Ch24 | TMCTM
بعدما انتهى تاو شي من إنجاز اللوحات الأربعة ،
حصل على أجر قدره 1200 يوان،
كما منحه أحد الفتيان 200 يوان إضافية كبقشيش لأنه كان راضيًا عن العمل
كان تاو شي ينوي إعطاء هذا المال لتاو جيان إذا جاء يطالبه مجددًا
ولم يستطع إلا أن يفكر بأن طريقة كسب المال هذه ليست سيئة على الإطلاق
فطلاب الفنون عادةً لا يعانون من ضيق مالي،
وإن حصل طارئ في المستقبل، يستطيع دائمًا قبول طلبات طارئة مماثلة
انتهت عطلة العيد الوطني،
وهبّت معها نسائم الخريف التي جاءت في موعدها،
لتكنس معها آخر آثار حر الصيف
كان تاو شي وبي تشنغفي قد انتهيا من تناول الغداء في المقصف، وأسرعا إلى الصف
وكان بي تشنغفي يخطط للعب كرة السلة،
لكنه عدل عن فكرته حين نظر إلى تطبيق الطقس في هاتفه وقال:
“ توقعات الطقس تقول إنها ستمطر ظهرًا
والمطر سيهطل قريبًا .”
رفع تاو شي رأسه إلى السماء ، و الغيوم الركامية الداكنة
الثقيلة كأنها ستعصر ماءها في أي لحظة
ركض الاثنان إلى الفصل قبل أن يبدأ المطر ،
لكن بان يان اعترض طريقهما ما إن وصلا إلى الطابق الأول من مبنى التعليم
كان بان يان في قمة القلق والخجل ،
وركع فورًا أمام تاو شي قائلاً:
“ شي دا ! لم أستطع كتمان الأمر !
المعلمة جيانغ لي اكتشفت أن اللوحات كلها مرسومة بيد واحدة ،
ولم نتمالك أنفسنا فاعترفنا بأنك أنت من رسمها .
صرخت فينا طوال الصباح ، لكنها تركتك تمر هذه المرة…”
كلما تحدث ، انخفض صوته أكثر ،
وهو يراقب ملامح تاو شي بحذر ،
لكن تاو شي لم يُظهر أيّ ذعر ،
بل عبس قليلًا وتمتم لنفسه:
“ هل يمكنها أن تكتشف فعلًا ؟”
بينما تاو شي لا يزال يفكر في رسوماته ، كان بان يان قد بدأ
يتصبب عرقًا بغزارة
أما بي تشنغفي، فلم يكن يعلم شيئًا عن مساعدات تاو شي
لطلاب الفنون في واجباتهم،
لكنه، كغيره من الطلاب، كان يعرف سمعة المعلمة جيانغ
لي المهيبة في مدرسة وينهوا الأولى الثانوية
تلك “الشيطانة” سجّلت رقمًا قياسيًا في الصراخ على
الطلاب لمدة ثلاث ساعات متواصلة دون أن تلهث حتى
قال بي تشنغفي وهو يربّت على كتف تاو شي بعينين
تكسوهما المأساوية، ونبرة يملؤها الألم:
“شي غا إنك بائس حقًّا .
من السيئ أن تُغضب أي أحد ، لكنك ذهبت وأغضبت جيانغ لي بنفسها .”
ردّ تاو شي بلا مبالاة :
“ حسنًا، سأذهب .”
فهو قد خاض معركة من الذكاء والشجاعة مع مديره طيلة
ثلاث سنوات في المدرسة الإعدادية، ولا يخشى شيئًا الآن
' الرياح الباردة تعصف ، ونهر يي يزداد برودة '
و تحت نظرات بي تشنغفي ،
توجّه تاو شي مع بان يان إلى مبنى قسم الفنون
( بيت من قصيدة ' أغنية نهر يي 易水歌 '
مشهد وداع لبطل على وشك الانطلاق في مهمة خطيرة /
= مشهد الذهاب لتوبيخ معلمة )
ما إن وصلا إلى الطابق الأول،
حتى سُمِع صوت سوبرانو حادّ يصدر من الطابق الثالث،
وحين وصلا إلى هناك، أطلقت طبلة الأذن إنذارها الأول
ما إن وطئت قدم تاو شي عتبة المكتب ،
حتى جاءه الصراخ من الأعلى مباشرةً :
“ تعال إلى هنا حالًا !”
