Ch102 بانغوان
حين خطرت تلك الإمكانية في ذهن وين شي ، بلغ غضبه ذروته ——
فجأة هبّت عاصفة عاتية من العدم ، واندفعت برودة
جليدية على طول خيوط الدمى المرتجف ، لتنتشر بجنون في الأرجاء
وفي لحظة خاطفة ، صار جسد تشانغ دايوي مغطّى بجروح دامية
“آآآه—”
بدا وكأنهما الشخصان الوحيدان المتبقيان في هذا العالم—هما ، والرياح الغاضبة
سأل وين شي ببرود قارس كأنه نابع من ثلوج :
“ ماذا فعلت ؟”
غمر الآلام عقل تشانغ دايوي فصرخ بعويل بائس ،
يلهث بين أنفاس متقطعة مرتعبة ،
ورفع رأسه ونظر إلى وين شي : “ أنت !”
امتلأت عيناه بالكراهية العميقة والضغينة ، وكان غارقًا
بوضوح في عالمه الخاص ،
لم يفهم سؤال وين شي، ولم يدرك سبب غضبه العارم في هذه اللحظة
وهذه الحيرة العاجزة عن الفهم هي ما زاد الأمر إغاظةً واستفزازًا
شدّ خيوط الدمى المحيطة بتشانغ دايوي فجأة ، يمزّق
جلده ويغوص في لحمه ، فاحمرّت عيناه وفتحها على
وسعها من شدّة الألم المفاجئ ونقص الهواء
مرّر وين شي أصابعه على طول الخيوط ، ثم فجأة جذبه بعنف ،
ساحبًا تشانغ دايوي نحوه ، مجبرًا إياه على إرجاع عنقه للخلف
و قال بصوت مشبع بالغضب وهو يضغط على أسنانه :
“ لقد سألت—”
كانت قبضتا وين شي مشدودتين بقوة لدرجة أن مفاصل
أصابعه ابيضّت حتى الموت، وشفتيه كانتا باللون نفسه :
“ كيف طهّرتَ علامة ' سخط السماوات' ؟!”
أراد تشانغ دايوي أن يتهرب ، لكنه كان مقيدًا بالكامل ،
غير قادر على الحراك ، ومع ضيق مجرى تنفسه ،
بدأت عيناه تتدحرجان للخلف وجفونه ترتجف بسرعة…
كان المنظر بائسًا وبشعًا للغاية ، حتى أنه أغلق عينيه
{ كيف طُهّرت العلامات ؟ }
لم يستطع تشانغ دايوي الكلام ؛ لم يكن قادرًا إلا على
تحريك شفتيه المزرقّتين قليلًا ، وكأنه يبحث بصعوبة في
ذاكرته ، كما لو أنه قد نسي بالفعل
اشتدّ سواد وجه وين شي — ولمعت عيناه ببريق جنوني بالغ البرودة
تشققت مفاصله من شدّة قبضته ، ثم شدّ خيوط الدمى بقوة هائلة—
“ غغك—”
اندفعت من حنجرة تشانغ دايوي سعلة عنيفة ممزوجة بالدم ، وكأن أعضاؤه الداخلية تُسحق وتسيل من فمه
تلمّس الخيوط بجنون عدة مرات ،
ثم ابتسم فجأة ،
و قال بصوت مبحوح وهو لا يزال يبتسم ابتسامة ملتوية :
“ لقد… تذكّرت الآن ….”
