الكتاب الرابع: كارثة الثياب البيضاء.
الفصل مئة وواحد وثمانين : ليلة الفوانيس؛ فلس لروحٍ تائهة.
انتفض شي ليان من نومه مذعوراً.
كان جسده غارقاً في عرق بارد من شدة الخوف، فجلس فجأة من مضجعه، ودفن وجهه بين كفيه.
والسبب الذي أيقظه هكذا هو حلم. في الحلم، كان أبواه قد انتحرا، شنقا نفسيهما. رآهما، لكنه لم يشعر لا بالفرح ولا بالحزن، لم تنزل دمعة، بل أخذ يعد رباط حرير أبيض آخر بجمود. وما إن همَّ أن يُدخل رأسه في العقدة حتى رأى أسفل منه رجلاً بثياب بيضاء، يضع قناعاً بملامح باكية مبتسمة، يتهكم عليه. فارتجف قلبه، واشتد العقد، وغمره خنق ساحق. ثم استيقظ.
كان النهار قد بزغ بالفعل خارج النافذة، وجاء صوت من الخارج:
"سموك! هل استيقظت؟"
أجاب شي ليان على عجل: "استيقظت!"
لم ينتبه إلا بعد أن لهث بعنف فترة طويلة، ليكتشف أنه لم يكن جالساً على حصير قش، بل على بساط من التبن. ورغم أن طبقات التبن جعلته ليناً بعض الشيء، إلا أنه لم يكن مريحاً بالنسبة له. وحتى الآن، لم يعتد مثل هذا الفراش البسيط والخشن.
الذي ناداه كان فنغ شين. خرج منذ الصباح الباكر وعاد الآن ومعه طعام، وكان يحث شي ليان على الخروج لتناول الإفطار. أجابه شي ليان ونهض.
ذلك الإحساس بالاختناق في الحلم كان حقيقياً جداً، حتى أنّ يده تحسست رقبته بلا وعي. لم يُرد سوى أن يتأكد إن كان هناك فعلاً أثر للحرير الأبيض الملتف كعقدة حول عنقه. لكن المفاجأة أنه لمس شيئاً بالفعل.
ارتجف شي ليان، وأسرع ليمسك بمرآة ملقاة على الأرض قريباً. وحين نظر إلى انعكاسه، رأى طوقاً أسود يحيط برقبته. عندها فقط هدأ، وتذكّر كل شيء.
إنه القيد الملعون.
تحسس شي ليان ذلك الطوق.
بعد أن يُنفى المسؤول ليصير بشراً، لا يبقى له امتيازات تُذكر سوى أنه يشيخ ببطء. لكن جون وو، حين صنع أول مرة القيد الملعون لشي ليان، أبدى شيئاً من الرحمة وترك له بعض التيسير.
فهذا القيد، رغم أنه يُقيد قواه الروحية، إلا أنه أيضاً جمّد عمره وجسده، فلم يعد يشيخ ولا يموت. وأخبره جون وو: إن نجحت وصعدت من جديد، فسيُغفر كل ما مضى، ويُزال هذا الشيء.
لكن ارتداء مثل هذا الطوق لا يختلف عن وسم وجه مجرم بخطيئة؛ إنه إهانة مغروسة في العظم. ولما فكّر في هذا، مد يده جانباً وأمسك برباط حريري أبيض، وهمّ أن يلفه حول رقبته. غير أنه ما إن رفع يده، حتى تذكّر شعور الاختناق المخيف في حلمه، فتردّد. لكنه في النهاية سحبه وربطه جيداً حول عنقه وأسفل وجهه قبل أن يخرج.
كان فنغ شين ومو تشينغ بانتظاره في الخارج. فنغ شين قد اشترى فطائر ساخنة، بينما مو تشينغ يأكل ببطء. مدّ فنغ شين اثنتين نحو شي ليان، لكن عندما رآها شي ليان – تلك الفطائر اليابسة الباهتة – فقد شهيته، فأدار رأسه رافضاً.
قال فنغ شين: "سموك، لا بد أن تأكل شيئاً في الصباح. لدينا عمل بعد قليل، وليس عملاً يُنجز بالجلوس فقط."
لم يرفع مو تشينغ عينيه: "صحيح، حتى لو لم تأكلها، فلن يكون هناك شيء آخر. تستطيع أن تُغمى مجدداً، لكنك ستأكلها في النهاية."
حدّق فنغ شين به: "راقب أسلوبك."
كان شي ليان قد صعد للسماء منذ بضع سنوات فقط، ونسي تماماً معنى أن يحتاج الإنسان للطعام. قبل أيام قليلة كاد أن يُغمى عليه، ولم يدرك السبب إلا لاحقاً: لم يأكل منذ أيام. هذا ما كان يُلمّح إليه مو تشينغ. جلس شي ليان جانباً، ولم يُرد أن يفتتح هذان الاثنان شجاراً صباحياً، فغيّر الموضوع بسرعة:
"لنذهب. لسنا نعلم حتى إن كنا سنجد عملاً اليوم."
كان شي ليان في الماضي ذا مكانة نبيلة، وجسده جسد سماوي، فلا يحتاج لمأكل بشري، وبالتالي لم يشغل نفسه بالرزق. أما الآن، فهو ما يزال الامير ولي العهد ، لكن مملكة شيان لي لم تعد موجودة؛ وما يزال مسؤولًا ، لكنه منفي منذ زمن. صار في حكم البشر، وعليه أن يفكر كيف يعيش.
وظيفة الممارسين الروحيين هي مطاردة الأشباح وأداء الطقوس، لكن ليس كل يوم فيه وحوش أو أرواح أو شعائر. لذا، في أغلب الأوقات، كان عليهم إيجاد أعمال مؤقتة، مثل نقل البضائع أو الأعمال اليدوية.