و على شرفة المكتب ، وقف الرفاق الأربعة الذين طلبوا منه
رسم اللوحات،
وكان أحدهم يواجه أصيص زهور ، ينظر إلى الأرض ورأسه يتدلّى مثل ثمرة قرع
أما بان يان، فما إن دخل المكتب حتى انحنى من تلقاء
نفسه، ووقف أمام أصيص الزهور الخامس
ابتسم تاو شي للمعلمة الغاضبة جيانغ لي، التي كانت واقفة
ويديها على خصرها، ثم صاح:
“ مرحبًا أيتها المعلمة !”
ومشى ببطء نحو أصيص الزهور السادس
حين نظر إليه، وجد داخله صبّار
تجمدت جيانغ لي في مكانها
بدا واضحًا أن هذا “الرامي” معتاد على مثل هذه الأمور
عبست بجبينها، وتوقفت عن صراخها على طلاب الفنون
الخمسة، ثم أشارت إلى تاو شي وبدأت ترشق الأجواء
بموجات صوتية قاسية ~ :
“ أنت تاو شي من الصف الثاني الثانوي صحيح ؟
يبدو أن من يعش كثيرًا، يرى كثيرًا!
هذه أول مرة أرى طالبًا من الصف الثاني يصبح راميًا في صف الفنون .
هل واجباتك قليلة إلى هذا الحد ؟
أم أن يديك تشتاقان للإمساك بالفرشاة ؟!
هل ظننت حقًّا أنني عمياء ولم أستطع أن أميّز أنها ليست
مرسومة بأيديهم؟!
عندما كنتُ أعرض لوحاتي في المعارض ، لم تكونوا أنتم
حتى بويضات مُلقّحة ، وتظن أنك تستطيع خداعي ؟!
أتتساءل كيف عرفت ؟
دعني أخبرك !
الرسم تمامًا كالكتابة ،
خطّ اليد يمكن تمييزه حتى لو حاول صاحبه التنكّر .
بعض السمات ، إذا اعتاد المرء على استخدامها ، فلن
يستطيع تغييرها طوال حياته، والرسم كذلك!
تريد أن تمارس الألاعيب أمامي بهذا الوزن الخفيف ؟!
قد تستطيع رسم لوحاتهم لبعض الوقت،
لكن هل ستجلس مكانهم في امتحان الفنون؟!
هل ستتقدّم عنهم لاختبارات أكاديمية الفنون الجميلة ؟!
أظن أن عليّ الاتصال بـ معلمك تشو تشيانغ لأسأله .
طالب من الصف المتقدم يأتي لصف الفنون ليعمل في التجارة ؟
لا بد أن ألقّن هذا الأستاذ درسًا كذلك !”
…
طوال الوقت ، ظل تاو شي مطأطئ الرأس،
يومأ أحيانًا كعلامة على الموافقة ،
ويُقرّ بخطئه بكل إيجابية
لكن في الحقيقة، كل ما كانت تقوله المعلمة دخل من أذن
وخرج من الأخرى
كانت السماء قد حبست المطر طويلًا ،
فاندفع أخيرًا بغزارة ، وكأنه يشارك في رسم المشهد
دقات المطر تضرب سور الشرفة بقوة وكثافة ،
والصبّار أمامه غمره البلل بالكامل
كان يفكر ببساطة { كيف سأعود من دون مظلة ؟
وماذا لو غمرت المياه الطريق ؟ }
بعد أن صرخت جيانغ لي طويلًا ،
لاحظت أن تاو شي لا يزال يحدّق في الصبّار بشرود
ازداد غضبها ورفعت نبرتها أكثر :
“ أعتقد أنه لا يكفي أن أستدعي مشرف صفك .
