القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر الاخبار

ch187 tgcf

 الفصل مئة وسبعة وثمانين : الشبح الأبيض البارد؛ كلمات دافئة تربك ولي العهد -١-.






في ظلمة الليل، انكمشت حدقتا شي ليان حتى صارتا نقطتين صغيرتين للغاية.


ارتجف صوته:

"...أأنت؟!"


الأبيض عديم الوجه !


اقشعرّ شعر عنقه، فقفز واقفًا وهو يمد يده نحو سيفه. لكنه لم يجد شيئًا. عندها فقط تذكّر أنه كان قد رهن كل سيوفه. حتى الغصن الذي اتخذه سلاحًا سابقًا قد تحطّم. أي أنه يواجه هذا الكائن الآن بلا قوة روحية ولا سلاح!


منذ سنوات، حين سقطت مملكة شيان لي، الأبيض عديم الوجه من العالم. لم يبحث عنه شي ليان، ولم يفكر حتى في البحث، بل كان يرجو فقط ألا يظهر أبدًا. لكنه ها هو ذا الآن، يقف أمامه فجأة!


اقترب ذلك الرجل ذو الثياب البيضاء بخطوات متراخية. اجتاح شي ليان برد حاد، فتراجع خطوتين لا إراديًا، ثم تذكّر فورًا: لا تراجع! حتى الهرب لن يفيد!


صرخ بحدة:

"ماذا تريد؟!"


لكن الأبيض عديم الوجه لم يُجِب، واستمر يقترب ويداه متدليتان على جانبيه. كان جسد شي ليان يرتجف من قدميه حتى يديه، حتى زفراته البيضاء كانت تهتز.


أجبر نفسه على استدعاء السخرية، واللامبالاة، وضحكات الاستهزاء من أولئك المسؤولين السماويين الثلاثين، ومو تشينغ الذي أعرض عنه. فجأة، نسي خوفه، وهجم بيدٍ قاصدًا الضرب.


لكن قبل أن تهوي يده، اخترق جسده ألم فادح! لقد تنبأ ذاك المخلوق بحركته، وكان أسرع منه بخطوة، فظهر خلفه وركله في مؤخرة ركبته!


سريع جدًا!


سقطت ركبتا شي ليان بقوة على الأرض، وعندها فقط تسلّل إلى ذهنه خاطر مرعب:

حركته أسرع مما توقعت!


وفي اللحظة التالية، أحسّ بما هو أفظع: يد باردة، أصابعها مفتوحة، انطبقت فوق جمجمته!


صرخ بأعلى صوته. تلك اليد بالكاد ضغطت، ومع ذلك رفعته كاملًا من رأسه. ولم يشك لحظة أنه إن قبضت الأصابع قليلًا فحسب، فستتحطم جمجمته ويتحوّل رأسه إلى لحم ودم مسحوق. ولم يشك أيضًا أن ما أراده ذلك الكائن بالفعل... هو هذا!


تنفّس شي ليان بأنفاس متقطعة، أيقن أنه هالك لا محالة، وأغمض عينيه بإحكام. لكن، على غير المتوقع، لم يُطبق المخلوق قبضته. بل تراجع عن نية القتل، وزفر زفرة طويلة.


دام صوت أنينه الهادئ للحظة، ولم يتحرك بعدها. في الصمت المطبق، أعاد شي ليان فتح عينيه شيئًا فشيئًا.


كانت النيران الشبحية تملأ الأجواء، ترقص بجنون. كل كرة من اللهب كانت تراقب المشهد، تضحك، وأصوات الموتى تتعالى بالقهقهة. لكن معظمها بدا وكأن شيئًا أخافها، فلم تجرؤ على الاقتراب. وكانت هناك كرة من النار الشبحية أشد بريقًا من سواها، تطوف فوقهما، تهاجم الكائن خلف شي ليان مرارًا وتكرارًا، كحشرة ضعيفة تتحدى شجرة عملاقة.


ثم تجمّد جسد شي ليان فجأة.


لقد... عانقه الأبيض عديم الوجه !


ركع شي ليان منهكًا، فأحاطته ذراعان باردتان قويتان، ساحبًا إياه إلى حضن ميّت بلا روح.


من غير أن يدرك متى، كان الكائن قد جلس بجواره أيضًا. تمتم بصوت خافت:

"يا للأسى... يا للأسى. سموك، انظر إلى حالك، انظر ماذا فعلوا بك."