كيف طهّر سخط السماوات…؟
كل ذلك كان بسبب اضطراره للانسحاب مهزومًا من ذلك الممر الجبلي
كلما استعاد ذكرى تلك اللحظة ، عجز عن تقبّلها ، وزادت مخاوفه أكثر فأكثر
كان أثر سخط السماوات عليه واضحًا كل الوضوح—
مهما فعل، كانت النتيجة دائمًا هي الأسوأ؛ وكأنها لعنة
وكان يراوده نفس الكابوس مراراً
فبمجرد أن يغمض عينيه ، يتدفق عدد لا يحصى من
أصحاب الأحقاد إلى غرفته ، يتسلقون سريره ، ويلتهمونه
قطعة قطعة ، قضمةً بعد قضمة…
أصبح متوترًا سريع الغضب ، غير مستقر ونَهِمًا بلا حدود
تضخمت جميع مشاعره وأفكاره المظلمة والسلبية إلى أقصى حد،
وكأن جحافل من الأرواح الشريرة تكمن داخله ،
تتقاتل لتمزّق شرنقة جسده ،
لكن ذلك لم يكن الجزء الأكثر رعبًا
ما لم يستطع تقبّله على الإطلاق هو… أنه لم يعد قادرًا على فكّ الأقفاص
كان هناك قفص بعينه ترك داخله واحدة من الذكريات
القليلة المليئة بالرعب—قفص أشبه بدوامة على شكل
إنسان ، حيث امتصّ بلا تحكم كل الضباب الأسود من
المنطقة المحيطة
كان ذلك الضباب يضجّ بالحقد والكراهية والحسد وأكثر ،
يكسو الأرض كغطاء كثيف وهو يندفع نحوه وينغرس في جسده
في البداية ابتهج
فطالما أنه قادر على إذابة الضباب الأسود المستجدّ
واستخدامه في تقوية زراعته ، فإنه سيزداد قوة أكثر فأكثر
لكن لم تمر سوى ثانية واحدة حتى بدأ يندم
فحتى مع اقترابه من حدّه الأقصى ، ظلّ الضباب الأسود
مركزًا عليه وحده
كان جنونًا بلا نهاية
تخبط الضباب في داخله ، يرتطم بروحه ويصطدم بجنون
لم يكن قابلاً للذوبان ، والأسوأ —- أن الروابط الدنيوية التي
قد فكّكها على مدى العقد الماضي بدأت أيضاً تضطرب
وتغلي في داخله
كانت تلك أول مرة في حياته يختبر فيها خوفًا وعجزًا حقيقيين
كلمة واحدة خطرت في ذهنه : الارتداد —-
كان ممتلئ بالأرواح الشريرة ، ولم يكن ذلك شيئًا يمكن
التحكم فيه عبر مستوى زراعته أو حدود قدرته
في الواقع ، كلما كان المرء أقوى — كلما فكّك أكثر ،
وكلما حمل أكثر— كان الارتداد أشدّ رعبًا ——
وهذا هو سخط السماوات —-
كان تشانغ دايوي ممتنًا جدًا لأنه لم يكن يومها داخل قفص
كبير للغاية ، ولأنه لم يدخله بمفرده ،
ففي ذلك الوقت ، كان لديه رفيق غير مدرك لما يجري ،
ساعده في النهاية — ولولا ذلك الشخص ، لربما مات في
القفص وحقق نبوءة سخط السماوات : أن يلقى نهاية بائسة ، بلا قبر يؤويه
كان ذلك الشخص الذي مدّ له يد العون في تلك اللحظة
الحرجة لقبه لوو من يونفو — وكان أحد التلاميذ
الخارجيين في جبل سونغيون—شخص عادي لا يلفت النظر ،
بلا اسم ولا شأن ، وبعد أن فكّوا القفص ، لم يطلب أي
مقابل ، بل ودّعه ببساطة ورحل ،
وبحسب القوة وحدها ، كان ينبغي لفرع لوو ذاك أن يندثر
منذ زمن بعيد بلا أثر — لكن بفضل مساعدة عائلة تشانغ،
تمكنوا فرع لوو من البقاء حتى صاروا بعد ألف عام من
أكبر عائلات الـ بانغوان
لهذا السبب كان الجميع يردّدون دائمًا أن بطريرك عائلة
تشانغ، تشانغ دايوي ، رجل نبيل يسعى لردّ الجميل لكل من
أسدى له معروفًا
حتى أفراد عائلة لوو أنفسهم كانوا يؤمنون بذلك بصدق ،
وغالبًا يتذكرونه بامتنان عميق
لكن اليوم ، رأوا لمحة من الحقيقة المدفونة منذ تلك السنين
فبعد أن خرج تشانغ دايوي من ذلك القفص بعينه ، اختفى
عدة أيام ولم يُعثر له على أثر
لم يكن أحد يعرف إلى أين ذهب أو ما الذي فعله
ولم يكن إلا الآن — بينما حياته معلّقة بخيط في يد وين شي
وحلقه يغلي برغوة الدم — تلفظ بالكلمات بصعوبة :
“ أنا… ذهبت إلى ذلك الممر الجبلي ...”