يجب أن أستدعي والديك أيضًا !
ابن لا يدرس كما يجب في المدرسة ، ولا همّ له سوى الحِيَل !
هل لا تملك أبًا؟ أو أمًا؟
تعيش في المدرسة على حساب كونك رامِي لتحصل على المال ؟
ألا تعلم أن ما تُنفقه من نقود في ألعابك المفضّلة مصدره والداك ؟!
أظنك تفتقر تمامًا إلى التربية الأسرية !”
ما إن أنهت كلامها حتى رأت تاو شي، الذي كان مطأطئ
الرأس طوال الوقت، يرفع رأسه فجأة وينظر إليها مباشرةً
و ابتسامة باهتة على زاوية فمه، ثم قال:
“ آسف، في الحقيقة… أنا فعلاً لا أملك تربية أسرية .”
تفاجأت جيانغ لي
الفتى الأبيض الجميل وقف أمام خلفية السماء الرمادية،
وداخل عينيه النديّتين كآبة غليظة،
تشبه تلك التي تغلّف الصبّار المبلّل أمامه — أشواك على جسدٍ هادئ
انقبض قلبها لا إراديًّا،
لكنها سرعان ما ابتلعت ذلك الشعور تحت وطأة الغضب من تجرّؤه على الرد
وكانت على وشك أن تتابع صراخها،
حينها دوى طرقٌ خفيفٌ ثلاث مرات على باب الغرفة
توقفت للحظة ، ثم صاحت بصوت عالٍ:
“ تفضّل بالدخول !”
فُتح الباب ،
ودخل فتى طويل القامة ، وسيم الملامح ،
يحمل مظلة سوداء تقطر منها قطرات الماء ،
المكتب خافت الإضاءة ، بلا مصابيح ،
فلم تستطع جيانغ لي أن ترى ملامحه بوضوح على الفور ،
فسألته بنفاذ صبر:
“ ما الذي أتى بك إلى هنا ؟”
وضع الفتى المظلة عند الباب ، واتجه نحو الشرفة ،
ناظرًا إلى الشخص الواقف أمام الصبّار في الإناء السادس، وقال بنبرة باردة :
“ جئتُ لأخذه .”
أمعنت جيانغ لي النظر مستعينةً بضوء الخارج ،
فإذا به لين تشينهي
مع أنها تُدرّس طلاب الفنون فقط ، إلا أنه من المستحيل ألا
تعرف من هو لين تشينهي
فإضافةً إلى تفوقه الدراسي، تربط عائلة لين علاقات وثيقة
بمدرسة وينهوا الأولى
يكفي أن نذكر مبنى ' تشيوشي ' الذي سُمّي
باسم ' لين زي تشيو ' ( العم )
و ' لين زي شي' ( أب تشيهني )
— ابناء السكرتير السابق للجنة الحزبية البلدية ، لين ويليانغ ( الجد ) ——
لين تشينهي هو المتبرّع لبناء مبنى ' تشيوشي '
والابن الوحيد لـ لين زيشي ، رئيس شركة رويزي
أما زوج جيانغ لي، فيعمل هو الآخر ضمن شركة رويزي
لكنه قضى فيها نصف عمره تقريبًا دون أن يُحقق شيئًا يُذكر
على الفور ، هدأت ملامح جيانغ لي،
بل وارتسمت على وجهها ابتسامة مصطنعة،
وسألت بلطف:
“ من الذي جئتَ لأخذه ؟”
لكن السؤال لم يكن له أي معنى،
فقد كان تاو شي قد قفز بالفعل ليقف أمام لين تشينهي
{ أين ذهبت الكآبة التي كانت تكسو وجهه قبل لحظات ؟
عينيه ، حين نظر إلى لين تشينهي ، كانتا تلمعان وكأن آلاف
النجوم اجتمعت فيهما }
في الحقيقة، تاو شي لم “يقفز”
بل بدا الأمر هكذا فقط في نظر جيانغ لي،
