ما لم يكن في الحسبان، هو أن فو تينغ شين عاد أخيرًا من حافة الموت، لكنه نسيه.


رغم ذلك، لا يمكن القول إنه نسيه تمامًا؛ لقد تعرّف على وجه سون لوو، وناداه باسمه، لكنه لم يكن قطّ يُعرف بلقب 'آ-فينغ'. وردّ فعله عندما كان فو تينغ شين في حالة تيه، ترك في قلبه شعورًا مريرًا؛ فالمكانة التي نالها شخص في الحلم، لم يكن لها أي أثر أو قيمة حقيقية في الواقع.


تلك السنوات الخضراء التي امتلأت بالسذاجة، جرفها الزمن بعيدًا، ولم يتبقَّ سوى شخصين بالغين، منهكين من الحياة، يحدّقان ببعضهما بصمت، من مسافة بعيدة، عبر فراغ شاسع.


【أربعة】


في تلك الليلة بالذات، جاء زائران مميزان إلى المستشفى.


خرج سون لوو لتلقّي مكالمة هاتفية، ثم انتظر عند مدخل المصعد لبعض الوقت. وما إن مرّت لحظات، حتى قفز من المصعد 'حبّة فول' صغيرة لم تكن حتى بطول ساقه، وصاح بمودة: “العم سون!”


“أهلاً.” انحنى سون لوو واحتضنه، وهو يرفعه بين ذراعيه ويزن حجمه، وقد ظهرت على وجهه النادر ابتسامة خفيفة.

“لقد أصبحت أكبر وأثقل من السابق.”


ثم نظر إلى الطفل الذي خرج من خلفه، والذي لم يتوقع قدومه على الإطلاق. تلاقت نظراتهما، فحيّاه الطفل بهدوء:

“العم الثالث.”


وبصفته الأكبر سنًّا، لم يُظهر سون لوو شكوكه، واكتفى بالإيماء له. ثم قال للسائق الذي لحق بهما: “سآخذ الصغيرين إلى الداخل.”


كان السائق من كبار عائلة فو، فطبيعي أنه يعرف سون لوو. ابتسم له بأدب ووقف ينتظر في الممر. أما سون لوو، فحمل أحد الطفلين وأمسك بيد الآخر، ثم عاد إلى غرفة المستشفى.


كان فو تينغشين مستندًا إلى لوح السرير، يدير مكعب روبيك بين يديه بسرعة جعلت حركته تكاد تخلّف أثرًا ضوئيًا. وما إن رأى 'حبّة الفول' التي كان سون لوو يحملها، حتى بدأ الطفل يتلوّى في حضنه طالبًا النزول، وصاح بمرح: “العم الثاني!”


“أوه، من هذا الصغير؟” وضع فو تينغ شين المكعب جانبًا وضحك وهو يمد ذراعيه لاحتضانه. وضعه سون لوو بلطف بجانبه وحذّره: “انتبه، لا تصدم إصاباته.”


“عمي، أبي قال إنك فقدت ذاكرتك.” كانت عينا الصغير السوداوان، الشبيهة بحبات العنب، تحدقان فيه ببراءة ساطعة. “ألا تتذكرني؟”


لم يستطع فو تينغ شين تذكّر الماضي، لكنه كان قد رأى شكل الطفل بعد أن كبر في حلمه. لم يكن يتوقع أن هذا الكائن الصغير يعرف ما هو فقدان الذاكرة.

“كيف لا أتذكرك؟” قال مبتسمًا. “قد أنسى الجميع، لكن ليس شياو شين.”


لكن فو شين لم يبدُ سعيدًا لسماع ذلك. بل على العكس، انخفضت حاجباه وتنهد بحزن واضح.


“ما الأمر يا صغيري؟” سأله فو تينغ شين.


كل ما رآه هو دموع تغلّف عيني فو شين، وهو يستدير نحو الطفل الواقف عند نهاية السرير قائلاً بنبرة مجروحة:

“غاغا عمي فقد ذاكرته فعلاً.”


حدّق فو تينغ شين وسون لوو معًا بذهول.


اقترب الطفل الآخر بسرعة، وأخرج من جيبه منديلاً وقدّمه له ليمسح وجهه، ثم واساه بلطف ووقار: “هو يتذكرك. ألم ينادك شياو شين؟”


لكن فو شين رد بحزن: “لكنه لم يكن يناديني هكذا من قبل… كان دائمًا ما يناديني بـ 'الغبي الصغير‘.”


فو تينغ شين: “……”


اهتزّ سون لوو وهو يغطي فمه، واستدار.


العلاقة بين فو تينغ شين وابن أخيه الأكبر لم تكن وطيدة، لكنه في العام قبل الماضي، حين عاد لزيارة العائلة، لعب معه بشكل متواصل لنصف شهر. وقتها، لم يكن لدى فو شين أي صديق صغير، لذا تعلّق به كثيرًا. وكان فو تينغشين يمازحه كثيرًا ويناديه بالغبي الصغير ولم يكن يتوقع أن يتذكّر هذه الكلمة حتى الآن.


تنهد فو تينغ شين بأسى: “لم أكن مخطئًا بشأنك، فعلاً…”


كان الطفل الآخر أكبر قليلًا من فو شين. وقد بدأت ملامح وسامته المستقبلية تلوح من خلال طيف طفولته، لكنه بدا رقيقًا وصبورًا جدًا مع الغبي الصغير، أمسك بيده الصغيرة ليواسيه. “الغبي الصغير ليس لطيفًا، لكن ’شياو شين‘ اسم جميل.”


فردّ فو شين بصوت خافت: “واسمك جميل أيضًا.”


ابتسم فو تينغ شين بمزيد من المتعة: “ابن من هذا الطفل؟”


نظر سون لوو إلى الصغير نظرة سريعة خفيفة لا تكاد تُلحظ، ثم قال بهدوء: “ابن أخي، اسمه يان شياو هان. يدرس في نفس مدرسة شياو شين الابتدائية.”


بمجرد أن سمع فو تينغ شين لقب 'يان'، أدرك أن خلفه حكاية ما، لكنه لم يُظهر ذلك، ولم يفضح الأمر. ثم قضى بعض الوقت يلاعب الطفلين، ولما رأى أن الوقت تأخر، طلب من سون لوو إرجاعهما.


قاد سون لوو الطفلين بيده ونزل بهما الدرج. وحين عاد إلى الغرفة، وجد فو تينغ شين يحدّق في غروب الشمس خارج النافذة.




كان ما مرّ به من أذى شديد قد جعله أكثر هزالًا، ولم يتبقَّ منه سوى جلد يكسو العظام، ومع ذلك، فقد زادت ملامحه حدّة ونقاءً، كأنها نُحِتت بسكين.


ذلك الوجه لم يعد هو نفسه وجه الشاب الذي يحتفظ به سون لوو في ذاكرته. لقد أصبحا شخصين مختلفين تمامًا.


وبينما كان واقفًا وسط الشفق الذي يغمر كل شيء، شعر لأول مرة شعورًا حقيقيًا صادقًا بما يسمّى 'الندم'.


لا أحد يعلم ما إذا كانت ذكريات فو تينغ شين المفقودة ستعود، لكن الزمن الذي ضاع بسبب لحظة زلة، لن يعود أبدًا.