راح يهمس وهو يمسّد رأس شي ليان بحنوّ، بحركات رحيمة، كما لو كان يربّت على جروٍ جريح، أو طفل يحتضر من مرض شديد.


تحت ضوء القمر، كان نصف قناع الوجه المبتسم الباكي غارقًا في الظلال، لا يظهر منه إلا الجانب الباكي، وكأنه يذرف دموعًا صادقة من أجل شي ليان.


ومن خلال تلك اللمسات، أحس شي ليان بشيء غريب يشبه التعاطف، وكأن حضن صديق مخلص أو فرد من عائلته الدافئة يحتضنه. ارتعاش جسده هدأ قليلًا، وشعر بالدفء يتسلل إليه.


لم يتخيل يومًا أنه في أسوأ حالاته، سيجد الشفقة والدفء من هذا الكائن الغريب!


خرجت من حنجرته شهقات متقطعة، وازداد ارتجافه. طارت كرة النار الشبحية تلك إلى قلبه، تحاول أن تدفئه، لكنها ترددت، خائفة ألا تقدر على طرد البرد، فلم تقترب أكثر.


مسح الأبيض عديم الوجه شيئًا من الطين العالق عليه، ثم أشار له برفق:

"تعال إلي."


تلعثم صوته المرتجف:

"...أنا... أنا..."


لكن قبل أن يُكمل، اندفعت يده فجأة نحو قناع ذاك الكائن!


لقد نجح! طار القناع عاليًا في الهواء، فيما قفز شي ليان بعيدًا عدة أمتار، والخوف الذي اعتراه قبل قليل تبدّد تمامًا.


صرخ بغضب قاتم:

"مَن يذهب إليك أيها... الوحش!"


هوى القناع الأبيض على الأرض، وعلى الفور تجمّدت النيران الشبحية كلها. تشتّت نظامها، وصارت ترقص بهستيريا، تصرخ بلا صوت. أمّا الكائن فغطّى وجهه بيده وبدأ يضحك بخفوت.


ارتفع شعر جسد شي ليان خوفًا:

"لماذا تضحك؟!"


أجاب بنبرة ساخرة:

"ستأتي إلي يومًا ما."


كان صوته واثقًا. لم يفهم شي ليان قصده، فقال غير مصدّق:

"إلى جانبك؟! أنت من دمّرت شيان لي، وتريدني أن أذهب إليك؟ أجننت؟! أظنك مختلّ العقل!"


لم يكن بارعًا في السبّ، وحتى في أشد حالات الغضب لم يجد غير هذه الكلمات، ولو عرف أقسى وألعن الشتائم لأمطره بها. لكن الابيض عديم الوجه انفجر ضاحكًا، ورأسه مرفوع، ويده لا تزال تخفي نصف وجهه.


قال:

"ستأتي. في هذا العالم، لا أحد سواي سيفهمك حقًا، ولا أحد سواي سيبقى إلى جانبك للأبد."


قشعرّ بدن شي ليان، لكنه جادل بعناد:

"اخْتَفِ! كفّ عن هرائك المتعجرف! كيف تزعم أنه لا يوجد أحد لمجرد أنك قلت ذلك؟!"


طارت كرة نار شبحية إلى جانبه، تتحرك صعودًا وهبوطًا كأنها توافقه. لكن وسط تلك الألسنة الشريرة الكثيرة، لم يلحظها شي ليان.


أمام عينيه، قال الأبيض عديم الوجه بنبرة دافئة:

"أوه؟ أهناك أحد؟ ربما كان هناك في الماضي... لكن، أترى أنهم سيبقون بعد الآن؟"


"...."


سأله شي ليان بحدة:

"ماذا تقصد؟ بماذا تلمّح؟!"


لكنه لم يُجب، بل اكتفى بابتسامة ساخرة واستدار كأنه سيغادر.


قال بخفوت:

"سأنتظرك هنا، يا سموّ الأمير."


وكأن شي ليان قد يتركه يرحل بسهولة!

"انتظر! لا تذهب! ماذا فعلت بهم؟! هل مسست والديّ وفنغ شين؟!"


اندفع خلفه، مدّ يديه ليقبض على ظله الأبيض، لكن الآخر لوّح بردائه بخفة وأمسك كرة من النار الشبحية.