إذ بدا لها حماسه كحماس طفل في الروضة رأى والديه قد
جاءا ليأخذاه إلى البيت
{ نعم ، والديه .. }
تذكرت جيانغ لي فجأة ما قاله قبل قليل،
وكانت على وشك أن تقول شيئًا لتاو شي،
لكن لين تشينهي سبقها وسألها :
“ أيمكنني أخذه أيتها المعلمة ؟”
كان سؤاله سؤالًا شكلي فقط ،
أما في النبرة فلم يكن يحمل أدنى ملامح الاستئذان
بان يان، والخمسة الآخرون من طلاب الفنون الذين كانوا لا
يزالون واقفين في عقوبة، رمقوا تاو شي بنظرات امتلأت
بالغيرة والحسد
تجمدت جيانغ لي في مكانها
في الواقع، لم تكن تنوي ترك تاو شي يرحل بهذه السهولة،
لكنها لم تكن مستعدة أيضًا لإغضاب السيد الشاب لين،
صاحب الخلفية الرفيعة، ولا أن تُحرج نفسها أمام طلابها
فقالت لتاو شي بوجه متجهم:
“ يمكنك أن تذهب ، لكن عليك أن تعترف بخطئك وتعتذر عمّا فعلت .”
انحنى تاو شي وهمس بصوت خافت:
“ أعتذر يا أستاذة .”
بدت على وجه جيانغ لي علامات الحرج،
فمنذ دخول لين تشينهي ،
أصبح هذا الفتى مطيعًا للغاية ولم يعترض بكلمة واحدة
كانت تنوي بالفعل أن تتركه يرحل،
لكنها سمعت لين تشينهي يقول ببطء :
“ بما أن تاو شي قد اعتذر لكِ، أفلا يجدر بكِ أن تعتذري له
عمّا قلته قبل قليل ؟”
ساد صمت مفاجئ في أرجاء المكتب
تجمدت ملامح جيانغ لي، وسمعت لين تشينهي يتابع :
“ سواء أكان رئيسًا تجاه موظفيه ،
أم معلّمةً تجاه طلابها ،
فلا يحق لأحد أن يُطلق الاتهامات جزافًا ويقول إن فلانًا لا
يملك تربية أسرية أليس كذلك ؟”
توقف لحظة ، ونظر إليها ،
وقد ارتسم على شفتيه شيء يُشبه الابتسامة ،
لكن عينيه ظلّت خالية منها تمامًا:
“ وأيضاً ، ما الذي تعرفينه عنه أصلًا ؟”
كانت نظرات لين تشينهي هادئة ،
لكن جيانغ لي شعرت بوضوح بالضغط المتولّد منها
رفع تاو شي بصره إليه ، ورموشه ترتجف
لم تجد جيانغ لي ما تقوله ، وتلوّنت وجنتاها بالزرقة والاحمرار
فطوال سنواتها في التعليم هنا، لم يسبق لها قط أن
اعتذرت لطالب
لكن لين تشينهي بدا وكأنه مُصرّ على حماية ' نقطة ضعفه ' حتى النهاية
تساءلت جيانغ لي { هل لهذا الطالب تاو شي علاقة بعائلة لين؟
إن كان كذلك ، فأنا حقًا لا أستطيع تحمل عواقب إغضابه }
وفي النهاية قالت وهي تنظر إلى تاو شي:
“ أعتذر ، لم يكن يجدر بي أن أقول ما قلته لكَ قبل قليل .”
ثم غيّرت نبرتها وأتبعت ذلك ببعض كلمات المديح:
“ لكنني أعتقد أنك موهوب جدًا في الرسم ،
ولو تلقيت تدريبًا أكاديميًا ممنهجًا ،
فلن تجد أي مشكلة في دخول أفضل أكاديمية للفنون في البلاد .
ما رأيك أن تنتقل من الصف الأول إلى صف الفنون لدينا ؟”
عبس لين تشينهي بحاجبيه وقاطعها ببرود :
“ لا داعي .”