لقد تسلل عائدًا إلى الجبل ، واستخدم كل حيلة يعرفها
ليخترق الضباب الكثيف ويتقدم نحو المركز
وكما تمنى ، لم يكن تشين بوداو موجود ،
و لم يكن هناك سوى كوخ فارغ وبحيرة ساكنة
كان الجو في ذلك اليوم باردًا للغاية على الجبل ،
وقد غطّت طبقة رقيقة من الجليد سطح البحيرة ،
هبطت بعض الطيور بخفة فوق الجليد ، فارتسمت فيه
شقوق دقيقة كخيوط العنكبوت
للوهلة الأولى لم يكن في البحيرة ما يثير الانتباه
لكن تشانغ دايوي كان يعرف أن تشين بوداو قد أقام هنا مصفوفة
لم يكن يعلم تفاصيلها الدقيقة ، لكنه كان واثقًا بأنها من
النوع الذي يعزز الزراعة ويسرّع عملية التعافي
وربما كانت هذه بالذات هي مصدر جسد الآخر نصف-الخالد
فقفز مباشرةً إلى وسط البحيرة ——
كان ينبغي لمياهها أن تكون جليدية البرودة في ذلك الوقت من العام ،
لكن كلما استعاد تشانغ دايوي تلك الذكرى من حين لآخر ،
لم يكن يتذكر البرد القارس ولا آلام جسده ،
بل لم يبقَى في ذاكرته سوى نشوة غامرة اجتاحته في تلك اللحظة —
فحتى تلك اللحظة ، لم يكن يملك وسيلة لتفريق الضباب
الأسود الذي اجتاحه في القفص ،
ولم يكن قويًّا بما يكفي ليتحمل وزنه ،
لكن حين دوّى زمجرة المصفوفة وبدأت تدور بالحياة ،
جرف التيار كل ذلك الضباب الأسود إلى البحيرة ، ومعه علامة سخط السماوات
كان الضباب الأسود أشبه بأفاعٍ هائلة برؤوس لا تُحصى ،
تلتفّ حولها نقوش شاحبة من الذهب الباهت كالأوشام ،
تتشابك وتتعانق بكثافة فوق الأجساد السوداء ،
منظر يبعث على القشعريرة ،
وما إن لامست تلك الأفاعي قاع المصفوفة حتى هاجت بجنون ،
مندفعًة نحو المركز في هستيريا عارمة
كل ذلك جرى في لحظة واحدة ——
في لحظة واحدة ، تحولت البحيرة إلى بحر من الضباب الأسود القاتم
في لحظة واحدة ، تلاشت علامة سخط السماوات
المنطبعة عليه إلى النصف —-
وقتها — شعر تشانغ دايوي بسعادة طاغية ، يكاد يُصاب
بالهذيان من نشوته
لم يشأ شيئًا أكثر من أن يقتلع ما تبقى من العلامات ويقذف
بها إلى البحيرة بأسرع ما يمكن
لكن في اللحظة التالية ، تبدل تعبير وجهه —-
فبعد أن وُسم بسخط السماوات ، كان يُعذَّب كل ليلة
بأرواح تحاول التهام وعيه ، محرومًا من أي نوم هانئ
والآن وقد نُقلت العلامات إلى البحيرة ، فكيف لهم أن يهدأوا مطمئنين ؟
و على الفور ، دوّى صراخ لا يُحصى من الأرواح من أعماق المصفوفة ، كأنه نُواح جماعي اخترق الجبل بأسره