لم يقصد أن يهاجمه مباشرة، لكن شي ليان أحس بقوة مرعبة تهاجمه، فطار جسده عاليًا واصطدم بجذع شجرة ضخمة، فانشقّ الجذع وسقط متهدّمًا.


لو كان في حالته السابقة، لما اهتزّ حتى لو حطّم عشر شجرات. لكن الآن جسده بشري ضعيف، فمع هذا الارتطام شعر كأن عظامه تحطمت كلها، وسقط أرضًا فاقد الوعي.


وفي اللحظة الأخيرة قبل أن تُطبق عيناه، خُيّل له أن ذلك الرجل الأبيض يمد يده، وفي راحته كرة نار متوهجة.


ضحك وقال:

"أيها الروح، أخبرني... ما اسمك؟ يا له من أمر مثير..."


...



وحين استعاد وعيه، كان كل شيء قد اختفى.


كان جسده مغطى بدماء حامضة الطعم من صدره حتى فمه، ورأسه يدور بعنف. تمايل حتى نهض بصعوبة، يتمتم:

"...أبي! أمي! فنغ شين!"


تذكّر كل ما حدث قبل أن يغيب، ولم يجرؤ أن يضيع ثانية واحدة. ركض كالمجنون عشرات الأميال. وأخيرًا، بعد أكثر من عشرين يومًا وهو يحمل حقيبته على ظهره، عاد في ظلمة الليل إلى مخبأ الملك والآخرين.


كان شي ليان طوال الطريق في حالة هلع واضطراب، ينهشه القلق والخوف من أن يكون الأبيض عديم الوجه قد ألحق الأذى بعائلته وصديقه. وما إن عاد إلى ذلك الكوخ المتهالك حتى دفع الباب بقوة، وهتف قبل أن يلتقط أنفاسه:


"أبي! أمي! فنغ شين!"


الشكر للالهة ... لم يكن المنزل كما تصوّر في أسوأ كوابيسه، لم يشهد أي فوضى أو خراب، بل بدا تمامًا كما تركه.


كان شي ليان قد ركض بجسد مثخن بالجراح، حلقه جافّ حتى كاد أن يحترق عطشًا. شعر ببعض الارتياح، ثم ابتلع ريقه بصعوبة وتقدّم إلى عمق البيت.


"فنغ شين! أين أنتم..."


فتح بابًا، لكن صوته اختنق في حلقه.


كان فنغ شين في الداخل، وما إن رأى عودة شي ليان حتى صاح بدهشة:

"سموك! لماذا عدت؟"


لكن شي ليان لم يكن ينظر إليه، بل ثبّت عينيه بحدة على الرجل الأسود الثياب الواقف في مواجهته. أمام فنغ شين كان يقف رجل بملابس سوداء.


إنه مو تشينغ.


استدار مو تشينغ، وعندما رأى شي ليان، عضّ شفتيه وبدا متجهمًا. تقدم فنغ شين متجاوزًا إياه ليحيّي شي ليان.


"ألم تذهب للتدريب؟ كيف كان؟ ظننت أنك ستغيب عدة أشهر على الأقل. هل عدت بهذه السرعة لأنك أحرزت تقدمًا عظيمًا؟"


لكن شي ليان لم يُجب، بل ظلّ يحدّق في مو تشينغ وسأله: "أين أبي وأمي؟"


أجاب فنغ شين: "نائمون في الغرفة، لقد خلدوا للراحة. لكن، لماذا ملابسك متسخة هكذا؟ وما هذه الجروح على وجهك؟ هل تشاجرت مع أحد؟"


لم يجب شي ليان. وما إن تأكد أن والديه بخير، حتى تنفّس بارتياح، ثم التفت إلى مو تشينغ وقال ببرود: "لماذا أنت هنا؟"


صمت مو تشينغ، فأجاب فنغ شين نيابة عنه: "جاء ليسلّم بعض الأشياء."


تساءل شي ليان بحدة: "أي أشياء؟"


رفع مو تشينغ يده مشيرًا إلى جانب الغرفة، حيث وُضعت عدة أكياس نظيفة، على الأرجح مليئة بالأرز أو الحبوب.


ولما رأى صمت شي ليان الطويل، قال مو تشينغ بخفوت: "سمعت أنك بحاجة إلى دواء... سأفكّر بطريقة للحصول على بعضه لاحقًا."