ثم رفع يده ونظر إلى ساعته ، وقال بنبرة باردة :
“ هل لديكِ أمر آخر يا معلمة ؟”
لاحظت جيانغ لي بوضوح استياءه وعدم صبره ، فسارعت إلى القول:
“ لا، لا شيء ، يمكنكما المغادرة الآن .”
راقبت جيانغ لي لين تشينهي وهو يأخذ المظلّة ويغادر المكتب مع تاو شي
وفجأة، تذكّرت أن زوجها أخبرها ذات مرة بأنه التقى بالسيد
الشاب لين في الشركة،
وقد كان يشبه إلى حد كبير رئيس مجلس الإدارة الصامت
والجريء، وكأنهما نُحِتا من قالبٍ واحد
⸻
ما إن خرج تاو شي من المكتب حتى ابتسم على الفور وسأل لين تشينهي :
“ لماذا أتيت؟ هل أخبرك بي تشنغفي؟”
حين رأى لين تشينهي يدخل المكتب وقتها ، كاد يظن أنه يتوهّم
لم يكن ليتوقع أبدًا أن لين تشينهي سيقطع كل تلك
المسافة تحت المطر ليأتي ويُعيده بنفسه
ذلك النوع من المفاجأة والسعادة التي تجعل العالم كله
يتلألأ ، لم يشعر به تاو شي منذ زمن بعيد،
حتى أنه نسي تمامًا كم وبّخته جيانغ لي قبل قليل
لكن لين تشينهي لم يجبه، بل تابع نزوله الدرج بوجه عابس
وصامت، يخطو بسرعة دون أن ينبس بكلمة
أسرع تاو شي في اللحاق به،
وقد لاحظ أن لين تشينهي يبدو غاضبًا من جديد
ظنّ أنه ربما قد سبّب له إزعاجًا ما،
فعضّ على شفتيه وقال بتحفّظ :
“ أنا آسف… أرهقتك بقدومك كل هذه المسافة .”
لكن لين تشينهي لم يرد عليه أيضًا،
فلم يجد تاو شي غير متابعته بصمت حتى وصلا إلى الطابق
الأرضي من مبنى الإدارة، وقلبه يخفق بتوتر
فكّر تاو شي { لين تشينهي لا يملك سوى مظلّة واحدة }
بدأ يتلفت داخل بهو الطابق الأول لعلّه يعثر على مظلّة عامة
في الخارج ،
المطر يهطل بغزارة وينسج ستارًا كثيفًا ،
بينما وقف لين تشينهي عند الباب، ممسكًا بالمظلّة
السوداء فوق رأسه،
ثم نظر إلى تاو شي وقال وهو يعبس بحاجبيه:
“ تعال هنا.”
تجمّد تاو شي في مكانه
{ هل كان يقصد أن أشترك معه في المظلّة ؟
لكن المطر غزير جدًا ، وسنبتل معًا بالتأكيد }
وفي اللحظة التالية ،
أمسك لين تشينهي بذراعه وسحبه فجأة إلى تحت المظلّة
وبينما اقترب على نحو مباغت ،
بدا وكأنه شمّ رائحة منعشة للغاية ،
لم يعرف إن كانت رائحة جسد لين تشينهي أو رائحة
العشب الرطب تحت المطر
اضطرب قلبه فجأة
تبع لين تشينهي بخطى مرتبكة ،
وسارا معًا تحت المظلّة في خضمّ مطر الخريف الهائل،
فغمرهما بخاره وصوت قطراته من كل الجهات،
وكأنهما انعزلا عن العالم في فقاعة صغيرة
المطر يضرب طريق الحجارة الزرقاء بعنف ،
ويرفع بخارًا أبيض من الأرض
أنزل تاو شي رأسه ومشى بخفة يخشى أن تطرطش المياه
من حذائه على بنطال لين تشينهي
وبعد لحظات ، سمع أخيرًا صوت لين تشينهي يسأله بصوت
منخفض، لكن بنبرة ثقيلة :
“ هل تُحب الرسم للآخرين إلى هذا الحد ؟”
ارتبك تاو شي قليلًا
لم يفهم المقصود تمامًا،
لكنه كان يدرك بوضوح أن لين تشينهي غير راضٍ حين قالها
فكّر لبعض الوقت، ثم أجاب بتحفّظ:
“ أنا أحب الرسم كثيرًا ، لكني لا أرسم من أجل المتعة
فقط… بل لأجل المال .