و اهتزّت كل الطيور على الجبل فزعة ،
وانطلق آلاف منهم في سرب مهيب تبعثر في السماء خلال لحظة واحدة
أما الطيور الذين كانوا مستقرين عند حافة البحيرة فلم
يسعفها الوقت إلا لترفرف بأجنحتها ثم ابتلعها الضباب الأسود
وفي لحظة ، ذبلت أجسادهم وتيبّسوا
لم يعد لدى تشانغ دايوي وقت للتفكير في تطهير ما تبقى
من سخط السماوات —- بل اندفع مذعورًا ليخرج من البحيرة
وبينما ظلّ سخط السماوات يغلي بلا هوادة ، تدفقت أمواج
الضباب الأسود من الممر الجبلي كمدٍّ عاتٍ شاهق
تدحرج تشانغ دايوي على منحدرات الجبل فرارًا بروحه
وحين نهض يتعثر ونظر إلى الخلف ، رأى امتداد من الظلام بلا نهاية ، مشوبًا بنقوش ذهبية هائمة
الظلام يزحف في كل اتجاه ، مندفعًا نحو الطرقات ،
وأماكن الاستراحة ، والقرى ، والمباني …
وكان في تلك الأماكن بشر لا يُحصون ، جميعهم غافلون عن الكارثة المقبلة
تشانغ دايوي { على الأرجح أنني ارتكبت أمرًا فظيعًا }
لكن مع اقتراب الضباب الأسود منه ، لم يكن أمامه سوى
إلقاء نظرة سريعة على تلك الأماكن ، ثم فتح بوابة مصفوفة ليهرب بأعجوبة
كان ذلك قُبيل المساء — بدأت الغيوم وضباب الليل
يهبطان ببطء ، وفي أحد المعابد القريبة دوّى صوت الجرس لأول مرة من أصل ثلاث
وفي مكان بعيد ، كان تشين بوداو منهمكًا في فكّ قفص كبير
ومع تردّد رنين الجرس البعيد ، تلاشت الصور المتشكلة
للقفص ، فابتلع بلايين الروابط الدنيوية
وكان على وشك البدء بعملية الزراعة حينها هبط الدابنغ
الذهبي بخفقة جناح ، حاملاً له ورقة مطوية تسلّمها للتو
— من التوأم داجاو وشياوجاو
فتح تشين بوداو الورقة
تحتوي بضع لمسات فرشاة : رسمة لـ جبل وشجرة ، وبقعتين من الحبر متصلتين ، إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة
مدّ لاو ماو عنقه ليرى محتوى الرسالة ، لكنه لم يفهم مغزاها ،، فأشار إلى البقعتين وسأل:
“ ما نوع الأحجية التي ابتكرتها هاتان الفتاتان الآن ؟”
: “ ألَا تستطيع أن تفهم ؟” طوى تشين بوداو الرسالة
مجددًا، وابتسامة رقيقة ترتسم عند زاويتي شفتيه :
“ لقد ظهر رجل الثلج على الشجرة .”
: “ هاه؟” رمش لاو ماو بعينيه الصغيرة اللامعة ، وبعد لحظات فهم و : قال “أوه” قصيرة —
{ لقد عاد وين شي إلى جبل سونغيون }
: “ هل علينا أن…؟”
نظر تشين بوداو إلى الضباب الأسود المتراقص بين أصابعه
وقال: “ لنرسل هذه أولًا ، ثم نعود إلى الجبل .”