قال فنغ شين: "جيد، نشكرك إذن. نحن بحاجة لهذه الأشياء الآن. لكن كن حذرًا، فالمسؤولون السماويون لا يجوز لهم تقديم عطايا للبشر سرًا." ثم اقترب من شي ليان وهمس: "أنا أيضًا تفاجأت أنه عاد ليساعدنا. يبدو أنني كنت قد حكمت عليه ظلمًا. على أي حال..."


إلا أن شي ليان قاطعه فجأة: "لا حاجة."


تجمّد وجه مو تشينغ للحظة، واشتدت قبضته.


سأل فنغ شين باستغراب: "ماذا لا حاجة؟"


أجاب شي ليان ببطء ووضوح: "لا أريد مساعدتك. ولا أريد أشياءك. رجاءً... غادر."


عند سماع كلمات "رجاءً غادر"، ازداد وجه مو تشينغ شحوبًا.


شعر فنغ شين أن هناك خطبًا ما وسأل: "ما الذي يحدث بالضبط؟"


خفض مو تشينغ رأسه وقال: "أنا آسف."


كان هذا أول اعتذار حقيقي يخرج من فمه منذ أن عرفوه، لكنه لم يكن كافيًا ليمسح ما جرى.


صرخ شي ليان وهو يشتعل غضبًا: "قلت لك، غادر!"


أمسك بالأكياس وأخذ يقذفها على مو تشينغ. تناثر الأرز على الأرض، وارتبك مو تشينغ محاولًا صدّها بذراعه من دون أن يرد. أمسك فنغ شين بكتفي شي ليان محاولًا تهدئته وهو مذهول:


"سموك! ما الأمر؟ ماذا فعل؟ ألم تذهب للتدريب؟ ماذا حدث بحق السماء؟"


وبينما كان يثبّت فنغ شين ذراعيه، قال شي ليان بعينين دامعتين: "...لماذا لا تسأله؟ لقد ذهبت للتدريب فعلًا، لكن اسأله لماذا عدت!"


كان الضجيج عارمًا، فاستيقظت الملكة من غرفتها، وقد ارتدت رداءً خارجيًا وخرجت بقلق: "بني، عدت؟ ماذا جرى لك..."


أسرع فنغ شين قائلاً: "لا شيء جلالتكِ، عودي إلى الداخل!" ثم دفعها برفق وأغلق الباب، قبل أن يلتفت غاضبًا إلى مو تشينغ: "ماذا فعلت؟ مو تشينغ، ماذا فعلت بالضبط؟! سموه، هل هذه الجروح من فعله؟"


اشتد نفس شي ليان، ولم يستطع النطق.


صاح مو تشينغ بارتباك: "ليس أنا! لم أضربه قط! فقط طلبت منه أن يغادر. لم أقل شيئًا جارحًا، ولم أرفع يدي عليه! لكنهم أصرّوا على السيطرة على تلك الأرض الروحية، ولو لم يغادر حينها لما انتهى شيء!"


صرخ فنغ شين: "أنت!!!..."


بعد تبادل الكلمات، أدرك فنغ شين أخيرًا ما حدث. اتسعت عيناه غضبًا، وأمسك بأحد الأكياس ورماه في وجه مو تشينغ صارخًا:


"اخرج! اخرج! اخرج!"


ارتد مو تشينغ إلى الخلف متأثرًا بالضربة، فيما كان الثلاثة يلهثون بشدة.


زمجر فنغ شين: "كنت أتعجب من هذا التغير المفاجئ فيك! لم أصدق أبدًا... تبا لك! لا أريد أن أراك مجددًا!"


صرخ مو تشينغ بصوت مبحوح: "نعم! كنت مخطئًا! أعترف بخطئي وأعتذر! لكني أردت حلّ المشاكل القائمة أولًا قبل التفكير في أي شيء آخر! والداك وأمي، نحن الثلاثة، من يعلم كم سنغرق في هذا الوحل؟ لو عدت أنا أولًا، ربما كان هناك أمل..."


قاطع فنغ شين صارخًا: "هراء! هراء تام! لا أحد يريد سماع أعذارك! اخرج اخرج اخرج اخرج!"


حاول مو تشينغ أن يبرر: "لو وضعت نفسك في مكاني..."