لكن حتى هذه الأشغال البسيطة لم يكن الحصول عليها سهلاً. فقد صار عدد النازحين الفقراء كثيراً جداً. هؤلاء البؤساء، إن رأوا عملاً، فلن يطلبوا أجراً، يكفيهم رغيف وبضعة أرز ليعملوا، فيتزاحمون عليه، فكيف ينافسهم شي ليان ورفيقاه؟ وحتى إن ظفروا بعمل، كثيراً ما كان شي ليان يتنازل عنه بعد تفكير، إذ يرى أن الآخرين أحوج. وبالفعل، بعد جولة طويلة في الشوارع، لم يجدوا شيئاً.
قال مو تشينغ متذمراً: "ألا يمكننا أن نجد عملاً أكثر استقراراً واحتراماً؟"
أجابه فنغ شين: "هراء. لو وُجد، لوجدناه منذ زمن. لكن الأعمال المرموقة تحتاج أن تُظهر الوجه. من لا يعرف سموه؟ إن تعرّفوا عليه، كيف سيبقى العمل مستقراً؟"
صمت مو تشينغ، بينما شد شي ليان الرباط على وجهه أكثر. بالفعل، لو عُرف من هو، إما سيفر الناس أو سيُطردون بالضرب. وحتى لو أرادوا أن يكونوا حرّاساً، من سيرضى أن يُوظف حارساً غامضاً يخفي وجهه؟ أما الاغتيالات، فلا يمكن التفكير بها. ضاقت الخيارات جداً.
المسؤول لا يعرف معنى الجوع. لكن البشر يحتاجون للطعام. منذ صغره لم يفكر شي ليان في هذه الأمور، وهذه أول مرة منذ عقود يواجه مشكلة كهذه. ومع ذلك، لو لم يعرف المسؤول شعور الجوع، كيف سيتفهم دعاء جائع؟ كيف سيتعاطف؟ لذا، لم يرَ في الأمر إلا تدريباً.
في تلك اللحظة، دوّت أصوات الطبول والدفوف، واجتمع حشد كبير غير بعيد. تبع الثلاثة الناس ليروا ما يحدث، فإذا هناك بهلوانيون ولاعبو قتال يستعرضون. كان عرض شارع.
قال مو تشينغ مقترحاً: "إن لم نجد شيئاً، فلنُغنِّ أو نؤدِّ في الشارع."
كان شي ليان يفكر بالأمر فعلاً، لكن قبل أن يجيب، كان فنغ شين قد صرخ وهو يتابع:
"ما هذا الهراء؟ جسد سموه أثمن من الذهب، كيف يفعل شيئاً كهذا؟"
قلب مو تشينغ عينيه: "حملنا الطوب من قبل، فما الفرق؟"
قال فنغ شين: "حمل الطوب نُطعم به أنفسنا بقوتنا الجسدية. أما التهريج في الشارع فهو تسلية للناس على حساب كرامتنا، وهذا فرق عظيم!"
وفي تلك اللحظة، تعثر أحد المهرجين وسقط. ضحك الجمهور عالياً، فنهض وانحنى ليلتقط بعض العملات التي رُميت على الأرض. حين رآه شي ليان، اجتاحه شعور عميق بالرفض، وهز رأسه بشدة، مُسقطاً خيار "العروض" من القائمة.
رأى مو تشينغ ذلك وقال: "حسناً. فلنبدأ برهن ما تبقى من الأشياء."
قال فنغ شين: "لقد رهنّا الكثير بالفعل. ولولا ذلك لما صمدنا حتى الآن. ما تبقّى لا يمكن رهنه."
فجأة، تعالت صيحات الدهشة من خلف الحشد. صاح أحدهم: "الجنود هنا! الجنود هنا!"
فما إن سمع الناس حتى تفكك الجمع. وسرعان ما ظهر طابور من الجنود، مدججين بالسلاح والدروع الجديدة اللامعة، يمشون بخطوات واثقة، يحققون مع كل مشبوه.
اختبأ الثلاثة وسط الناس، وسمعوا من حولهم:
"من يريدون أن يقبضوا عليه؟"
"لا تقلقوا، ليسوا هنا من أجلنا. سمعت أنهم يبحثون عن أمراء شيان لي الهاربين ."
"ويقولون إن أحداً رآهم هنا، لذا صارت التفتيشات صارمة جداً في المدينة."
"حقاً؟ يا إلهي، هل فرّوا إلى هذه الجهة؟"
تبادل الثلاثة النظرات.
قال شي ليان همساً: "لنسرع ونرى."
أومأ الآخران. غادروا الحشد متفرقين بهدوء، ولم يجتمعوا ثانية إلا بعد أن ساروا مسافة بسلام دون لفت الأنظار، ثم ركضوا مبتعدين.
ركضوا حتى وصلوا إلى غابة مقفرة على سفح جبل صغير، ومن بعيد لمح شي ليان عمودًا كثيفًا من الدخان يتصاعد من بين الأشجار. هبط قلبه فجأة؛ أيمكن أن يكون جنود يونغ آن قد عثروا على المكان وأشعلوا النار لقتل من فيه؟
اقتربوا أكثر، وإذا بكوخ صغير مهدم يختبئ بين الأشجار، ربما تركه صياد مجهول منذ زمن بعيد. وكان الدخان الكثيف يتصاعد من داخل هذا الكوخ.
صاح شي ليان بفزع:
"أمي! ما الذي يحدث؟ هل أنتِ هناك؟"
وما إن صرخ، حتى خرجت امرأة تستقبله بفرح وهي تهتف:
"بني؟ لقد جئت؟"
إنها الملكة. كانت ترتدي ملابس بسيطة وقد نحلت قليلاً، مختلفة عن صورتها كسيدة مترفة في الماضي. ولما رأى أن والدته بخير ووجهها مليء بالسرور والطمأنينة، ارتاح قلبه، لكنه سارع ليسأل:
"ما قصة هذا الدخان؟"
أجابت الملكة بخجل:
"...ليس شيئًا مهمًا. أردت فقط أن أطبخ قليلًا اليوم..."