【خمسة】


كانت آذان فو تينغ شين حادة، فرغم شروده، اكتشف وجود سون لوو بسرعة واستدار نحوه من على السرير. “هل أعدتهم؟ تعال وارتَح قليلاً.”


أغلق سون لوو الباب وجلس بجوار السرير. "ذلك الطفل، يان شياو هان، هو الابن غير الشرعي لأخي الثاني. هوية والدته معقدة ولا يمكن الحديث عنها الآن. توفيت العام الماضي، لذا أخذه أخي إليه، لكنه لم يغيّر لقبه، ويبدو أنه لا ينوي جعله وريثًا لأعمال العائلة مستقبلًا. إن كنت تظن أنه–”


“أظن أنه رائع.” قاطعه فو تينغ شين ببساطة. “فو شين لا يزال صغيرًا، فلا داعي لأن نُحمّله علاقات ومعارف من الآن. ليلعب مع من يشاء، لا تُفكّر بالأمر كثيرًا.”


“همم.”


نظر فو تينغ شين إليه. “أن يكون للمرء صديق طفولة يكبر معه، هذا أمر رائع أيضًا.” تابع قائلاً، “كما ترى، لقد بقيت ممددًا هنا لأيام، وأنت الوحيد الذي ظلّ يتنقل لأجلي. حتى إخوتي بالدم لم يفعلوا ذلك.”


انعكس ضوء خافت على عدسات نظارته، فغطّى عينيه. ومع ذلك، استطاع فو تينغ شين أن يلحظ بوضوح أن سون لوو، لوهلة قصيرة، بدا كأنه يتجنّب النظر إليه.


لا يُعقل…


خفض سون لوو عينيه، متجنبًا التقاء النظرات، وفكّر بصمت: 'نحن لسنا مجرد أصدقاء طفولة، ولم أعتبرك يومًا مجرد 'أخ'.


【ستة】


كان فو تينغ شين قد أصيب بارتجاج في الدماغ بالإضافة إلى إصابة ساقه، ولم يُسمح له بالخروج من المستشفى إلا بعد مكوثه فيه لثلاثة أشهر. ولسوء الحظ، لم تُعالج حالة فقدان الذاكرة التي أصيب بها، وبالتالي لم يعد بإمكانه البقاء ضمن صفوف القوات المسلحة. وقبل مغادرته بقليل، زاره قائده الأعلى، وتحادثا في غرفته طيلة الصباح، ثم طلب من سون لوو ملء استمارة تسريحه من الخدمة، وهكذا خلع بزته العسكرية بشكل نهائي.


أخذه سون لوو إلى شقته الخاصة، والمفاجئ أن أحدًا من عائلة فو، على مختلف مستوياتها، لم يُبدِ دهشة أو اعتراضًا على ذلك. استلقى فو تينغ شين على السرير الكبير النظيف في غرفة الضيوف، يستمع إلى حديث سون لوو. “إصابتك لا تزال بحاجة إلى وقت للتعافي، ومن غير الآمن أن تعيش بمفردك. إن مكثت هنا، سيكون من السهل عليّ الاعتناء بك، فلا تتصنّع البعد.”


أومأ فو تينغ شين برأسه، لكنه في داخله سخر: 'تابع تمثيلك، أريد أن أرى إلى متى يمكنك الاستمرار.'


لقد فقد ذاكرته، لا ذكاءه. كان يلاحظ كل اهتمام ورعاية من سون لوو، وبدأ يشك بنسبة ثمانين أو تسعين بالمئة أنه يكن له مشاعر خاصة. ومع ذلك، في رواية سون لوو، هما مجرد 'أخوين' طيبين وصافيين كذهب عيار 24، دون أي شيء يتعدى ذلك.


كاد فو تينغ شين أن يصدّق أنه يحبه سرًا لكنه لا يجرؤ على الاعتراف، غير أنه عندما تحدث مع قائده العسكري منذ أيام، سمع أن فو تينغ شين، حين كان في الجيش، امتنع لسنوات عن الاتصال بعائلته أو إرسال خطابات لتجنّب المعاملة الخاصة. بدا ذلك غريبًا، فسأله بتعمق، وعلم أنه لم يذكر خلفيته العائلية أبدًا في الوحدة، ولم يتحدّث قط عن 'أخيه المقرب' سون لوو أمام أحد.


ظل يفكر في الأمر، واستغل زيارة أخيه الأكبر فو تينغ تشونغ ليسأله. فقط حينها علم أنه منذ التحاقه بالخدمة، قد قطع علاقته تمامًا مع سون لوو، وكانت العائلة تظن أنهما قد تشاجرا وابتعدا عن بعضهما. (فو تينغ تشونغ ابو فوشين)


ذلك لم يكن منطقيًا — سون لوو يتصرف وكأنه مدين له من حياة سابقة. ولو لم يكن هناك خلاف بينهما، لما تحمل سنوات طويلة دون تواصل مع فو تينغ شين.


لقد انفصلا سبع سنوات دون أي خبر، ومع ذلك، بمجرد أن سمع بإصابته، اندفع سون لوو مباشرة إلى الشمال الغربي. فإلم تكن مشاعرهما أعمق من العادي، فلماذا حصلت بينهما قطيعة كهذه؟ ولو لم يُصب فو تينغ شين، هل كان سون لوو سيظل بعيدًا عنه طيلة فترة خدمته العسكرية؟


ذهب تفكير فو تينغ شين بعيدًا، يؤلّف ويخرج في عقله تسع مسلسلات ميلودرامية دموية، ويسترجع ذكريات الحلم، وقد أمضى وقتًا طويلًا وهو غارق في تخميناته وسط ضباب كثيف. لم يستفق من شروده إلا عندما طرق سون لوو باب الغرفة، يخبره أن وقت الطعام قد حان، فترك أفكاره جانبًا وقال بتكاسل: “ادخل.”


دخل سون لوو الغرفة وهو يرتدي ملابس بسيطة: قميص أبيض وبنطال بدلة. كان طويل القامة ووسيمًا، لا يضع نظاراته حين يكون في المنزل، مما أبرز حدة عينيه التي لم تُخفِ رغم نعومة نظرته نحو فو تينغ شين. “انهض. الجو جميل اليوم، سآخذك لنمشي قليلاً بعد العشاء، حسناً؟”


حين سمعه يتحدث وكأنه يلاطف طفلًا، اشتعلت رغبة المزاح في فو تينغ شين، فمد يده وتذمّر: “لا أستطيع النهوض.”


اقترب سون لوو بخفة وسحب جسده لأعلى. استجاب فو تينغ شين للحركة، فمال بجذعه للأمام، لكنه ما إن خفف سون لوو قبضته، حتى تهالك مرة أخرى وسقط على الوسادة.


كان يتعمّد التصرّف بدلال. أعاده سون لوو للنهوض من جديد، لكنه هذه المرة لم يترك له فرصة للسقوط، بل رفعه بين ذراعيه ولفّ يديه حول ظهره، مانعًا إيّاه من الفرار. وعلى غير المتوقع، تصرف فو تينغ شين كالباندا التي تمسكت أخيرًا بساق مربيها، وألقى بنفسه عليه صارخًا، رافضًا أن يتحرك. عبثا في الغرفة حتى اضطر سون لوو في النهاية إلى حمله على كتفه وإخراجه بالقوة، ولم يضعه إلا عند أعلى السلالم — لأن مدبّرة المنزل كانت في الأسفل.