أعاد كتابة رد قصير وأطلقه ، وكان محتواه مزاحًا للتوأمتين :
[ أقنعيه بأن يخمّر لي إبريق شاي ،، واحرصا على مراقبته
جيدًا — فهو مصنوع من الثلج في النهاية ، فلا تدعاه يذوب ]
هو الآن في الجنوب ، بينما يقع جبل سونغيون في الشمال ،
تفصل بينهما مسافة تزيد عن ثلاثة آلاف لي
وبالعربات والخيول سيستغرق الأمر وقتًا طويلًا لقطع تلك
المسافة، لكن لأمثاله، لم يكن سوى مسألة فتح بوابة مصفوفة
لو غادر عند الغروب الآن ، سيستغرق الوصول إلى القمة
أكثر من ثلاثة أرباع الساعة — وقت كافٍ تمامًا لتخمير إبريق شاي
كان من المفترض أن تكون هذه اللحظة لا تختلف عن كل
اللحظات التي سبقتها على مدى عقود
لكن جفني لاو ماو بدأت ترتعش فجأة ، وانتابه شعور غامض بالقلق
ثم سمع دوي الجرس في المعبد للمرة الثانية —دووونغ
بعيدة المدى
وما إن همّ بقول شيء حتى رنّ الجرس الصغير من اليشم
الأبيض المعلّق عند خصر تشين بوداو برنين خافت ، يهتزّ
من تلقاء نفسه دون أن يحرّكه نسيم
فوجئ كل من السيد والدُمية على حدّ سواء
في اللحظة التالية ، اشتغلت كل ريشات لاو ماو الوهمية دفعة واحدة
كان يعلم أن جرس اليشم متصل بالمصفوفة في الممر الجبلي ، وأنه لا يمكن أن يرن بلا سبب
فإن رنّ، فهذا يعني أن هناك مشكلة كبيرة
رأى تشين بوداو وهو يمسك بالجرس ويغمض عينيه
وبفضل الرابط بين الدمية وسيدها ، استطاع أن يشاهد معه
المشهد : الضباب الأسود يفتك بالمناطق المحيطة بالممر الجبلي—
كانت الفوضى المطلقة ؛ عويل حزين يملأ الأجواء
كل كائن حي يبتلعه الضباب كان يذبل وينكمش ثم يسقط إلى الأرض ، مثل غصن استُنزفت كل رطوبته
امتزج الصراح مع صياح الطيور ونباح الكلاب ليشكّل ضجيجًا مشوشًا
و الناس يهربون في كل اتجاه ، وطفل وحيد وقف عاجزًا
وسط الطريق الفاصل بين الحقول ، يجهش بالبكاء بينما
يزحف الضباب الأسود نحوه كالتسونامي ، على وشك أن يبتلعه
نسي لاو ماو تمامًا أن ما يراه ليس سوى إسقاط من مسافة بعيدة ،
وبسط جناحيه الهائلين في محاولة يائسة لحماية البشر من الكارثة الماحقة ،
كان المشهد واقعيًا للغاية
كاد يشعر بالرياح العاتية وهي تفرد كل ريشة من ريشاته؛
بدا وكأن الضباب الأسود يبتلع العالم بأسره وهو يندفع نحوه
وقبيل أن يصطدم السواد الداكن بأجنحته الذهبية المشتعلة —
ضيّق لاو ماو عينيه ، لكنه لم يستشعر الصدمة المتوقعة
توقف الضباب فجأة أمام وجهه مباشرة
النقوش الذهبية الخفيفة تدور في ثنايا السواد الحالك حتى
لامست تقريبًا أطراف جناحيه ، لكنها لم تصله حقًا
ارتسم المشهد في عينيه ، واللحظة بدت كأنها امتدت قرنًا بأكمله —
ثم، فجأة وبسرعة مذهلة ، بدأ الضباب الكارثي يتراجع ،
كأمواج هائلة يجري امتصاصها عائدة إلى منبعها
كان مصدر الضباب الأسود هو المصفوفة في الممر الجبلي،
بينما قلب المصفوفة هو تشين بوداو نفسه
فالكوارث لا تختفي من تلقاء نفسها ، ولا المصفوفات
تنقلب فجأة بلا سبب
في تلك اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت ، هو تشين
بوداو من استدعى كل الضباب الأسود المرتدِم في الخارج
تلك كانت أسرع وسيلة ، بل الوحيدة الممكنة —-
فباستثناء تشين بوداو — لم يكن هناك من يملك القدرة
على كبح كارثة بهذا الحجم
في البداية شعر لاو ماو بالارتياح ، بل وتنهد تنهيدة طويلة