لم يعرف شي ليان هل يضحك أم يغضب، وقال:
"لا! أي طبخ؟ اكتفي بما يجلبه لك فنغ شين ومو تشينغ كل يوم. هذا الدخان لافت جدًا؛ حيثما يوجد دخان يوجد بشر، وسيلفت أنظار جنود يونغ آن. لقد صادفناهم في المدينة قبل قليل. ستزداد الحراسة في هذه المدينة، وعلينا أن نغيّر مكاننا مرة أخرى."
دخل فنغ شين ومو تشينغ لإطفاء الدخان، أما الملكة فلم تجرؤ على الإهمال، فاتجهت إلى الغرفة الخلفية لتتحدث مع الملك.
خرج فنغ شين وهمس:
"سموك، ألا تريد أن ترى جلالته؟"
هز شي ليان رأسه:
"لا."
فالأب والابن معًا: أحدهما ملك لمملكة ساقطة، والآخر مسؤول منفي. أيهما أتعس أو أكثر خزيًا؟ لا مجال للمقارنة. وإن اضطرا للجلوس وجهًا لوجه، فلن يتبادلا سوى النظرات الغاضبة بدل أن يفتحا قلبيهما. لذا، كان تجنّب اللقاء أفضل.
قال شي ليان بصوت عالٍ:
"أمي، لمَ لا تحزمين أغراضك قليلًا، وسنعود لاصطحابك مساءً. سنرحل الآن."
خرجت الملكة مسرعة:
"بني، أبهذا الشكل ترحل؟ لم تزُرنا منذ أيام، فلمَ تغادر بهذه السرعة؟"
قال شي ليان:
"عليّ أن أتدرّب."
لكن الحقيقة أنه كان يخرج للبحث عن عمل، وإلا فلن يمكنهم تأمين قوت يكفي لكل هؤلاء.
سألت الملكة:
"هل تناولت طعامك هذا الصباح؟"
هز شي ليان رأسه. كانوا هم الثلاثة يتضوّرون جوعًا.
قالت الملكة:
"إذن ستنهك جسدك. لحسن الحظ أنني غليت قدرًا من العصيدة، تعالوا لتأكلوا قليلًا."
وتساءل شي ليان في نفسه: "كيف لخليط من العصيدة أن يصدر كل هذا الدخان وكأن القصر يحترق؟"
ثم التفتت الملكة إلى فنغ شين ومو تشينغ:
"وأنتما يا ولداي، تعاليا لتشاركا الطعام معنا."
لم يكن فنغ شين ومو تشينغ يتوقعان معاملة كهذه، فرفضا بخجل، لكن الملكة أصرت، فلم يجدا بدًا سوى الجلوس بحذر على الطاولة، وهما في غاية الدهشة والامتنان.
غير أنهما ما إن شاهدا القدر الذي جلبته، حتى تحولت دهشتهما إلى رعب.
...
بعد عودتهم إلى المدينة، كان بطن مو تشينغ ما يزال مضطربًا، فقال وهو يترنح:
"ظننت... أن تلك العصيدة تفوح كرائحة ماء النخالة، لكنني لم أتخيل أن طعمها سيكون هكذا فعلًا!"
زمجر فنغ شين وهو يضغط أسنانه:
"اصمت! لا تُجبر الناس على تذكّر ذلك الشيء! جلالة الملكة... لم تطبخ في حياتها... وهذا بالفعل... أُغـ...!"
قهقه مو تشينغ باستهزاء:
"هل قلت شيئًا خاطئًا؟ إن لم تكن تراها مثل ماء النخالة، فاذهب واطلب من الملكة أن تمنحك وعاءً آخر! أُغـ...!"
تقيأ الاثنان وارتج جسداهما، فأمسك بهما شي ليان يربّت على ظهريهما.
"توقفا عن التقيؤ! انظرا، هناك أمامنا... يبدو أن هناك عملًا ما!"
وبالفعل، حين اقتربوا مترنحين، وجدوا بعض المشرفين على الطريق ينادون العمال. كان الأجر مقبولًا، ولا قيود على عدد الأيدي، فقبلوا أي قادم. فسارع الثلاثة إلى التسجيل، وامتزجوا مع حشد من الفقراء النحيلين، وشكّلوا جماعة كبيرة تُقاد إلى أرض موحلة فارغة. بدا أن هناك مشروعًا لبناء مسكن جديد، وكانت البداية بردم الأرض. فانغمس الثلاثة بالعمل حتى تلطخت أجسادهم بالطين.
كان فنغ شين يرفع التراب وهو ممسك ببطنه، وجهه مصفرّ، يلعن:
"...اللعنة! أظن أن قدر ماء النخالة هذا قد تحوّل إلى روح شريرة في معدتي!"
أما شي ليان فكان يحمل سلة ملأى بالتراب، فقال بصوت خافت وهو يلتفت:
"هل تستطيع الصمود؟ ...أتريد أن تجلس قليلًا جانبًا؟"
قال مو تشينغ وهو ينظر إلى شي ليان:
"ولِم لا تستريح أنت على الجانب؟"
أجاب شي ليان:
"لا. ما زلت قادرًا على الاحتمال."
دحرج مو تشينغ عينيه:
"لا تكن عنيدًا. إن اتسخت ثيابك فسأضطر لغسلها أنا. من الأفضل أن أقوم بعملك."