هي لم تكن على دراية بما كانا يفعلانه بالأعلى، واكتفت بتنبيهه بهدوء أثناء إعداد المائدة: “سيدي، هاتفك رنّ قبل قليل. يبدو أن مكالمة وردتك.”


كان فو تينغ شين جالسًا يشرب الحساء على الطاولة، يختلس النظرات بين الحين والآخر إلى سون لوو الذي كان يتحدث عبر الهاتف أمام نوافذ الجدار، مستخدمًا نبرة هادئة ومختلفة كليًا. وفجأة خطرت في ذهنه فكرة لم يتخيّلها من قبل–


ماذا لو أن سون لوو يظن أنه يعاني من رهاب المثلية؟ فهل كان هذا سبب امتناعه عن التواصل معه، حتى بعد أن فقد ذاكرته، فلم يجرؤ إلا أن يقول له إنهما كانا مجرد صديقين حميمين منذ الطفولة؟


هل من الممكن أنه… كان قد اعترف له بمشاعره قبل أن يفقد ذاكرته؟


وهل ما زال هناك وقت كي يقوم فو تينغ شين بانعطافة كاملة تجاه سون لوو؟


【سبعة】


مع دخول شهر أغسطس، كانت إصابات فو تينغ شين تقترب من الشفاء، لكنه صار يشعر بالملل في المنزل وكأنه على وشك أن ينبت عليه الفِطَر. وبما أنه بدا فعلاً ضجرًا وغير قادر على تذكّر أي شيء، خشي سون لوو أن يمرض من كثرة الانعزال. وتصادف أن مجموعة تاي هي كانت على وشك إقامة مأدبة خيرية في 'الميدان الأحمر'، وكان الرئيس التنفيذي خارج البلاد هذه السنة، لذا أُوكلت مهمة الحضور إلى سون لوو.


فكّر أن فو تينغ شين يعيش في خمول مستمر، فقام بترتيبه بعناية، ثم اصطحبه إلى الحفل ليدخلا سويًا.


كان فو تينغ شين ذا خلفية عسكرية، وحتى بعد فقدانه للذاكرة، لم تتغير عاداته المكتسبة من سنوات الخدمة. وبعد أن ارتدى البدلة الرسمية المصممة خصيصًا، بدت طلّته مهيبة وقوية، حتى أنه بدا أكثر جاذبية من سون لوو نفسه. دخلا الحفل جنبًا إلى جنب، وجذبا أنظار الجميع، وبعد أن مرّا من بينهم، بدأ الضيوف يتجمّعون في زُمَر صغيرة يتهامسون في سرّ عن هوية هذا الرجل.


سون لوو، بصفته عضوًا في مجموعة تاي هي، يقف وراءه أيضًا نفوذ عائلة سون الضخمة. ورغم محاولته الظهور بمظهر منخفض المستوى، كان من المستحيل تفادي أولئك الذين يسعون إلى تسلق السلم الاجتماعي. فطوال الحفل، اعترضه البعض بين الحين والآخر لتبادل المجاملات، فيما كان فو تينغ شين ينتظره بصبر. وحين لاحظ أن سون لوو بدأ يعبس بانزعاج طفيف، مدّ يده ووضعها على كتفه بلطف وهمس له: “لا تنزعج. ماذا تحب أن تأكل؟ يمكنني إحضاره لك.”


بعض أنواع المودّة كانت مختلفة. تحسنت ملامح سون لوو فورًا، واستدار نحوه ليتمتم بشيء، ربما تذمّر من كثرة الأشخاص المزعجين. بدّل فو تينغ شين موقعه معه، ليصير هو على الجانب الخارجي ويحجب عنه أنظار الآخرين بجسده. كانا متقاربين في الطول، وخطا معًا بخطى متقاربة كأن العالم كله اختفى من حولهما. وما إن كانا على وشك الجلوس، حتى سمعا صوتًا ينادي من خلفهما: “المدير سون؟”


التفتا نحو الصوت، فرأيا شابًا طويلًا يقف خلف الكراسي مبتسمًا. كانت وسامته صاخبة بعض الشيء، لكنها لم تُظهِر سخفًا، بل حملت نوعًا من الود الفريد. وكان سون لوو يعرفه جيدًا، فبادر بمصافحته: “الرئيس يي.”


صافحه يي تشينغ على الفور، ثم وجه نظره نحو فو تينغ شين، ورفع حاجبه الطويل وقال: “ذلك المظهر… هل تفكر بدخول مجال الترفيه؟”


فجأة بدا وجه سون لوو وكأن الرماد طُلي عليه. أما فو تينغ شين، فلم يتضايق على الإطلاق، بل مد يده بحيوية لمصافحة يي تشينغ وابتسم قائلًا: “مرحبًا، اسمي فو. جندي سابق، أعمل حاليًا كحارس شخصي للرئيس سون. كنت أطبخ كثيرًا، ولم أؤدِ يومًا في فرقة استعراضية.”


أُصيب يي تشينغ بالدهشة، ثم ابتسم وصافحه بحرارة: “يي تشينغ، من شركة شيهوا للترفيه.”


أوضح سون لوو: “هو يمزح فقط. هذا صديق طفولتي، فو تينغ شين. تعرّض لإصابة قبل فترة، ولا يزال يتعافى منها.”


ثم التفت لفو تينغ شين وقال: “هذا الشاب هو السيد يي من شركة شيهوا، زوجة أخيه، سون تشينغ نينغ، ابنة عمي الكبرى من جهة الأب. نحن أقرباء.”


أومأ فو تينغ شين، وقد بدا أن شبكة علاقات عائلة سون الكبيرة لم تعد تُدهشه. أبدى يي تشينغ بعض الاهتمام بوضعه الصحي، لكن ما إن سمع أن إصابته أدت إلى فقدان ذاكرته، حتى صفع على ظهر الكرسي قائلًا: “يا للصدفة! سأعرّفك لاحقًا على شخص؛ مدير شركة هينغ روي، هوو مينغ جون. سمعت عنه من قبل، أليس كذلك؟ شريكه شيه غوان فقد ذاكرته أيضًا بسبب ارتطام في الطفولة، ويقال إنه استعادها العام الماضي. المدير هوو استشار الكثير من خبراء الأعصاب. إن تحدثتما معه، قد يكون في الأمر فائدة لحالتك.”


لم يرد سون لوو تفويت أي فرصة تتعلق بوضع فو تينغ شين، فصعد إلى المسرح مع بداية المأدبة لإلقاء كلمة قصيرة، ثم غادر إلى البهو مباشرة بعد نزوله. ومن محاسن الصدف، كان شيه غوان قد تلقى دعوة لحضور الليلة، وهوو مينغ جون رافقه أيضًا. وما إن دخل سون لوو، حتى كان بعض من فريق يي تشينغ قد تعرفوا على بعضهم واندلعت بينهم محادثة صاخبة.


ورغم التنافس السابق بين تاي هي وهينغ روي في الأعمال، إلا أن مجال سون لوو لم يتداخل معهما، فلم يكن قد التقى هوو مينغ جون من قبل، بل سمع فقط أنه شخصية باردة ومهابة. لكن حين رآه اليوم، بدا عكس ما تخيّله — ربما لأن الحديث دار عن الحب.