لقد زرع تشين بوداو مئات الآلاف ، بل ملايين الروابط
الدنيوية على مدى حياته
وما حدث الآن لم يكن سوى حالة من بين حالات كثيرة؛
صعبة نعم ، لكنها ليست قاتلة
لكن في الثانية التالية ، تجمّد لاو ماو ——
لقد أدرك متأخرًا أن تلك النقوش الذهبية التي تتخلل الضباب…
كانت هي ' سخط السماوات '
رنّ جرس المعبد للمرة الثالثة ——
وفي نهر الزمن اللامتناهي ، لم تكن سوى لحظة عابرة
لكن في لحظة واحدة ، تغيّر كل شيء
ولم يعُد من الممكن أبدًا احتساء إبريق الشاي الذي يُخمَّر على جبل سونغيون
⸻
في الوقت نفسه ، كان تشونغ سي يدخل إحدى المدن على
مسافة غير بعيدة ، ممسكًا بزمام حصانه
هذا هو الشهر الأخير من العام ، والناس يقدمون القرابين
لمختلف الآلهة في أرجاء المدينة
رُفع حظر التجوال ، والأسواق الموسمية في نهاية العام تعجّ
بالحيوية ما إن فُتحت أبوابها
عُلّقت سلاسل طويلة من الفوانيس عبر الشوارع ،
وتدلّت أقنعة طقوسية لتكريم الآلهة من أعمدة شاهقة ،
تحمل بعض الشبه بالقناع الذي يرتديه تشين بوداو كلما غادر جبل سونغيون
تشونغ سي يركز تماماً في تقليب التحف النادرة بأحد أكشاك السوق —- ولفتته جرة لـ أحجار لعبة الـ غو مصنوعة من
خام غريب قرر شراءها لبو نينغ —- لكن —- فجأه استلم تشونغ سي رسالة بو نينغ ، فتح الورقة المزخرفة بخيوط ذهبية و تدحرجت الأحجار وتبعثرت على سطح الكشك
وبسرعة صفع حبل زمام الحصان على صدر صاحب الكشك
وقال على عجل : “ هذا الحصان لك”،
ثم استدار بخطوات واسعة خلف أحد جدران المدينة
لم يسعفه الوقت حتى ليغادر المدينة تمامًا ؛ بل فتح
مباشرةً بوابة مصفوفة تقوده حيث يوجد تشين بوداو ——
وحين خرج من الجانب الآخر ، عقدت الدهشة لسانه
لقد وصل إلى جبل سونغيون أول مرة وهو لم يتجاوز
الخامسة من عمره ، وغادره يوم بلغ سن الرشد
وخلال حياته ، دخل عشرات الأقفاص و ودع وأرسل عشرات الأرواح ،،
لكن لم يدرك حجم الروابط الدنيوية في عالم البشر إلا
عندما رأى معلمه في هذا اليوم …
كان العدد مهولًا لدرجة يستحيل رؤية نهايته حين تجمّعهم معًا
العدد مهول حتى بدا وكأن لحظة واحدة فقط تكفي لابتلاع
الغابة الواسعة وتحويلها إلى مشهد جحيمي— لجرّ نصف
الخالد إلى وحل الدنس ، ولتحويله من شخص يحترمه ويقدرّه الجميع إلى شخص ينفرون منه
كان العدد مهولًا لدرجة أنه… شعر وكأن عقدًا من عمره تبخر هباءً —— وإلا ، فلماذا عجز بكل ما يملك من أساليب عن تقليص الروابط التي حُوصر داخلها معلمه ؟
لم يعد بالإمكان إرسال الرسائل من على الجبل ؛ فقبل أن
تتشكل التعاويذ حتى ، كانت تتفتت إلى رماد داخل
الضباب الأسود وتتناثر وسط الأعشاب المتفحمة
أما أحجار بو نينغ للمصفوفة فقد سُحقت إلى مسحوق وذرتها الرياح
لم يعد يملك ترف التفكير في شيء آخر
لم يعرف من جاء ومن رحل ، من أُرسل ومن لم يُرسل ،
من دخل للتو المعمعة ،
كل ما استطاع فعله هو تجربة كل تقنية يعرفها ، بشكل شبه آلي ،
ثم التفت للخلف وسط الأتربة المتطايرة في الضباب اللزج البارد
قال شيئًا لأحدهم ، بل وضحك ضحكة متصنعة
للوهلة الأولى بدا وكأنه يتصرف على عادته ، لكنه هو نفسه
لم يكن يعرف ماذا قال بالضبط
وبعد وقت بدا طويل ، جاءه صوت بو نينغ المبحوح من الخلف :
“…علّمني شيفو مصفوفة ما.”