يمكنني أن أجني ثلاثمئة يوان عن كل لوحة .”
صمت لين تشينهي للحظة، ثم سأل:
“ ألم تمنحك المدرسة منحة دراسية ؟ أليست كافية ؟”
تفاجأ تاو شي —- لم يكن يتوقع أن يعرف لين تشينهي أمر المنحة
تردّد قليلًا، ثم قال:
“ في الحقيقة… هي كافية .
ربما أنفقت الكثير من المال مؤخرًا .
أنظر، حتى أنني اشتريت هاتفًا .
ما كنت لأفعل ذلك عندما كنت في مقاطعة تشينغشوي.”
ردّ عليه لين تشينهي بنبرة لا تقبل النقاش:
“ على أي حال لا ترسم للناس مجدداً .
الأهم الآن هو أن ترفع درجاتك .”
سمع تاو شي من نبرة صوته أنه لا مجال للمساومة،
لكنّه شعر ببعض الحرج
وبعد تردد قصير، قال:
“ ألا يمكنني أن أرسم حتى في العطلة ؟
الرسم هو الطريقة الوحيدة التي يمكنني من خلالها كسب
المال حاليًا. وإلا، كيف سأطعم نفسي ؟”
ثم التفت ونظر إلى لين تشينهي ، ولم يستطع أن يمنع نفسه من المزاح:
“ هل ستتكفّل بإعالتي أنت ؟”
وما إن قالها ، حتى ندم بشدّة وكاد أن يعضّ لسانه من الغيظ
لكن لين تشينهي توقّف فجأة ،
واستدار قليلًا تحت المظلّة ، ونظر إليه بعينين منخفضتين
توقّف تاو شي أيضًا، وحدّق في عينيه بذهول
لم يرَى لين تشينهي ينظر إليه بهذا الشكل من قبل ——
ربما بسبب المطر والرياح، كان كل شيء حوله مشبعًا ببخار الماء
وبدت نظرات لين تشينهي ، التي كانت دومًا باردة وجامدة ،
ضبابية وغير حقيقية
وكأن… وكأن لين تشينهي على وشك أن يوافق
كان صوت المطر وهو يرتطم بالمظلّة عاليًا،
كدقات قلبه التي انفجرت فجأة بلا نظام
قبض تاو شي على أصابعه ونفض من ذهنه تلك الفكرة السخيفة
ابتسم وقال بخفّة:
“ أمزح فقط! سأكسب الكثير من المال بنفسي مستقبلًا ...”
وغَمز بعينه :
“ من النوع الذي يجعلك مدعوًا على العشاء يوميًّا !”
كان يتمنى، مثل الجميع، أن يركّز على دراسته من دون أعباء ،
و أن يسافر في الإجازة مع أصدقائه ،
و يلتقط صورًا للمناظر الجميلة ،
ويتشارك معهم لحظات السعادة في ' اللحظات '
لكنه يعرف أن حياته لم تُكتب لها السهولة
ومع ذلك ، لم يكن يريد أن يعرف لين تشينهي ذلك
صمت لين تشينهي قليلًا ،
ثم تابع السير باتجاه مبنى التدريس ، وقال بصوت هادئ:
“ أنا لا أمنعك من الرسم .
أقصد فقط… أن لوحاتك لا ينبغي أن تُباع بمئات اليوانات لأشخاص لا يقدّرونها .
ينبغي أن تكون لها قيمة أعلى ، وأن تُقدّر من قِبل عدد أكبر من الناس .”