لكن فنغ شين قاطعه بعنف: "قلت لك كفى هراء! لا أريد الاستماع! أنا أعلم جيدًا أنني حتى لو كنت في مكانك لما فعلت فعلتك. لا داعي لأن أضع نفسي مكانك، فأنت لا تعدو كونك خائنًا!"


اشتدّ وجه مو تشينغ غضبًا واخضرّ، ثم تقدّم خطوة وهو يصرخ: "وعندما كان سموه في مأزق، ألم يُجبر هو أيضًا على السرقة؟ لماذا، عندما يتعلق الأمر بي، لا تستطيعون تقبّل الأمر؟!"


بصق فنغ شين ساخرًا:

"هاه؟ سرقة؟ من ارتكب سرقة؟ هل سموّه ارتكب سرقة؟ أي هراء تافه هذا الذي تقوله؟!"


"...."


توقف نفس شي ليان فجأة.


وبينما كان ينظر إلى ملامح فنغ شين الغاضبة تتحول تدريجيًا إلى صدمة، أدرك مو تشينغ أخيرًا أن شيئًا ما كان خطأ، فاستدار بارتباك نحو شي ليان متلعثمًا:

"أنت... لم...؟"


لم يتخيّل أبدًا أن شي ليان لم يخبر فنغ شين عن تلك الحادثة!


"آآآآآآآآآه!!!"


فقد شي ليان عقله فجأة، وأمسك بأقرب شيء إلى يده، وبدأ بمطاردة مو تشينغ لطرده خارجًا. أدرك مو تشينغ حينها أنه ربما ارتكب خطأً فادحًا، فلم يجرؤ على الرد، حتى بعدما تلقى بعض الضربات. وحين اندفع إلى الخارج ونظر خلفه، اكتشف أن شي ليان كان يستخدم مكنسة لملاحقته، فاسودّ وجهه فورًا.


"هل كان لا بد أن تسخر مني بهذه الطريقة؟!"


صرخ شي ليان بصوت مكسور:

"اخرج من هنا!"


لكمة شي ليان أطلقت رياحًا حادة، فأصابت مو تشينغ الذي بالكاد تفادى الضربة، تاركةً جرحًا دقيقًا ينزف على خده. مدّ يده ولمس الدم على أصابعه، ثم نظر إليها بوجه لا يُقرأ.


"...حسنًا. سأرحل."


كان جسد شي ليان كله يرتجف، منحنيًا من عند الخصر. ومع ذلك، تقدّم مو تشينغ خطوات قليلة ووضع أكياس الأرز أرضًا في النهاية.


"أنا راحل حقًا."


رفع شي ليان رأسه فجأة، وحين التقت عينا مو تشينغ بعينيه، ابتلع ريقه بتوتر. ثم لوّح بردائه وغادر من دون أن يتردد أكثر.


عندها فقط خرج فنغ شين، الذي كان مصعوقًا تمامًا، وهو يلهث:

"سموك! إنه يكذب، أليس كذلك؟ أي سرقة؟"


غطى شي ليان جبهته بيده، وقال بصوت مبحوح:

"...لا تسأل أكثر. أرجوك يا فنغ شين، أتوسل إليك، لا تسأل."


أصرّ فنغ شين: "لا، بالطبع لا أصدق ذلك. أريد فقط أن أعرف ما الذي جرى حقًا..."


لكن شي ليان صرخ، ووضع يديه على أذنيه، وهرب عائدًا إلى الكوخ. دخل غرفته وأغلق الباب عليه.


كان فنغ شين واثقًا أن سموّه لن يفعل أمرًا كهذا مطلقًا، لكن هذا ما جعل الموقف أكثر سوءًا—السيناريو الأسوأ قد تحقق!


أراد شي ليان أن يهرب بعيدًا، أن يختفي في مكان لا يعرفه فيه أحد. لكنه تذكر كلمات الأبيض عديم الوجه، فلم يجرؤ على الابتعاد كثيرًا، ولم يستطع سوى أن يحبس نفسه داخل الغرفة، رافضًا الاستجابة لنداءات فنغ شين أو الملكة.


استغرق الأمر يومين كاملين حتى هدأ قليلاً. وعندما جاء فنغ شين يطرق بابه مجددًا، فتح شي ليان الباب بصمت. كان فنغ شين يحمل صينية في يده، وقال وهو يقف عند العتبة:


"جلالتها أعدّت لك هذا اليوم، وأوصتني بشدّة أن أوصله لك."


