الفصل مئة واربعة وتسعين : الشبح المجهول يقدّم زهرة مجهولة -١-.
ما زالت مشاعر شي ليان غارقة في صرخات الأرواح الناقمة، ولم يستطع استعادة هدوئه للحظة، فأجاب بارتباك:
"...لا تنادني بذلك اللقب."
فكلما سمع أحدًا يخاطبه به، كان الأمر كمن يذكّره بشيء يثير ضيقه، وكل نداء كهذا كان يهزّ قلبه بعنف.
غير أنّ وومينغ قال:
"سموك سيبقى دومًا سموك ."
رمقه شي ليان بنظرة باردة. بالطبع، لم يكن يرى وجه ذلك المحارب المتشح بالسواد، إنما وجهًا مبتسمًا فقط. وكذلك الآخر، حين ينظر إليه، لم يكن يرى سوى قناعٍ أبيض شاحب يرسم ابتسامة باكية.
قال شي ليان بجفاء:
"إن واصلت مناداتي بهذا اللقب، سأبعثر روحك. لا تظن أنك حقًا قوي إلى ذلك الحد."
انحنى الشاب الأسود الرأس، ولم ينطق بكلمة.
عاد شي ليان فتماسك وقال:
"اذهب وابحث في محيط خليج لانغ إر، وابحث عن أنسب موقع لإقامة مصفوفة تُجرى عليها الطقوس."
فأجاب وومينغ: "حسنًا يا سيدي."
أغمض شي ليان عينيه، توقف قليلًا، ثم فتحهما مجددًا، وحدّق بذلك المحارب المظلم وهو يقطّب حاجبيه:
"لماذا ما زلت هنا؟"
أجابه:
"المكان محدّد. ماذا عن الوقت؟"
قال شي ليان: "الوقت؟"
قال:
"أرواح الموتى لم تعد قادرة على الانتظار؛ يجب أن نجد هدفًا لنصب اللعنة سريعًا، من دون تأخير."
وبالفعل، لم يكن بالإمكان التأجيل كثيرًا. وبعد صمت قصير، قال شي ليان:
"ثلاثة أيام."
سأله وومينغ: "لماذا ثلاثة أيام؟"
ولسبب ما، كان شي ليان يفقد أعصابه بسهولة كلما تحدث مع هذا الرجل. فهتف:
"في غضون ثلاثة أيام سيكون القمر بدرًا. إطلاق مرض الوجوه البشرية حينها سيزيد قوته كثيرًا. أنت تسأل أكثر من اللازم، فقط اذهب."
أومأ وومينغ برأسه وتراجع في صمت. أغلق شي ليان عينيه ثانية ووضع يده على جبينه، محاولًا تخفيف هذا الصداع الذي ينهش رأسه. فجأة، سمع ضحكة ساخرة باردة من خلفه.
وبمجرد أن سمع هذه الضحكة المألوفة، تجمّد دم شي ليان في عروقه. استدار على الفور، وحقًا، خلفه جلس شخص أبيض الثياب، يضع قناع الابتسامة الباكية، مرتديًا لباس الجنائز بأكمامه الفضفاضة، يداه مخبأتان، يراقبه من على المذبح.
الأبيض عديم الوجه!
سحب شي ليان سيفه وانقضّ عليه، لكن الرجل الأبيض صدّ حافة النصل بين إصبعيه فقط.
تنهد وقال:
"كما توقعت. هذه الهيئة تليق بك جدًا."
إن لم ينزع كلاهما أقنعتهما، فلن يتمكن أحد من تمييزهما؛ فهما متشابهان من رأسهما حتى أخمص قدميهما. وبعد بضعة اشتباكات، كان المشهد وكأن رجلين أبيضين يتقاتلان، ولا أحد غيرهما يمكنه معرفة من هو من.
تفادى الأبيض عديم الوجه جميع ضربات شي ليان بسهولة، وهو يسأل:
"سموك، لقد دفنت والديك في أرض موحشة وغريبة كهذه، ألا ترى أنك ظلمتهما؟"
هبط قلب شي ليان، وصاح:
"لقد لمست جثث أبي وأمي؟ هل دنّست رفاتهما؟!"
ردّ الأبيض عديم الوجه:
"لا، بل على العكس. ساعدتك في منحهما دفنًا لائقًا ورسميًا."