نظر إليه لين تشينهي وسأله:
“ هل تفهم ما أقصده ؟”
تجمّد تاو شي لثوانٍ،
لكن ما إن استوعب المقصود حتى بدأت أذناه تشتعلان حرارة
لم يكن يتوقع أن يحمل لين تشينهي كل هذه الآمال حيال لوحاته؛
جعله ذلك يشعر بشيء من الإطراء … وشيء من الارتباك
بالنسبة له، كان الحصول على بضع مئات من اليوانات
مقابل الرسم أمرًا جيدًا جدًا
في خليج تاوشي، قد يعمل القرويون عامًا كاملًا في الزراعة
ليكسبوا بضعة آلاف فقط
{ هل يمكن أن تكون لوحاتي حقًا ذات قيمة عالية ؟
هل يُمكن أن تُقدَّر من قبل الكثير من الناس ؟ }
لم يصدّق تاو شي كلمات لين تشينهي في تلك اللحظة،
لكنه أومأ برأسه وقال:
“ فهمت، لن أساعدهم في الرسم بعد الآن .”
وبعدها، بدا أن تعبيرات وجه لين تشينهي قد هدأت فعلًا،
فشعر تاو شي بالارتياح،
وبدأ يتحدث عن مواضيع أخرى:
“ امتحانات منتصف الفصل ستكون في بداية نوفمبر صحيح ؟”
: “ نعم، والوقت ضيّق جدًا .”
لاحظ تاو شي أن لين تشينهي بدا قلقًا قليلًا على درجاته ،
لكنه كان قلقًا هو الآخر، فقال:
“ لقد أنهيت كل الأوراق التي أعطاني إياها الخالة تشو ،
وبعد أن راجعت الإجابات، اكتشفت أن هناك الكثير من الأخطاء .
ماذا لو لم أتمكن من دخول قائمة الخمسين الأوائل في منتصف الفصل ؟”
عبس لين تشينهي بحاجبيه ، وانخفض صوته قليلًا :
“ ذاكر جيدًا ، لا يزال أمامك أكثر من نصف شهر .”
عندما سمع كلمات لين تشينهي ، شعر تاو شي بنوع من الطمأنينة ،
ثم بدأ يُمازحه قائلًا بحماس:
“ إذًا، إن دخلت ضمن الخمسين الأوائل، هل ستُكافئني؟”
حين كان صغيرًا ، كان زملاؤه يحصلون على حلوى أو ألعاب
إذا تقدموا في الترتيب ،
أما هو، فلم تكن قوه بينغ تشتري له شيئًا حتى لو حصل
على المركز الأول ….
نظر تاو شي إلى ملامح لين تشينهي من الجانب ،
وقبض أصابعه بتوتر،
لكن لين تشينهي لم يُجبه مباشرةً ، وقال:
“ اختبر أولًا ، ثم نتحدث بعدها .”
لم يعجبه هذا الرد
أمسك بكمّ يد لين تشينهي اليسرى ،
اليد التي كانت تمسك بالمظلّة ،
وهزّه قليلًا ، وعيناه المبتلتان بالمطر والضباب تنظران إليه
في ظل الضوء الكئيب أسفل المظلّة ،
وخفّض صوته وتوسّل :
“ لا، عِدني أولًا .”
ولم يدرك تاو شي حينها ، أنه بدأ يفعل أكثر ما كان يمقته —
أن يتدلّل على لين تشينهي
ولم يكن يُدرك أن دلاله المتكرر لم يكن إلا لأن قلبه
يصدّق أن هناك من قد يُحبّه
سأل لين تشينهي ، غير معتاد على أن يُنظر إليه بهذه
الطريقة ، فأبعد وجهه قليلاً :
“ ما نوع المكافأة التي تريدها ؟”
ابتسم تاو شي بانتصار ، وقال بسعادة :
“ لم أقرر بعد، سأخبرك عندما أفكر في الأمر! ”
يتبع
تعليقات: (0) إضافة تعليق