أما شيه غوان، فلم يتكلف في التعامل، وشارك كل ما يذكره مع فو تينغ شين، ثم قال: “يبدو أني استعدت ذاكرتي لأني سقطت في نفس المكان مرة ثانية. قد يبدو الأمر سخيفًا، لكن كثيرًا من الناس استعادوا ذاكرتهم بعد ارتطام آخر. لا تقلق، قد تُحلّ المسألة خلال أيام قليلة.”


أومأ فو تينغ شين، قابضًا على كأس النبيذ بشرود، وفكر قليلًا قبل أن يهمس له: “أنا لا أقلق، القلق كله على سون لوو. الضغط عليه كبير، وسيتحول هذا الموضوع إلى عقدة لديه قريبًا.”


كان شيه غوان ليس ممن تفوته التفاصيل، فالتقط شيئًا غريبًا في كلامه وسأل بتردد: “أنت والسيد سون…؟”


“لسنا في المرحلة التي أنتما فيها أنت والمدير هوو.” أجابه فو تينغ شين.


ابتسم شيه غوان وقد فهم تمامًا، ونهض فو تينغ شين من مكانه، واضعًا الكأس على طاولة البار: “سأذهب إلى دورة المياه.”


للوصول إلى دورة المياه، كان عليه عبور الممر من الجهة الأخرى. مضى ببطء على السجادة الناعمة، يده في جيبه، يفكر في حديثه مع شيه غوان.


قال شيه غوان إنه بعد أن سقط عن المسرح، رأى أحلامًا عن ماضيه أثناء غيبوبته. هذا جعل فو تينغ شين يتذكر حلمه، 'هل كان مجرد حلم حقًا؟'


كان شاردًا بشدة، حتى أنه غسل يديه أمام المغسلة لفترة أطول من اللازم. انفتح باب إحدى الكبائن، وسمع صوت الماء، فاقترب رجل ليمر بجانبه. لمح صورته في المرآة، ثم توقف فجأة وسأله بدهشة: “تينغ شين؟”


استدار فو تينغ شين فورًا، فرأى وجهًا غريبًا شعر أنه يعرفه من قبل. لكنه لم يستطع تذكره إطلاقًا، فلم يجد سوى أن يتظاهر بالدهشة وسأله بأدب: “من أنت؟”


“ألا تتذكرني؟” ومضت خيبة أمل خاطفة في عيني الرجل.

“أنا تشيو مينغ، كنا نجلس على مقعدين متجاورين في الثانوية. هل نسيت؟”


ظهرت في ذاكرة فو تينغ شين ومضة من الذكريات: “انظر لذاكرتي البائسة. آسف، لم أتعرف عليك مباشرة — لقد تغيرت كثيرًا.”


كان تشيو مينغ في الرابعة والعشرين تقريبًا. مظهره كان أنيقًا وناعمًا، لكن عيني فو تينغ شين لاحظت فيه بعض التنافر: أنف مرتفع جدًا، ذقن حاد، جفنان مزدوجان كأنهما مرسومان، ووجهه جامد تمامًا عند الابتسام؛ من الواضح أنه أجرى عمليات تجميل. لذا لم يشك تشيو مينغ في أي شيء، بل تابع مبتسمًا: “أنا لم أكن مميزًا، لكن لم أستطع نسيانك. كنت حلم الجميع، أكثر شاب وسيم في المدرسة. كثير من الزملاء كانوا معجبين بك.”


استشعر فو تينغ شين شيئًا غريبًا، فرفع حاجبه وقال: “حقًا؟ لم ألحظ ذلك.”


“صحيح لأنك كنت دائمًا تلتصق بسون لوو، ولم تتواجد كثيرًا مع بقية الزملاء.” ثم اقترب خطوة، وانتشرت رائحة عطره الخفيف. “هل جئت معه الليلة أيضًا؟ سمعت أنك التحقت بالجيش بعد التخرج، ومع ذلك ظلت علاقتكما مستمرة لسنوات. يبدو أن علاقتكما متينة.”


“هممم.” زاد فو تينغ شين المسافة بينهما دون أن يُلاحظ، وقال بنبرة فاترة: “الناس تسلك دروبًا مختلفة بعد التخرج. والجيش لا يمنحك فرصة للتواصل مع العالم الخارجي. هل دخلت مجال الترفيه الآن؟”


ابتسم تشيو مينغ بشكل غير طبيعي: “تقريبًا.” ثم سأل: “أأنت في إجازة الآن؟”


“لقد تم تسريحي.”


ظهرت الحماسة على وجه تشيو مينغ: “هل تنوي دخول عالم الأعمال؟”


كان يقترب شيئًا فشيئًا. لم يكن فو تينغ شين متأكدًا مما إذا كان يعرفه من قبل أو أن في الأمر نية أخرى، فأجاب بعد لحظة صمت: “أنا عاطل، وأعيش على نفقة شخص آخر.”


“هل لديك شريك؟” صُدم تشيو مينغ. “رجل أم امرأة؟ من يكون؟”


كاد فو تينغشين أن يختنق. “يمكن أن يكون رجلًا؟”


“يمكن.” قالها بابتسامة غامضة. “لتجنّب لقائي في الماضي، لم تلتحق حتى بالجامعة وذهبت مباشرة إلى الجيش. ظننت أنك تحب سون لوو، لكن اتضح أنك مستقيم فعلًا.”


امتلأ رأس فو تينغ شين بضباب كثيف من الحيرة.


ثم — توقفت خطوات شخص أمام باب دورة المياه.


【ثمانية】


لم يتذكر سون لوو كيف انتقل بلا صوت من أمام باب دورة المياه إلى حديقة قاعة الطعام الخارجية، لكن حين استعاد وعيه، كانت نصف السيجارة التي في يده قد احترق.


طوال الأشهر الماضية، كان قد أقلع تمامًا عن التدخين لأن فو تينغ شين كان يعيش في منزله. من كان يظن أن استفزازًا كهذا سيدفعه لأن يُشعل واحدة مجددًا؟


فيما يخص الماضي، لم يكن قد أخبر فو تينغ شين بالحقيقة كاملة.


اكتشف سون لوو ميوله الجنسية في المرحلة المتوسطة، لكنه لم يُخبر أحدًا بذلك، حتى صديقه المقرب فو تينغ شين. ورغم محاولاته المستمرة في كبح نفسه، إلا أن قربهما المستمر، وجاذبية فو تينغ شين الساحرة، جعلت قلبه يتحرك نحوه. بل إنه فعل شيئًا غبيًا مثل التخلص سرًّا من رسالة حب كتبها له أحدهم.