من بعيد صاح أحدهم:
"اعملوا بجد ولا تتكلموا! لا تتكاسلوا! ألا تريدون أجركم؟"
كان فنغ شين عنيدًا، فواصل العمل مضاعفًا رغم ألمه. "الأجر تافه أصلاً، فلمَ هذا التهويل، كأنهم يمنّون علينا بشيء؟"
بعد نهار شاق، من الظهر حتى غروب الشمس، انتهى العمل أخيرًا. جسديًا، لم يكونوا مرهقين تمامًا، لكن تعب القلب من أجل أجر زهيد ولقمة بائسة كان أشد من تعب الجسد. حين وجدوا وقتًا للراحة، تمددوا على بقعة نظيفة قليلًا. عندها، مرّت جماعة أخرى صاخبة، يحمل بعضهم تمثالًا حجريًا ويسيرون ببطء.
رفع شي ليان رأسه قليلًا:
"ما هذا التمثال؟"
نظر مو تشينغ إليه وقال:
"ربما هو التمثال الجديد لحماية المكان."
لكن شي ليان لم يقل شيئًا.
ففي الماضي، لو كان هناك تمثال لحراسة أرض، لكان بلا شك تمثال ولي العهد. أما الآن، فمن يدري؟ ربما جون وو، أو أحد المسؤولين الذين صعدوا حديثًا.
وبعد تردّد طويل، لم يستطع شي ليان كبح فضوله ليرى من حلّ محله. فنهض ببطء، واتجه بخطوات متثاقلة نحو الحشد ليلقي نظرة. كان التمثال مواجهًا ظهره له، فلم يستطع رؤية الوجه بوضوح، لكنه بدا كأنه راكع. أثار ذلك فضوله أكثر: أي مسؤول سماوي يُمثّل تمثالُه وهو راكع؟ فالتف حول الدائرة الكبيرة حتى رآه.
وعندما رآه، خلى ذهنه تمامًا.
لقد كان وجه التمثال وجهه هو!
ذلك التمثال الراكع وُضع على الأرض، فأقبل أحدهم يصفع رأسه بخشونة قائلاً:
"أخيرًا وصلنا به. هذا اللعين ثقيل فعلًا!"
قال آخر باستهزاء:
"ولِم تحملون تمثالًا كهذا؟ شكله قبيح، لمَ لم تجلبوا تمثال إمبراطور الحرب السماوي؟ أليس هذا... ما اسمه..."
"إنه ذاك، أليس كذلك؟ ألم يقولوا إن عبادته تجلب النحس؟ كيف تجرؤون على عبادته؟ بل ونقل تمثاله كله إلى هنا..."
ضحك ثالث:
"أنتم لا تفهمون شيئًا. صحيح أن عبادة إله النحس تجلب سوء الحظ، لكن هذا التمثال ليس للعبادة، بل للدوس! أليس دوس إله النحس يضمن حسن الطالع الدائم؟"
فانفرجت أسارير الجمع:
"فكرة ممتازة! رمز رائع!"
شعر فنغ شين ومو تشينغ بشيء غريب، ولما اقتربا صمتا أيضًا. كان فنغ شين على وشك الانفجار، لكن مو تشينغ أوقفه بعينيه.
وقال خافتًا:
"ولي العهد لم يتحرك بعد، فلماذا تصرخ أنت؟"
وبالفعل، كان شي ليان ساكنًا، وفنغ شين لم يعرف إن كان لديه حسابات أخرى، فلم يجرؤ على التصرف. فاكتفى بكبت غضبه، وعيناه تتقدان نارًا.
قال أحدهم بتذمر:
"أليس هذا... غير لائق؟ لقد كان إلهًا يومًا، سمو ولي العهد."
رد آخر باستهزاء:
"أرجوك! لقد سقطت مملكة شيان لي ، فأي ولي عهد بعد؟"
وأضاف ثالث:
"بل أنت المخطئ. دوس إله النحس ليس عيبًا، بل عليه أن يشكرنا."
فجأة قال شي ليان:
"أوه؟ ولمَ يشكركم؟"
أجاب الرجل بثقة متغطرسة:
"ألم تر عتبات المعابد؟ تدوسها أقدام الآلاف، بل الملايين. لكن هل رأيت كم من الأسر الثرية تتقاتل لشراء تلك العتبات لتضعها في بيوتها كبديل؟ لأن كل خطوة تدوس تلك العتبة تعني تكفيرًا عن خطيئة، أو سداد دين، أو جمع فضل. وهذا التمثال الراكع له نفس الفائدة. إن وطئنا رأسه، أو بصقنا عليه، ألا نكون بذلك نجمع فضائل لصالح ولي العهد؟ لذلك، عليه أن يشكرنا..."
لم يحتمل شي ليان سماع المزيد.
فما إن لفظ الرجل كلمة "يشكر"، حتى كان قبضة شي ليان قد ارتفعت وانقضّ بها عليه.
وانفجر الجمع على الفور:
"ماذا تفعل؟!"
"شجار!"
"من يثير المشاكل؟"
لم يستطع فنغ شين الانتظار أكثر فانضم إلى القتال، أما مو تشينغ فلم يُعرف أانجرّ بنفسه أم جُرّ جرًا. وفي النهاية، اشترك الثلاثة جميعًا في العراك.
وأثناء الفوضى، كادت الضمادة البيضاء على وجه شي ليان أن تُنتزع مرات عدة، لكن لحسن الحظ لم يحدث ذلك. كانوا جميعًا بارعين في القتال، لكن الطرف الآخر كان يفوقهم عددًا. وفوق ذلك، كان مو تشينغ يذكّرهم أن قتل البشر يزيد من خطاياهم، فصار قتالهم مقيدًا وكئيبًا. ورغم أن العراك أفرغ بعض الغضب، فقد انتهى بهم المطاف مطرودين شر طردة.
ساروا على ضفة نهر وهم أشعث المظهر، حتى تباطأت خطواتهم.