كان ما على الصينية شيئًا أخضر وأرجواني، منظره مرعب.


أضاف فنغ شين مبتسمًا: "إن كنت ترى أن حياتك في خطر، يمكنني أن أنهيه عنك، ولن أخبر جلالتها، هاها."


كان شي ليان يعلم أن فنغ شين ما زال يرغب في سؤاله عن موضوع السرقة، لكنه خشي أن يغلق على نفسه مجددًا، فابتلع فضوله وتظاهر وكأن شيئًا لم يحدث. لكنه لم يكن بارعًا في المزاح، فبدت دعاباته جافة، مما زاد الموقف توترًا.


والحق يُقال، طعام والدته كان سيئ المذاق حقًا، وكلما زادت محاولاتها في المطبخ، ضلّت أكثر عن الطريق الصحيح. أما شي ليان، فعلى الرغم من أنه لم يطبخ من قبل، إلا أن طعامه لم يكن سيئًا. ربما كان ذلك موهبة طبيعية. ومع ذلك، أخذ الطبق وجلس على الطاولة ليأكله بصمت. على أي حال، لم يعد يذوق شيئًا مما يدخل فمه.


على الأقل كان هناك ما يخفف عنه: فرغم أنه كان واثقًا أن الملك سمع تلك الليلة، إلا أن تصرفات الأيام الماضية لم تُظهر أن الملك أو الملكة قد علما بحادثة السرقة. فلو علما، لكان الملك قد انفجر غضبًا منذ البداية. أما فنغ شين، فلن يبوح لهما بشيء أبدًا. لذا، شعر شي ليان ببعض الاطمئنان.


وبينما كان غارقًا في أفكاره، نهض فنغ شين فجأة، فأفاق شي ليان وسأله:

"إلى أين؟"


أمسك فنغ شين بقوسه وقال: "حان وقت الخروج للعزف في الطرقات."


نهض شي ليان أيضًا وقال: "سأذهب معك."


تردد فنغ شين قليلاً، ثم قال: "دعك من ذلك، الأفضل أن ترتاح قليلًا."


لكن رغم أنه لم يسأله شيئًا، كان شي ليان يشعر بعدم ارتياح شديد. الآن بعدما عرف فنغ شين تلك الحقيقة، بدا وكأن حاجزًا قد ارتفع بينهما، لن يزول أبدًا. كل كلمة أو نظرة منه صارت ثقيلة، تحتاج إلى تفسير.


هزّ شي ليان رأسه وتنهد: "لأكن صريحًا معك. لم يعد لديّ ذهن للتدريب."


كان فنغ شين يتوقع هذا، فانحنى برأسه دون أن يعرف ما يقول.


أكمل شي ليان: "إن كان الأمر كذلك، فلا جدوى من البقاء عاطلًا في المنزل. على الأقل يمكنني أن أخرج وأعزف أيضًا، فأكسب بعض المال... حتى لا أكون مجرد..."


حتى لا يكون مجرد عالة.


لكنه لم يجرؤ على نطق الكلمة الأخيرة. ربما لأنه شعر فعلًا أنه أصبح عالة بالفعل، فلم يشأ أن يعترف بذلك.


قال فنغ شين بقلق: "يمكنني القيام بهذا وحدي. سموك، لم تتناول سوى وجبة واحدة في اليومين الماضيين، الأفضل أن ترتاح أكثر."


لكن إصرار فنغ شين زاد رغبة شي ليان في إثبات نفسه. التفت نحو المرآة قائلاً: "لا بأس، سأرتّب مظهري فقط، حتى لا أبدو كمتشردٍ مجنون..."


كان ينوي أن يهذب نفسه قليلًا، لكن ما رآه في انعكاس المرآة جعله يتجمد رعبًا.


ففي المرآة، لم يكن له وجه... بل كان ما يرتسم على ملامحه هو قناع نصف باكٍ، نصف مبتسم.






يتبع...

  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
Fojo team

عدد المقالات:

شاهد ايضا × +
إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق

X
ستحذف المقالات المحفوظة في المفضلة ، إذا تم تنظيف ذاكرة التخزين المؤقت للمتصفح أو إذا دخلت من متصفح آخر أو في وضع التصفح المتخفي