كان فو تينغ شين حرّ الطبع ومستقلًا، ورغم ضعف درجاته، كان حسن المظهر وطيب القلب، واهتمامه بسون لوو كان يفوق حتى علاقات الحبيبة بحبيبها في صفوف الدراسة. لطالما كان هناك من يمازحهما، وكان تشيو مينغ، الذي كان يجلس خلف فو تينغ شين وقتها، دائمًا ما يقول بسخرية:

“الأخ فو يعاملك بلطف شديد، أليس كذلك؟”


كان يجب عليه أن يدرك العلامات في حينها، لكنه لم يكن قد فهم مشاعره بوضوح بعد، ولم يكن راغبًا في الرد على تشيو مينغ. وحين دخلوا الفصل الدراسي الثاني من السنة الأخيرة في الثانوية، أصبح إعجابه به كالنار، يحرق قلبه بلا توقف. كان عقلانيًا وصبورًا مقارنة بزملائه، لكنه لم يستطع كبح مشاعره في النهاية، فكتب مشاعره في رسالة قصيرة جدًا، وأخفاها في دفتر فو تينغ شين.


في مساء اليوم التالي، ذهب كعادته إلى صالة الرياضة بحثًا عن فو تينغ شين بعد انتهاء الدوام. وعندما وصل إلى خارج غرفة تبديل الملابس، وهمّ بطرق الباب، سمع صوت طالب يقول: "هل أنت مصمم على هذا القرار؟ سمعت أن الخدمة العسكرية صعبة للغاية. حتى لو لم تتمكن من دخول جامعة من الدرجة الثانية، فذلك أفضل من الالتحاق بالجيش.”


فردّ فو تينغشين، متوترًا: “ماذا عساي أن أفعل سوى الرحيل؟ إن بقيت، سيواصل ملاحقتي. حتى لو ذهبت إلى كلية مهنية، سيلاحقني هناك أيضًا. لا يمكنني مواجهته، ألا أستطيع حتى أن أهرب؟”


تبع ذلك صوت تمزيق ورقة. ثم ركل فو تينغشين سلة المهملات، وانفجر بغضب نادر، صائحًا: “ما هذا الهراء؟ اللعنة!”


كانت تلك الكلمات كالصاعقة التي دوّت في أذنيه. باقة من الزهور في قلبه لم تُزهر بعد، حتى سُقيت فجأة بعاصفة هوجاء.


بعد ثلاثين ثانية، استدار سون لوو بهدوء وغادر الصالة دون أن ينتظر فو تينغ شين ليغادرا سويًا. عاد إلى المنزل وكأنه فقد روحه، وتكررت في ذهنه عبارة واحدة طوال الطريق:

'ماذا عساي أن أفعل سوى الرحيل؟'


عندها أدرك فجأة أن فو تينغ شين كان الصديق الوحيد الذي منحه كل هذا الاهتمام، إلى درجة أنه كان يراه ملكية خاصة له، لا يقبل أن يشاركه أحد. دخلا نفس الروضة، ونفس المدرسة الابتدائية، والإعدادية — لم تكن درجات فو تينغ شين تؤهله لدخول ثانوية مرموقة، لذا قرر سون لوو أن يقدّم لاختبار أقل درجةً ليظل بجانبه. لكن فو تينغ شين، خشية أن يعطّله، استغل علاقات عائلته لينتقل إلى نفس فصله.


ورغم أن تلك الرغبة في التملك كانت غير صحية، لم يشتكِ سون لوو منها قط، بل أعطى فو تينغ شين اهتمامه دون بخل. وبسبب هذا التساهل، نما في قلبه تعلق غير واقعي.


وقبل اليوم، لم يكن فو تينغ شين قد ذكر قط موضوع التحاقه بالجيش. لم يقل كلمة واحدة.


سأل سون لوو نفسه: 'هل كان بإمكاني أن أفعل كما فعل، وأتخلى عن كل شيء لألتحق به في الكلية المهنية؟'


واتضح أنه، دون أن يشعر، هو من دفع فو تينغ شين إلى ذلك الحد.


لقد كان متعجلًا ليبتعد عنه، ليهرب بعيدًا، ليحلق وحده.


ولم يمضِ وقت طويل حتى اجتاز فو تينغ شين الفحص الطبي. وقبل انضمامه إلى الجيش، جرّ أصدقاءه إلى كشك مفتوح لتناول المشاوي وشرب الخمر، وبقوا يتحدثون حتى وقت متأخر من الليل. في النهاية، لم يبقَ أحد صاحيًا سوى سون لوو، الذي كان على وشك خوض امتحان القبول الجامعي، فظل يراقبه بصمت داخل سيارة الأجرة حتى عاد به إلى البيت.


بعد تخرجهما من الثانوية، غيّر سون لوو أرقام تواصله وعنوانه، وقطع نفسه عن أي خبر يتعلق بفو تينغ شين. تفصل بينهما آلاف الكيلومترات، ولم يتبادلا الرسائل بعدها أبدًا.


ظل مهووسًا به لأكثر من عشر سنوات، ثم تعلّم أخيرًا في تلك الليلة كيف يتخلّى عنه.


ومع ذلك، في داخله، هل مرّ يوم واحد استطاع فيه فعلًا أن ينسى ذلك الرجل؟


ذلك التعلق العميق، واليأس الذي نُقش في عظامه، لم يتآكلا بمرور الزمن، بل ازدادا عمقًا عامًا بعد عام. ولم يلتقِ بعدها بشخص آخر استطاع أن يجذبه مرة أخرى. لقد عامله فو تينغ شين بلطفٍ بالغ، ولذلك كان من المؤلم أن ينتزع ذكراه من قلبه. صار يسترجعها مرارًا وتكرارًا، حتى صارت كل صورة منها متجذّرة في لحمه ودمه، لا يستطيع نسيانها حتى لو أراد.


ثم جاءت صدفة القدر، وأعادته إلى جانبه مجددًا. فقد فو تينغ شين ذاكرته، لكن شخصيته لم تتغير، ونبرة حديثه معه لا تزال مألوفة ومفعمة بالحياة. كانت فرصة لا تعوّض — فقد تحوّلت ذاكرته إلى ورقة بيضاء، وسون لوو، باعتباره من يملك القلم، كان قادرًا على رسم ما يشاء.


لكن سون لوو لم يجرؤ على الحديث عن 'المثلية' أمامه، ولم يجرؤ حتى على إظهار أي أثر طفيف لها — ربما لأن استيقاظه من حلم جميل بضربة عصا كان مؤلمًا جدًا، ولم يشأ أن يمرّ بذلك من جديد.


طوال السنوات الماضية، لم تكن علاقته بزملاء المرحلة الثانوية قوية، ونسي منذ زمن أن شخصية ثانوية كتشيو مينغ كانت قد ظهرت في حياته، لكنه سمع اليوم رواية مختلفة تمامًا، ومباغتة، عن الماضي.


فهل يعقل أن فو تينغ شين قد التحق بالجيش… بسبب تشيو مينغ؟


【تسعة】


في ليلة مأدبة 'الميدان الأحمر'، لاحظ فو تينغ شين أن جسد سون لوو الذي كان قد امتلأ بلدغات البعوض من الحديقة الصغيرة. لم يتحدث أيٌّ منهما عن ما حدث في دورة المياه؛ فسون لوو كان مثقلاً بالهموم، وفو تينغ شين لم يبالِ.


بعد ذلك، بدا كل شيء طبيعيًا، هادئًا بلا اضطراب. غير أن فو تينغ شين بدأ يلاحظ تدريجيًا أن سون لوو يتصرف بغرابة طفيفة.


ولم تكن غرابة من النوع السيئ، بالطبع.