قال مو تشينغ بغضب، ووجهه متورم بالكدمات:
"عملنا طوال اليوم بجد، وفي النهاية خرجنا بلا شيء، كل هذا بسبب شجار!"
مسح فنغ شين الدم عن شفتيه وقال:
"كيف تذكر المال في وقت كهذا؟"
رد مو تشينغ بحدة:
"بل في وقت كهذا يجب ذكر المال! أي وقت هو؟ وقت جوع! سواء أعجبكم أم لا، من دون مال لا نستطيع فعل شيء! ألا تستطيعان كبح نفسيكما قليلًا؟"
ظل شي ليان صامتًا.
لكن فنغ شين انفجر:
"وكيف نكبح أنفسنا؟ لقد حوّلوه إلى تمثال راكع ليدوسوا وجهه! أنت لست من يُداس وجهه، لذا من السهل أن تتحدث باستخفاف!"
قال مو تشينغ ببرود:
"بما أننا خسرنا الحرب، فهذه ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة. إن لم يعتد على ذلك سريعًا، فالأفضل له أن يموت وحسب."
احتج فنغ شين باستياء:
"يتعوّد؟ يتعوّد على ماذا؟ على أن يُهان من الآخرين؟ على أن يدوس البشر وجهه؟ لماذا عليه أن يعتاد أمرًا كهذا؟"
صرخ شي ليان بغيظ:
"يكفي! توقفا عن الجدال. أأمر تافه كهذا يستحق الشجار؟"
فصمت الاثنان في وقت واحد.
وبعد لحظة، تنهد شي ليان قائلًا:
"لنذهب. ابحثوا عن عربة لنقل والديّ. علينا أن نغادر هذه المدينة الليلة."
أجاب فنغ شين:
"حسنًا."
سارا جنبًا إلى جنب قليلًا، لكن فجأة لاحظا أن مو تشينغ لم يتبعهما.
نظر شي ليان خلفه في حيرة:
"مو تشينغ؟"
وبعد صمت قصير، قال مو تشينغ:
"سموك، أريد أن أحدثك بأمر."
سأله شي ليان:
"ما هو؟"
لكن فنغ شين قال بنفاد صبر:
"ما بك الآن؟ لقد قلت إني لن أجادلك بعد الآن، ماذا تريد أكثر؟"
قال مو تشينغ ببساطة:
"أريد أن أرحل."
"...."
مع أن شي ليان شعر بانقباض غامض قبل أن ينطق، إلا أن أنفاسه توقفت حين سمع الكلمات تصدر فعلًا من فم مو تشينغ.
ظن فنغ شين أنه سمع خطأ:
"ماذا؟ ماذا قلت؟"
اعتدل مو تشينغ، وعيناه السوداوان القاسيتان لا تلينان، وهيبته هادئة.
"أرجوك اسمح لي بالرحيل."
صرخ فنغ شين:
"ترحل؟! وماذا عن سموه إن رحلت؟ وماذا عن الملك والملكة؟"
فتح مو تشينغ فمه وأغلقه مرات عدة، ثم قال أخيرًا:
"أنا آسف. هذا كل ما أستطيع فعله."
قال فنغ شين بحدة:
"لا، عليك أن تفسر فورًا. ماذا تقصد بقولك (هذا كل ما أستطيع فعله)؟"
أجاب مو تشينغ:
"الملك والملكة هما والدا سموه. أما أنا فلدي أمي، وهي أيضًا بحاجة لرعايتي. لا أستطيع أن أقول إن عليّ الاعتناء بشخص آخر ووالديه، وأهمل أمي. لذا أرجو أن يتفهم سموك، لا أستطيع أن أواصل البقاء إلى جوارك."
شعر شي ليان بالدوار فاتكأ على جدار قربه.
سأله فنغ شين ببرود:
"هل هذه هي الحقيقة فعلًا؟ لِم لم تذكر هذا من قبل؟"
قال مو تشينغ:
"هذا أحد الأسباب. أما السبب الآخر فهو أنني أرى أننا غرقنا في مأزق، لكن لكل منا فكرة مختلفة حول كيفية الخروج منه. أعذر صراحتي، لكن إن استمر الحال هكذا فلن يتحسن شيء، ولو بعد مليون عام. لقد تباينت طرقنا."
اشتعل غضب فنغ شين حتى صار يضحك ويهز رأسه، ثم التفت إلى شي ليان:
"سموك، هل سمعت؟ تذكُر ما قلته أول مرة؟ إن نُفيتَ يومًا، فسيكون هو أول من يتخلى عنك. ألم أقل؟"
بدت على مو تشينغ لمحة غضب، لكنه قال ببرود:
"رجاءً لا تجبرني. أنا أقول الحقيقة فقط. لكل إنسان رؤيته الخاصة؛ لم يولد أحد ليكون دائمًا على (الطريق القويم) للعالم البشري أو مركز الكون. ربما تستمتع أنت بالدوران حول شخص آخر، لكن غيرك ليس بالضرورة كذلك."
قال فنغ شين باحتقار:
"ما كل هذه الكلمات المسمومة؟ لا يهمني! ألا تستطيع أن تقول بوضوح إنك ستدير ظهرك لنا؟"
صرخ شي ليان فجأة:
"كفى!"
فتوقف الاثنان معًا. أزاح شي ليان يده عن جبهته، والتفت نحو مو تشينغ، يحدق فيه طويلًا قبل أن يقول:
"أنا لا أحب إجبار الآخرين على البقاء ."
ضغط مو تشينغ شفتيه، لكنه ظل منتصبًا.
قال شي ليان:
"اذهب."
نظر إليه مو تشينغ دون أن ينطق بكلمة. ثم انحنى بعمق، وأدار ظهره ورحل بالفعل.