كان صوته في الواقع منخفضًا للغاية — منخفضًا إلى حد أن
بو نينغ على الأرجح لم يكن يرغب بالكلام أصلًا
لكن تشونغ سي سمعه
وحتى لو بهتت كل تفاصيل ذلك اليوم وضاعت كالحلم ،
فقد ظلّ يتذكر ما قاله بو نينغ
حدّق في وجه بو نينغ الشاحب و سأله : “ متى علّمك إياه ؟
وما نوع المصفوفة ؟”
بو نينغ: “ قبل أن يغادر الجبل… مصفوفة ختم ”
كان ذلك آخر ما علّمه إياه تشين بوداو ….. وكان مختلفًا عن
كل المصفوفات التي درّسه إياها من قبل
مركز المصفوفة مرتكز على بوابة الموت ، مما يجعله غاية في القسوة
حينها قال له بو نينغ وقتها : “شيفو هذه المصفوفة قاسية جدًا ،،،
لا أظن أنني سأجد يومًا حاجة لاستعماله .”
فردّ تشين بوداو: “ حسناً ، سيكون ذلك أمرًا جيداً ...”
لكن ، وبعد صمت طويل ، نظر إلى بو نينغ وأضاف : “ ألم
تكن دائمًا مغرمًا بصنع بالخطط الاحتياطية ؟
اعتبر هذا إحداها ، هديتي لك .”
بو نينغ : “ ألستَ قلقًا من أن أستخدمه في وقت غير مناسب؟”
تشين بوداو : “ لديك موهبة فطرية في مثل أمور العرافة ،
وتفهم الظروف مباشرةً ، وعندما يحين وقت استخدامها ، ستعرف .”
وكان شيفو محقًا … فعندما حان وقت استخدامها ، هو بالفعل عرف
لكنه كان ليفضّل ألا يملك تلك الموهبة الفطرية ؛ ليفضّل ألا يعرف
وللحظة تساءل بونينغ إن كان تشين بوداو قد توقّع شيئًا
منذ زمن بعيد— شيئًا جعله يقرر فجأة أن يعلّمه المصفوفة
قبل أن يغادر جبل سونغيون…
في الماضي ، كان تشونغ سي غالبًا يجلس فوق الصخور
العالية أمام ساحة التدريب ، ويلوح بإصبعه السبابة
باستهتار وهو يقول:
“ الجميع يقول إن شيفو بارع في المصفوفات والتعويذات
وصناعة الدمى— وأنه أتقنها كلها ،، ولكن مهاراته في العرافة
متوسطة بعض الشيء . لكنني لطالما اعتقد خلاف ذلك—”
و كان دومًا يقول إن شيفو على الأرجح أكثر موهبة حتى من
ذلك الشيشونغ النَهِم للكتب
و ربما كان الشيفو قد توقّع منذ زمن بعيد أشياء كثيرة ، وكان كل شيء بين يديه ؛ أو ربما لم يكن لديه أدنى اهتمام بالعِرافة أصلًا ،
فجميع الكائنات زائلة ، ودورة الحياة والموت مقرّرة سلفًا
أما تشونغ سي نفسه فكان ينتمي للفئة الثانية —- شعاره
المفضل والأكثر تكرارًا كان :
“ كما تسير السفينة حيث يجري الماء ، فلنرَى إلى أين
يأخذنا التيار ، دون أن نتشبث بشيء .”