حين أصيب لأول مرة، كان سون لوو دقيقًا في العناية به، لكن دون تجاوز، كما لو أن بينهما خطًا فاصلًا لا يُمكن عبوره. أما الآن، فصار التلامس الجسدي بينهما أكثر قربًا، وصار صبر سون لوو أشبه بفيضٍ من سنوات طويلة صُبَّ عليه دون تحفظ. كان يرافقه في زيارات الأطباء، واستشارات الأدوية، والعلاج الطبيعي، وكأن صدفة البحر التي أغلقت عليه طويلاً فتحت الآن شقًا صغيرًا، ناثرة في الغرفة ضوءًا ناعمًا كحبات اللؤلؤ.


لم يكن فو تينغ شين رجلًا طاهرًا؛ كيف يمكن أن يشعر بتلك المشاعر، وتظل أحاسيسه ساكنة.


وبعد أيام قليلة، اتخذ سون لوو قراره بدعوة أحد زملائهم القدامى من المرحلة الثانوية لتناول الطعام.


لم يكن على تواصل مع زملاء تلك المرحلة منذ زمن، وقد غادر بعضهم البلاد، واستقر آخرون في مناطق بعيدة. وبعد عدة أيام من البحث، تمكن فقط من الوصول إلى أحد أبناء الأثرياء من الجيل الثاني، كانت شركته تقع في حيّ آخر من العاصمة. وبروح مبادرة، قرر سون لوو أن يتحمّل زحمة المرور وقت الظهيرة ليقود بنفسه إلى هناك.


التقاه في فترة إستراحته، وكان قد اشترى الطعام مسبقًا. لم يتناولا وجبةً رسمية، بل اكتفيا بالجلوس في مقهى لاحتساء القهوة والدردشة.


كان الزميل ودودًا معه، ربما بسبب سمعة فو تينغ شين.

“هل فو بخير هذه الأيام؟ لو لم تتواصل معي، لما عرفت أنه دخل المستشفى. سأحاول زيارته قريبًا.”


“تعافى من كل إصاباته تقريبًا،” قال سون لوو، مشيرًا إلى صدغه، "لكن الدم المتخثر هنا لم يُمتص بعد، لذا لا يستطيع تذكّر الأحداث السابقة.”


طمأنه الزميل: “لا تقلق. يحتاج فقط إلى العناية، وقد يتعافى تمامًا مع الوقت.”


أومأ سون لوو، ثم قال: “جئت إليك لأستفسر عن أمر ما. كنت مقرّبًا منه في الماضي؛ هل تعرف لماذا قرر الالتحاق بالجيش فجأة؟”


أجاب الآخر: “أنت كنت الأقرب إليه. نحن كنّا فقط نلعب الكرة ونمرح سويًا، لم يخبرني بشيء عن السبب. هل لديك تلميح؟”


“هل تتذكر تشيو مينغ؟”


“تشيو مينغ؟ من؟” حاول أن يتذكر طويلًا، ثم قال:

“آه، تقصد ذلك الفتى المدلل صاحب الملامح الجميلة، الذي كان يجلس خلفكما. أذكره. أليس والده تشيو يونغ شان، ملك البيع بالتجزئة الذي ظل يمدح نفسه لسنوات؟ لولاه، لما دخل تشيو مينغ مدرستنا. لكن لاحقًا أفلس، وهرب إلى أمريكا وترك عائلته، وكان على قائمة المفلسين العام الماضي. والآن بعد أن ذكرتَ اسمه، أظنني أذكره. أصدقائي قالوا إن تشيو مينغ كان يطارد فو، وبشكل واضح جدًا. كان دائمًا يجلب له الماء، ويتصرف وكأنه مهووس به. ويُقال إنه تسلل لمكتب المعلمين ليطّلع على استمارات امتحانات الجامعة، لأنه أراد التقديم لنفس الكلية. لا أعلم مدى صحة هذا. ألم يخبرك فو بذلك؟”


شدّ سون لوو قبضته على الكوب، وهز رأسه نفيًا.


“عمومًا، فو لم يكن يرى أحدًا سواك، لكنه لم يخبرك بشيء خوفًا من أن يؤثر هذا الأمر التافه على امتحاناتك. لم تكن تعلم، لكن فو رآك وأنت تتخلص سرًا من رسالة الحب التي تلقاها. وبعدها، حين أعطاه شخص آخر شيئًا، أعرض عنه بصمت. لدرجة أن فريق كرة السلة كله كان يمزق رسائل الحب ويأكل الشوكولاتة التي تصله كل يوم، هاهاها…”


“!!!”


“لم يخبرك فعلًا إذًا. كنا نحن الاثنين ندخّن أحيانًا خلف صالة الرياضة، قرب سلة المهملات. لم تكن تراه، لكنه كان يدخن مثل اللص، لا يرتدي معطفًا، ويقف في الريح عشر دقائق بعدها خوفًا من أن تلاحظ.”


تلقى سون لوو تلك الكلمات كضربات موجعة على جرح دفين في قلبه، فبقي مذهولًا لبرهة، بينما واصل زميله الكلام بأسى: “مرت السنوات بسرعة… لحسن الحظ، كنت بجانبه عندما أصيب، واهتممت به. حُب فو لك في الماضي لم يكن عبثًا. جميل أنكما بقيتما إخوة كل هذه السنوات.”


أومأ سون لوو دون وعي. وحين لاحظ الزميل شروده، نقر بجوانب الكأس بملعقة صغيرة فأعاد له وعيه. “الرئيس سون، أتيت من بعيد لتجدني، ما الذي أردت أن تسألني عنه؟ هل فقط رغبت في استرجاع ذكرياتكما؟”


“انتهيت من سؤالي.” قالها سون لوو وهو يسعل بخفة، معتذرًا بإحراج: “آسف لأنني شغلتك طويلًا.”


تأمله الآخر للحظة، وكأنه لم يفهم، ثم ابتسم أخيرًا وقال:

“حسنًا. الآن صارت عندك القصة كاملة.”


افترقا عند باب المقهى. وظل الزميل يراقب سون لوو يقود سيارته مبتعدًا إلى الطريق الرئيسي. أخرج سيجارة من جيبه، غير متأكد ما الذي يجب أن يفكر فيه، وتمتم بسخرية: “كنت أقول منذ زمن إن نظرات سون لوو له لم تكن طبيعية، لكن فو لم يصدقني. لعله فهم الآن.”


【عشرة】


ما حدث بالضبط في تلك المحادثة لا أحد قادر على إعطاء إجابة قاطعة عنه سوى فو تينغ شين، لكن ذلك لم يعد ذا أهمية. الحجر الثقيل من المشاعر العالقة الذي كان جاثمًا على قلبه طيلة هذه السنوات فقد فجأة وزنه وقدرته على القمع، وصار قلبه خفيفًا، كما لو أنه على وشك أن يطفو.


كل ما أراده الآن هو أن يعود إلى المنزل بسرعة ويعانق بحرارة ذلك الذي كان هو بنفسه من دفعه بعيدًا.


قاد سيارته عائدًا إلى الفيلا كما لو أن شيئًا ما كان يطارده. لم يكن فو تينغ شين في غرفة المعيشة، لكنه بعد أن بحث في الطابقين الأعلى والأسفل، وجده أخيرًا في غرفة العرض، مستلقيًا على الأريكة وهو نائم.