راقبه شي ليان بعينين ثابتتين وهو يبتعد حتى ابتلعته ظلمة الليل. فقال فنغ شين بدهشة:
"سموك، أحقًا تركته يرحل هكذا؟"
تنهد شي ليان:
"وما عساي أن أفعل؟ قلت إنني لا أحب إجبار الآخرين على البقاء ."
صرخ فنغ شين:
"لكن... ذلك الوغد! ما به؟ حقًا رحل؟ هرب؟ اللعنة!"
جلس شي ليان على ضفة النهر وهو يفرك جبينه:
"دعه وشأنه. ما دام قلبه قد رحل عنا، فما فائدة بقائه؟ هل أربطه وأجبره على غسل ثيابي؟"
لم يجد فنغ شين ما يقوله، فجلس إلى جواره. وبعد لحظة تفجّر بغضب:
"تبًّا. ذلك الحقير يشارك في النعيم، لكنه يهرب ساعة الشدة! أما يتذكر جميلك؟!"
قال شي ليان:
"أنا من طلبت منه ألّا يتذكر. وأنت أيضًا... لا داعي لأن تكرر ذلك دائمًا."
اعترض فنغ شين:
"لكنه لا يمكن أن ينسى تمامًا! اللعنة! لكن لا تقلق يا سموك، أنا لن أتركك أبدًا، مهما حصل."
ابتسم شي ليان ابتسامة باهتة من غير تعليق. فنهض فنغ شين وقال:
"هل نذهب لنأخذ الملك والملكة؟ سأبحث عن عربة، ابقَ أنت هنا."
أومأ شي ليان:
"شكرًا لتعبك. كن حذرًا."
أجاب فنغ شين وغادر. أما شي ليان فنهض وسار بمحاذاة النهر قليلًا، وما زال يشعر بخفة في جسده كأن كل ما يحدث غير حقيقي.
لقد هزّه رحيل مو تشينغ من الأعماق.
أولًا، لأنه لم يتخيل قط أن شخصًا قريبًا منه قد يرحل فجأة. وثانيًا، لأنه دائمًا ما كان يؤمن بـ"الأبدية". مثلًا، الأصدقاء سيبقون أصدقاء إلى الأبد؛ لا خيانة، لا خداع، ولا فراق. ربما يفترقون أحيانًا، لكن ليس لأسباب مثل "الحياة لا تُطاق".
كما في الحكايات: البطل والجميلة خُلقا لبعضهما، فيجب ألا يفترقا أبدًا. وإن حصل، فبسبب موت مأساوي يفرّق بينهما، لا لأن البطل يحب اللحم والجميلة تفضل السمك، أو لأن البطل يلومها على إسرافها وهي تلومه على عاداته السيئة.
أن تخطو فجأة في الفراغ فتسقط ملايين الأميال لتكتشف أنك ما زلت في العالم البشري... لم يكن شعورًا جيدًا أبدًا.
وبينما كان يتمشى بلا هدف، لمح فجأة أضواء ذهبية متلألئة تتمايل أمامه. عندها فقط أفاق من شروده. وحين دقّق النظر، وجدها فوانيس عائمة فوق سطح الماء، تنساب مع مجرى النهر. وكان بعض الأطفال يلهون بمرح على الضفة.
فتذكر شي ليان:
"آه، اليوم عيد الفوانيس ."
في الماضي، كان يقام دائمًا طقس ضخم لهذه المناسبة في جناح القداسة الملكي، وكان يتطلع إليه منذ وقت طويل ولا ينساه أبدًا. أما الآن، فلم يعد يعني له شيئًا. هز رأسه ومضى في طريقه.
لكن فجأة، جاء صوت من الطريق الأمامي:
"أطفال، أطفال، هل تشترون؟"
كان الصوت شديد الوهن، أجشًا، يشوبه شيء من البرودة الشريرة. شعر شي ليان مباشرة أن هناك خطبًا ما، فرمى ببصره ليرى الطفلين ذوي الفوانيس قد توقفا عند جانب الطريق، ينظران بشيء من الفضول والرهبة.
في الظلام أمامهما جلس رجل. بدا شيخًا بثياب سوداء متسخة وممزقة، يكاد يذوب في عتمة الليل. كان بيده فانوس، يلوّح به نحو الطفلين بطريقة مريبة.
قال:
"فوانيسي مختلفة عن الفوانيس العادية التي في أيديكما. هذه كنوز نادرة؛ إن تمنيتما شيئًا فستتحقق أمانيكم حتمًا."
قال أحد الطفلين بتردد:
"ح-حقًا؟"
أجاب الشيخ:
"طبعًا. انظرا."
كان فانوسه في يده مطفأ، لكنه فجأة توهّج بضوء أحمر غريب. وعلى الأرض جواره أكثر من عشرة فوانيس أخرى، أخذت تومض بضوء أخضر مسكون غريب، مريب للغاية.
انبهر الطفلان، لكن شي ليان كان يعرف تمامًا ما يراه. كنوز نادرة؟! بل هو بريق الموتى المضيء!
لا بد أن أرواح أشباح صغيرة كانت مختومة داخل ذلك الفانوس ليشع بذلك الضوء الغريب. أما ذلك الشيخ، فلا شك أنه أحد المزارعين النصّابين المشبوهين، الذي قبض على تلك الأرواح البائسة التائهة من مكان ما، وحبسها داخل الفوانيس. الطفلان لم يكونا يعلمان الحيلة، فصفقا بفرح ورغبا في شراء الفوانيس.
أسرع شي ليان نحوهم وقال:
"لا تشتروا. إنه يكذب عليكم."
حدّق الشيخ فيه بغضب:
"أيها الوغد الصغير، ماذا قلت؟!"
كشفه شي ليان مباشرة:
"ذلك الفانوس ليس كنزًا، بل أداة شيطانية. فيه أشباح محبوسة، وإن أخذتموه إلى منازلكم لتلعبوا به، فسوف تلتصق بكم الأرواح."