لكن في ذلك اليوم ، حين سمع بو نينغ يتفوه بكلمتي “ مصفوفة الختم ”،
قال: “ لا "
الأجيال اللاحقة جميعها اعتقدت أن السلف تشونغ سي كان
شخصًا هادئًا ، غير متأثر ، قليل التعلّق ، عاش حرًا بلا قيود ،
ما لم يعرفوه أبدًا هو كم مرة قال “ لا ” في ذلك اليوم
كان شخص يواجه كل شيء بابتسامة جانبية خفيفة — لكن
عندما اضطر في النهاية إلى وضع أول تعويذة على مصفوفة الختم ،
لم ولن يعرف أحد كم كانت عيناه محمرّتين في تلك اللحظة ————-
والحقيقة ، أنه هو وتشوآنغ يي لم يكن من المفترض أن
يستنزفا كل طاقتهما الروحية ، لأن تشين بوداو حتى اللحظة
الأخيرة ظل يقمع كل ما يمكن قمعه ،،
و كانت السيوف الجليدية تُدار بالقوة إلى الداخل ،،
لكن عندما دخل الختم مراحله النهائية ، لم يعودوا قادرين
على التفكير بوضوح ، وبلا وعي انتقلوا من القمع إلى الحماية ،
ونتيجة لذلك ، نالوا نصيبًا من آثار مصفوفة الختم ، فأصيبوا بجروح خطيرة ،،
كلما تذكروا ذلك اليوم ، أعادوا رسمه في ذاكرتهم مليئًا
برياح جارفة وأمطار غزيرة ، وغيوم داكنة تلقي بظلالها فوق
كل شيء— ربما لأن الضباب كان معتمًا وكثيفًا جدًا ،
وتنساب علو الأرض جداول من الدم ،
بدا وكأن العالم كله مصبوغ بدرجات الرمادي والأسود ——
لكن لم يكن هذا هو الواقع
ففي اللحظة التي سبقت انمحاء كل شيء ، رفع تشين بوداو عينيه إلى السماء ،
تمامًا كما فعل مرات لا تُحصى وهو مستند على باب على قمة جبل سونغيون
في ذلك اليوم ، كان القمر أشبه بمنجل معقوف ،
و السماء مرصعة بالنجوم ، كانت ليلة صافية نادرة —-
نادر يحسب الزمن ، لكنه تذكّر أن هذا اليوم هو أول أيام
الشهر الثاني عشر القمري
في كل منزل عبر البلاد ، الناس يعلّقون الفوانيس ويكرّمون آلهتهم ؛ وأنه أكثر أوقات السنة حيوية ،
لكن لم يكن ذلك سبب تذكّره للتاريخ
بل لأنه قبل أكثر من عشرين سنة ، في أول يوم من الشهر الثاني عشر ، كان قد أعاد معه وين شي من جبل جثث وبحر دماء ——-
وبعد سنوات ، أخبره وين شي فجأة في أحد الأيام:
“ في العالم الدنيوي ، كثيرًا ما يذكرون أعياد الميلاد ،
وعندما سألني أحدهم عن يوم مولدي ، قلت إنني وُلدت في
أول يوم من الشهر الثاني عشر ”
وهكذا ——— تحولت جملة عابرة فجأة —- إلى تعلّق امتدّ بعيدًا عن هذه اللحظة
و حتى لو لم يعد وين شي إلى جبل سونغيون في ذلك اليوم ، فإن تشين بوداو كان قد عقد العزم بالفعل على أن
يراه ، فقد كان يوم ميلاده ، — ولا يأتي إلا مرة في السنة ،
والعمر بأسره ليس سوى تراكم هذه السنوات بالعقود ،
كيف له أن يحتمل أن يقضي وين شي اليوم كله وحيدًا ؟
كتب له ورقة ، يعده فيها بالعودة
{ رغم أن أشجار صنوبر جبل سونغيون وهمسات الرياح والقمر الساطع تمتد مسافة ثلاثة آلاف لي فقط ،
لكن القدر يمنع عودتي }
يتبع
تعليقات: (0) إضافة تعليق