الضوء والظل يتقلبان على الشاشة. كان الفيلم قد انتهى، وبدأ صوت أغنية مع الترجمة يتصاعد ببطء: “ذلك الذي في أحلامي، ذو الوجه المألوف، أنت الحنان الذي انتظرته… المودة التي بيننا ستوقظ الحب… في سنوات الفرح والحزن، الحب وحده هو الأسطورة الخالدة، لا تنسى ذلك العهد القديم، القديم دموعك تصبح فراشات زاهية، تملأ السماء برقصها، الحب هو الريح تحت أجنحتنا، قلبان يطيران بحرية…”


كان هذا فيلمًا من أكثر من عشر سنوات. حين شاهداه معًا في السينما، كانت الشوارع والأزقة مغطاة بالأحمر. كانت ذكرى شبابية لأولئك من ذلك العصر؛ كلما بدأ لحن الأغنية الختامية، كان يستطيع ترديدها.


وقف في غرفة العرض ذات الإضاءة الخافتة وقتًا طويلًا، يستمع إلى الأغنية كاملة، حتى هدأت عواطفه الغامرة تدريجيًا. صار يعرف الآن لمَ أعاد الآخر مشاهدة هذا الفيلم. الرجل لم يقلها صراحة، لكن من ذا الذي يود أن يكون روحًا تائهة في عالم آخر؟


تنهد بصمت، ثم التقط البطانية الموضوعة جانبًا وغطى بها فو تينغ شين بعناية.


كانت حركته بالكاد تُسمع، لكن فو تينغ شين قد استيقظ منذ لحظة دخوله وكان يتظاهر بالنوم طوال الوقت. وما إن لاحظ اقترابه، حتى تحرك داخله شيطان صغير، فمد يده فجأة وأمسك بخصر سون لوو، ثم دفع قدمه لتعثّره — فسقط سون لوو في حضنه دون توازن.


كان سون لوو مستندًا إلى مسند الأريكة، وكاد أن يُصاب بسكتة قلبية من الخوف. “توقف! ماذا لو دهستك؟!”


ضحك فو تينغ شين بحرارة لانتصاره، ورفع يده ليصفع بخفة على ظهره. “أنا صلب بما فيه الكفاية. لن أنكسر إن دُهست.”


“مع ذلك، هذا ليس جيدًا، إصابتك بالكاد شُفيت…”


صوته خفت تدريجيًا تحت نظرة فو تينغ شين المبتسمة. حرارة راحة يده اخترقت القميص الرقيق ووسمت جلده، تسللت عبر أعصابه وعضلاته. نصف جسده أصبح مخدرًا من السخونة، لكن قلبه كان يعج بأفكار جميلة، كأن حديقة حيوانات فتحت في صدره، قرده الداخلي وحصانه يركضان بلا توقف.


رفع فو تينغ شين يده فرأى أهدابه الطويلة متدلية، نظارته تستند إلى جسر أنفه المستقيم العالي، تحجب عينيه الجميلتين. لا يدري بأي شعور، لكنه مد يده ونزعها. باتا يسمعان أنفاس بعضهما، وأنوفهما على وشك أن تتلامس، وضعهما صار حميمًا أكثر مما ينبغي.


أطراف أصابعه الجافة مرّت بخفة على زوايا عينيه، وارتعشت أهدابه كفراشات مذعورة. ابتلع فو تينغ شين ريقه، ثم لم يستطع كبح مشاعره أكثر، فمال عليه وقبّله على شفتيه الرقيقتين المنغلقتين.


كانت اللمسة ناعمة جدًا، كريشة تمر برفق، لكنها بالنسبة لسون لوو بدت كأنه احترق بحديد ساخن. قفز مبتعدًا عنه، يتراجع خطوات غير مستقرة، وكاد يسقط على السجادة.


تجمّدت نظرة فو تينغ شين الدافئة.


توقف لبرهة، ثم رمش ببطء. "هل تكرهني؟” سأل بأقصى ما يمكنه من هدوء.


كان سون لوو مصدومًا تمامًا. وبمجرد أن سمع السؤال، هز رأسه دون تفكير أو تردد.


“إذًا، أنت…” بدأ فو تينغ شين.


لكن سون لوو قاطعه، صوته أجش ومرتعش: “ألا تكرهني أنت…؟”


“هاه؟” سأل فو تينغ شين بعدم فهم. “لماذا أكرهك؟”


تلك العينان الجميلتان التي فقدت حمايتها بالنظارات امتلأتا فجأة بالحمرة. وكأنه فتح قلبه بيده وقدمّه له ليدوس عليه، قال بصعوبة: “أنا… مثلي.”


“ومَن قال غير ذلك؟” قال فو تينغ شين بإعجاب صادق بعقليته. “ألست كذلك أنا أيضًا؟ إذًا لماذا تظن أني فعلت هذا؟”


“……”


نهض فو تينغ شين عن الأريكة، راغبًا في مواساته، لكن عندما رأى سون لوو منكّس الرأس، وأكمامه ترتجف وكأنه منهار، شعر أن الأفضل تركه الآن. “اهدأ أولًا، عقلك لا يعمل. سنتحدث مجددًا حين تهدأ وتفكر جيدًا.”


استدار ليغادر، لكن فجأة انقضّ عليه سون لوو من الخلف، وعانقه بقوة كأنه أمسك بلص. “لا ترحل!”


لو كان أي شخص آخر، لكان فو تينغ شين قد أسقطه أرضًا منذ زمن. لكن مع سون لوو، كل ما فعله هو أن شد جسده وتوقف في مكانه. “همم؟ ما الأمر؟”


كان سون لوو أطول منه ببضعة سنتيمترات، وشفتيه على مستوى أذنه. قبلة دافئة مرتعشة هبطت خلف أذنه دون إنذار. “لا أحتاج أن أفكر… أنا أحبك. أحببتك منذ سنوات طويلة…”


قفز قلب فو تينغ شين بجنون، لكن ما قاله فمه كان: “حقًا؟ لكنك قلت أننا صديقان.”


“كنت خائفًا من قول الحقيقة.” دفن سون لوو وجهه في عنقه، وذراعيه ملتفّتان حول خصره. “ظننتك تكره المثليين.”


تنهد فو تينغ شين، وأخرج ذراعه ليضع يده على ظهر يده، ثم استدار برأسه وقال: “هل فعلتُ شيئًا من قبل جعلك تسيء الفهم؟”


لم يقل سون لوو شيئًا، بل أومأ بخفوت.


شعر فو تينغ شين بشيء من الضيق، لكنه لم يستطع إلا أن يلين. بطبعه لم يكن ممن يشرحون أنفسهم، بل يتركون للناس حرية التفسير. لكن سون لوو لم يكن 'أي أحد'، لذا بحث عن الكلمات بعناية. “لا أذكر ما حدث، لكن إن كان الأمر يخصك، فحتى إن لم أفهم، فلن أكرهك أبدًا.”


كأن السيف الطويل المعلّق سقط أخيرًا من الأعلى، لكنه لم يطعن أحدًا، بل هبط صافحًا إلى غمده.