وبمجرد أن سمع الطفلان أن هناك أشباحًا، لم يجرؤا على البقاء، وأطلقا صرخة "واااه!" قبل أن يركضا بعيدًا.
قفز الشيخ واقفًا وهو يصرخ بغضب:
"أتجرؤ على إفساد تجارتي؟!"
قال شي ليان محاججًا:
"كيف تجرؤ على ممارسة تجارة كهذه هنا؟ دعك من الأطفال الجهلة، حتى الكبار إن اشتروا فوانيسك الشريرة، سيصيبهم سوء كبير، وربما التصقت بهم أشباح ناقمة. أليس هذا إثمًا عظيمًا؟ وإن كان لا بد من بيعها، فعليك الذهاب إلى مكان مختص ببيع أشياء كهذه."
ردّ الشيخ:
"تقولها وكأنها سهلة. وأين أجد مكانًا (مختصًا) لبيع أشياء كهذه؟ الجميع ينصب بسطاته في أي مكان عشوائي وينتهي الأمر!"
ثم التقط حفنة من تلك الفوانيس القبيحة سيئة الصنع، وهو يزفر مستعدًا للرحيل.
ناداه شي ليان بسرعة:
"انتظر!"
زمجر الشيخ:
"ماذا؟ ماذا تريد؟ أأنت ستشتري؟"
قال شي ليان:
"قطعًا لا. أحقًا تنوي أن تواصل بيعها في مكان آخر؟ من أين أتيت بالأشباح التي في فوانيسك؟"
أجاب الشيخ:
"اصطدتها من ساحة المعركة الموحشة. إنها في كل مكان."
إذن، أليست تلك أرواح الجنود الموتى التائهة؟
عندما سمع شي ليان هذا، استحالت استهانته بالأمر، فأنبّه بجدية:
"توقف عن بيعها. اليوم عيد الفوانيس ! إن أثرت شيئًا اليوم فلن يكون الأمر هينًا. ثم إن تلك الأرواح لأبطال محاربين، كيف تبيعها كخردة؟"
قال الشيخ:
"حين يموت المرء لا يبقى سوى طيفه، من يهتم إن كانت روح بطل أم لا؟ بالطبع عظامي العجوز أهم. علينا جميعًا أن نعيش، وإن منعتني من البيع فماذا أفعل؟ أتشرّد؟ إن كان الأمر يهمك كثيرًا، فادفع أنت المال، هه!"
"أنت..."
وفي النهاية، اعترف شي ليان بالهزيمة.
"حسنًا. سأشتري."
ثم مد يده في جيبه وفتّش كل زاوية، فلم يجد سوى بعض القروش.
قال:
"هل يكفي هذا؟"
تفحّصه الشيخ وقال ساخرًا:
"طبعًا لا! كيف تكفي هذه التافهة؟!"
لم يكن شي ليان يعرف كم يفترض أن يكون سعر شراء عشرة فوانيس، فقد اعتاد في الماضي ألّا ينظر حتى إلى الأسعار. لكنه، وسط هذا الوضع المزري، تعلم فن المساومة وحده.
قال:
"فوانيسك ليست جميلة، وفوق ذلك مشؤومة. الأفضل أن تبيعها لي بثمن بخس."
احتج الشيخ:
"الثمن أصلاً زهيد وتريد أن تخفّضه؟ لم أرَ أحدًا أكثر إفلاسًا منك، يا للعار!"
شعر شي ليان بالعار يلسعه من كلماته، وقال:
"أنا ولي العهد، أقول لك. لم يسبق أن وصفني أحد بالبائس."
لكن، ما إن خرجت الكلمات من فمه حتى ندم عليها. ومع ذلك، لم يأخذ الشيخ كلامه على محمل الجد، وانفجر ضاحكًا:
"إن كنتَ ولي العهد، فأنا إذن الإمبراطور العجوز!"
شعر شي ليان ببعض الارتياح، وإن كان محرجًا. ثم قال ببساطة:
"هل ستبيع أم لا؟ هذا كل ما لدي من مال."
وبعد شدّ وجذب، تمّت الصفقة أخيرًا. استخدم شي ليان تلك القروش البائسة لشراء أكثر من عشرة فوانيس أشباح، ثم أخذها إلى ضفة النهر. وما إن حصل الشيخ على المال حتى اختفى. أما شي ليان فجلس على الشاطئ وبدأ بفكّ كل عقدة حمراء مربوطة على الفوانيس، مطلقًا سراح الأرواح الصغيرة التي كانت مختومة بداخلها، وأجرى لها طقسًا بسيطًا.
اندلعت ألسنة من النيران الشبحية من الفوانيس. كانت جميعها أرواحًا جديدة ماتت حديثًا؛ باهتة مشوشة، بلا وعي واضح، ضعيفة وهشة، ولهذا استطاع الشيخ أسرها بسهولة. وما إن خرجت من تلك الفوانيس الضيقة، حتى أحاطت بشي ليان، تدور حوله بحميمية، أحيانًا تحتك بجسده.
نهض شي ليان وقال برفق:
"اذهبوا الآن. ارحلوا."
وبدفع لطيف من يده، ارتفعت الأرواح أكثر فأكثر، محلّقة نحو الأفق، متلاشيًة تدريجيًا. هذا ما يُسمى "عودة الأرواح إلى العالم الآخر".
ظل شي ليان يحدق في السماء المرصعة بالنجوم طويلًا، حين سمع فجأة صوتًا خافتًا من خلفه.
"سموك..." ناداه الصوت.
تملّكه الذهول، فاستدار فورًا نحو مصدر الصوت. لم ينتبه إلا عندها لوجود كرة صغيرة من اللهب الشبح، لم ترحل بعد، ولم تتلاشى.
يبدو أن هذا الشبح الصغير كان أقوى من غيره؛ إذ امتلك وعيًا خاصًا، بل واستطاع الكلام.
اقترب شي ليان بدهشة وقال:
"هل كنت تناديني آنفًا؟ أنت... تعرفني؟"
وبمجرد أن لاحظها، بدا على كرة اللهب الصغير الحماس، فقفزت عاليًا. ومن صوتها، بدا أنها لشاب.
قالت:
"بالطبع أعرفك!"
تذكر شي ليان أنه كان مغطى بالوحل، في هيئة شعثاء غير لائقة، فشعر بمزيد من الحرج. ضم قبضته إلى فمه، ولم يرد الاعتراف بهويته. فكّر في أن يخبره أنه مخطئ، لكنه بعد لحظة تماسَك.
"لماذا بقيت هنا؟ ألم أُرسل الجميع إلى الرحيل؟ هل فاتني شيء؟"
وإلا، فكيف يبقى واحد بعد الطقس؟
أجاب الشبح:
"لا. لم تخطئ. أنا الذي لم أرغب بالرحيل، هذا كل ما في الأمر."
تساءل شي ليان:
"هل لديك أمنية لم تتحقق، أو رباط يقيّدك؟"
قال الشبح المجهول:
"نعم."
قال شي ليان:
"إذن، أخبرني. ما هي؟ إن لم تكن صعبة التحقيق، سأبذل جهدي لمساعدتك."
وخلف الشبح المجهول، كانت ثلاثة آلاف فانوس تنساب ببطء في الليل. فقال:
"لدي حبيب ما زال في هذا العالم."
بعد صمت، قال شي ليان:
"أفهم. هل هي زوجتك؟"
"لا يا سموك. لم نتزوج قط."
"آه."
قال الشبح:
"في الواقع، قد لا أُذكر كثيرًا. لم نتحدث حقًا يومًا."
فكّر شي ليان:
"لم يتحدثا؟ إن كان الأمر كذلك، كيف صار هذا الشخص (الحبيب) الذي ربط روحك بالعالم؟ ما مدى جماله إذًا؟"
ثم قال:
"إذن، ما هي أمنيتك؟"
أجاب الشبح:
"أريد أن أحميه."
عادةً، تكون أمنيات الأرواح شيئًا مثل: "أريد أن أعترف بحبي"، "أريد أن أمارس الحب"، أو الأسوأ: "أريد أن ترافقني إلى العالم السفلي". لكن "أن أحميه"؟ كان أمرًا نادرًا بالفعل، فارتعش شي ليان من الدهشة.
قال:
"لكن... لم تعد تنتمي إلى هذا العالم."
رد الشبح:
"وماذا في ذلك؟"
قال شي ليان:
"إن بقيت عنوة، فلن تنال راحة أبدًا."
لكن الشبح لم يبدُ مهتمًا:
"أتمنى ألّا أرتاح أبدًا."
أن تكون روحًا تائهة بهذا العناد، فغالبًا ما تكون خطيرة للغاية. لكن لسبب ما، لم يشعر شي ليان بأي نية قاتلة منه، فلم يقلق.
تابع قائلًا:
"لو علم حبيبك أنك لم تنل الراحة بسببه، قد يشعر بالذنب والاضطراب."
تردد الشبح قليلًا، ثم أجاب:
"إذن، لن أسمح له أن يعرف سبب بقائي."
قال شي ليان:
"لكن عاجلًا أم آجلًا سيُكتشف الأمر."
فأجاب الشبح:
"إذن، لن أسمح له أن يعرف أنني أحميه أصلًا."
وعند سماع هذا، تحرك قلب شي ليان. فقد كان حب هذا الشاب ليس مجرد كلام.
وبما أن الفوانيس كانت تحوي أرواحًا ضالة من ساحة المعركة، فلا بد أن هذا الشبح كان بدوره جنديًا شابًا.
قال شي ليان بخفوت:
"لقد فرّقتك الحرب عن حبيبك... آسف. أنا لم أنتصر."
لكن الشبح قال بصلابة:
"أن أموت في المعركة من أجلك هو أعظم شرف لي."
تجمد شي ليان في مكانه.
كانت عبارة: "الموت في المعركة من أجل ولي العهد هو أعظم شرف لجندي شيان لي" شعارًا ردده أحد الجنرالات لتحميس الجنود، ليقنعهم أن موتهم سيكون ذا معنى، وأن أرواحهم ستصعد للعالم الخالد. بالطبع، كان ذلك كذبًا. ومع ذلك، حتى بعد أن مات هذا الشاب وبقيت روحه تائهة، ظل يذكر العبارة ويؤمن بها بصدق وجدية.
فجأة، شعر شي ليان بحرارة تملأ عينيه، ورؤيته تتشوش.
قال:
"أنا آسف. انسني."
لكن لهيب الشبح ازداد توهجًا وهو يقول:
"لن أنسى. سموك، أنا إلى الأبد أوفى مؤمنيك."
كبح شي ليان دموعه بصعوبة:
"...لقد فقدت كل المؤمنين بي. إيمانك بي لن ينفعك، بل ربما يجلب عليك الكارثة. أتدري؟ حتى صديقي قد تخلّى عني."
أجاب الشبح، كأنه يقسم قسمًا:
"لن أفعل."
قال شي ليان:
"ستفعل."
لكن الشبح أصرّ:
"صدقني يا سموك."
قال شي ليان:
"لا أصدقك."
فهو لم يعد يصدق أحدًا... ولم يعد يصدق نفسه أيضًا.
يتبع...
ملاحظات المؤلفة MXTX:
هذا الكتاب يجري في الماضي؛ وهو عن أول نفي بعد سقوط شيان لي. يأتي بعد الكتاب الثاني. ليس طويلاً~
تعليقات: (0) إضافة تعليق