كل تلك الكلمات دخلت من أذن وخرجت من الأخرى عند سون لوو. لم يهتم بما قاله فو تينغ شين؛ مجرد أنه ردّ عليه كان كافيًا. غرق لحظة في ذلك الحنان المفاجئ، وشعر بفيض من الرضا، ثم خطر له فجأة: 'لمَ لم يذهب ويسأله مباشرة منذ البداية؟ لماذا لم أسمع جوابه بأذني؟ حتى لو رفض، لكان ذلك أفضل من سبع سنوات من العذاب والانفصال. لمَ لم أجرؤ على تصديق أن هذا الشخص، الذي عاملني بلطف شديد، لن يؤذيني أبدًا؟'


“دعنا نتبادل قبلة أخرى.” جذب وجه فو تينغ شين نحوه، يبحث مجددًا عن ذلك العزاء اللطيف بين الشفتين، وقال مرة أخرى: “أنا أحبك. أحببتك منذ وقت طويل جدًا.”


“يا لها من صدفة.” رحّب فو تينغ شين بشفتيه. “وأنا أيضًا أحببتك منذ وقت طويل.”


“همم؟”


“منذ حياتنا السابقة.”


【النهاية】


فو تينغ شين لم يكن ممن يستطيعون البقاء بلا عمل. بعد شهور من النقاهة، وبعد أن 'انحنى' بنجاح أيضًا، شعر أن حالته الجسدية والنفسية قد تعافت تمامًا، فبدأ يفكّر في إيجاد شيء يشغله.


استمع سون لوو إلى كومة خططه الجريئة. ثم قال أخيرًا بلطافة: “ما رأيك أن تعمل في شركتي؟”


“أنا بالكاد أملك شهادة ثانوية. لا يمكنني أن أعمل بشيء غير أن أقود لك السيارة.”


“ممتاز، لا بأس في ذلك.” وافق سون لوو بسهولة. “حتى لو أردت أن تكون ’سكرتيري‘، فلا مشكلة لدي.”


تنهد فو تينغ شين: “لقد أسأت الظن بك حقًا. هل تنوي قفل باب المكتب أم ماذا…”


قفز سون لوو عليه وأغلق فمه.


ومنذ ذلك اليوم، عاش المدير سون حياة جميلة: سائقه يقوده صباحًا، يجلب له الطعام ظهرًا، ويدفئ سريره مساءً.


لكن — ويا للأسف — لم تمضِ سوى أيام قليلة حتى استقال فو تينغ شين من عمله.


كان سون لوو مستلقيًا في حضنه، غاضبًا: “لماذا؟ هل المدير ليس وسيمًا بما يكفي أم أن الراتب لا يعجبك؟!”


“متى رأيت مديرًا يصرّ على أن يقبّله سائقه قبل أن ينزل من السيارة؟” سخر فو تينغ شين. “الرئيس سون، هذا يُسمى تحرّش في بيئة العمل.”


لم تعد ذاكرة فو تينغ شين مثل ذاكرة شيه غوان التي عادت دفعة واحدة؛ بل كانت تعود تدريجيًا، جزءًا بعد جزء. ورغم بعض الارتباك في البداية، فإنه بعد سنوات قليلة صار لا يختلف عن أي شخص طبيعي.


وفي السنة الثانية من علاقتهما، تواصل مع بعض رفاقه القدامى من الجيش وافتتحوا معًا مطعم هوت بوت. كانت قاعدتهم التدريبية السابقة في الشمال الغربي، وكانت لديهم مشاعر خاصة تجاه تلك المنطقة، فبعد معاينة السوق، وقّعوا عقد شراء مباشر مع رعاة المراعي المحليين لتوريد اللحوم الطازجة إلى العاصمة. ومع مرور الوقت، توسع نطاق المطعم وافتتحوا فرعًا جديدًا مقابل مقر مجموعة تاي هي.


صادف افتتاح المطعم الجديد عيد ميلاد سون لوو. لم يكن هو نفسه يتذكر التاريخ، لكنه دعا مجموعة من أصدقائه لتناول الهوت بوت دعمًا لفو تينغ شين.


في منتصف المناسبة، طرق فو تينغ شين باب الغرفة الخاصة، ودخل عدد من الموظفين يحملون صواني فواكه فاخرة وكعكة عيد ميلاد وهم يغنون أغنية عيد الميلاد.


على الفور، عمّت الفوضى الغرفة.


كان فو تينغ شين يرتدي قميصًا أبيض وبنطالًا رسميًا، يقف شامخًا بوسامة طاغية. تقدم بخطى واثقة، ثم جذب سون لوو وقبّله. “عيد ميلاد سعيد.”


كانت علاقتهما معروفة ضمنًا منذ زمن، لكنها لم تكن بهذا الوضوح من قبل. شعر سون لوو ببعض الحرج، واحمرّ أسفل أذنيه، لكن عينيه امتلأتا بابتسامة لا يمكن كبحها. "شكرًا. لنستمتع بها معًا.”


بدأ الموظفون بتوزيع قطع الكعكة. وكان لدى سون لوو صحن في يده، وفوقه وردة صغيرة من كريمة الزبدة ليست ممتازة الشكل لكنها 'صالحة للاستخدام'. “تذوقها؟” ابتسم فو تينغ شين. “أنا اللي عصرتها بيدي من كيس التزيين.”


وبهذا، لم تعد هناك حاجة للتقليل من شأنها. حتى لو كانت مصنوعة من الفلين، لأكلها سون لوو بلا تردد…


“همم؟”


عضّ عن غير قصد شيئًا قاسيًا في داخل قطعة الكعك.


ناول فو تينغشين منديلًا بلطف. غطّى سون لوو فمه، وأدار وجهه، ليجد خاتمًا يلمع وقد سقط في راحة يده فوق الورق.


سون لوو: “!!!”


أما المجموعة الأنيقة في الغرفة من زملاء سون لوو، فبدؤوا بالتصفيق والهتاف والصفير بجنون: “وافق! وافق! وافق!”


أخرج فو تينغ شين منديلًا، مسح به الخاتم، ثم أمسك بيد سون لوو اليسرى المرتجفة. لكنه لم يتبع القواعد، بل نظر إليه بابتسامة خفيفة: “هل لديك شيء تود قوله لي؟”


في تلك اللحظة من التقاء العيون، فهم سون لوو فورًا ما الذي يعنيه، وخرج منه وعدٌ طال غيابه وكأنه كان محفوظًا في قلبه.


ومع انفتاح الحظ، سالت المياه في مجراها.


“أنا أحبك — في هذه الحياة وهذا العالم، وفي أي حياة وأي عالم، سأكرّس قلبي لحبك وحدك.”


لم يكن الخاتم ضيقًا ولا واسعًا، بل انزلق بثبات إلى قاعدة إصبعه.


وهكذا، عُقد الخيط الأحمر المقطوع من جديد، وأحكم رباط الوصال الذي ضاع منهما. وفي بقية هذه الحياة، لن ينفصلوا أبدًا، ولن يترك أحدهما الآخر.


.. 

_النهاية🩷✨_

  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
Fojo team

عدد المقالات:

شاهد ايضا × +
إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق

X
ستحذف المقالات المحفوظة في المفضلة ، إذا تم تنظيف ذاكرة التخزين المؤقت للمتصفح أو إذا دخلت من متصفح آخر أو في وضع التصفح المتخفي