تفاجأ شي ليان، فقال الآخر:
"لقد حملتهما إلى ضريح العائلة الملكية في شيان لي، وألبستهما أردية نادرة وثمينة لتحفظ جثتيهما من التحلل لآلاف السنين. حتى إذا زرتهما مرة أخرى، ستتمكن من رؤية نفس الملامح كما لو كانا ما يزالان على قيد الحياة."
ثم أخبره بمكان الضريح الملكي والطريقة للدخول إليه. كان من المفترض أن يخبره الملك أو غوشي بذلك، لكن كلاهما إما مات أو اختفى قبل أن يفعل.
وقف شي ليان مشدوهًا ومشككًا:
"ولِمَ تعرف أنت طريقة الدخول إلى الضريح الملكي؟"
ابتسم الأبيض عديم الوجه وقال:
"أنا أعرف كل شيء عن سموك."
فبصق شي ليان بغضب:
"أنت لا تعرف شيئًا!"
لم يكن معتادًا على خروج مثل هذه الألفاظ من فمه، لكن الأبيض عديم الوجه، وكأنه قرأ أفكاره، رمقه من أعلى لأسفل وقال بلطف:
"لا تقلق، لا بأس. من الآن فصاعدًا، لن يكون هناك شيء يقيّدك، لن يكون هناك من يضع عليك توقعات لا حاجة لها، ولن يكون هناك من يعرف هويتك الحقيقية. لذا، تستطيع أن تفعل بحرية كل ما تشاء."
سماع هذا الكلام أدخل الحيرة إلى قلب شي ليان.
لماذا جاء هذا الوحش إلى هنا؟
الجواب كان واضحًا: ليُبدي حسن نيّته.
نعم، قد يبدو الأمر مثيرًا للسخرية، لكن غريزة شي ليان أخبرته أن هذا الكائن جاء ليقدّم له معروفًا. سواء بدفنه لوالديه بشكل لائق أو بمحاولة تشجيعه، كان كل ذلك بنية "الخير".
لقد بدا سعيدًا للغاية، أكثر من أي مرة التقى فيها شي ليان به. وكأن رؤية شي ليان في هذه الحالة جعلته مسرورًا على نحو استثنائي، حتى أنه لا إراديًا أظهر لينًا ولطفًا. هذا اللطف جعل قلب شي ليان يرف لوهلة امتنانٍ قد يجلب الدموع، لكنه شعر بالاشمئزاز أكثر من أي شيء آخر.
قال شي ليان ببرود:
"لا تفرح كثيرًا. لا تظن أنني سأدع مخلوقًا مثلك يبقى في هذا العالم. حالما أمحو يونغ آن من على الخريطة، سأأتي لأجلك. فاستعد جيدًا!"
فتح الأبيض عديم الوجه كفيه وهز كتفيه وقال:
"أرحب بك بذراعين مفتوحتين. حتى لو جئت بنية قتلي، سأكون بانتظارك هنا. وحين تصبح قويًا بما يكفي لتقتلني، عندها فقط ستستطيع أن ترث مكاني. لكن—"
هنا بدا أن الابتسامة تحت القناع قد تلاشت:
"هل ستدمر يونغ آن فعلًا؟"
سأله شي ليان بغضب:
"ماذا تعني؟"
قال:
"كان بإمكانك التحرك الآن، فلماذا اخترت الانتظار ثلاثة أيام؟ أيمكن أن تكون مترددًا مع اقتراب ساعة الحسم؟ أيمكن أنه، حتى بعد سقوط مملكتك وموت عائلتك، لا تزال تفتقر إلى الشجاعة للانتقام؟ هل سأشهد فشلًا جديدًا لسموك العالي؟"
كانت كلمة "فشل" كخنجر يغرس في أذنيه. رفع شي ليان سيفه وانقضّ، لكنه تعثر وسقط.
وفي غفلة، انتزع الأبيض عديم الوجه سيفه الأسود، وصوته اللطيف السابق تحوّل إلى نبرة متعالية:
"هل تعرف ما الذي تبدو عليه الآن؟"
أمسك شي ليان بالحذاء الأبيض الثلجي الموضوع على صدره، لكنه مهما دفع بكل قوته لم يتحرك قيد أنملة. ظل مُثبتًا أرضًا بذلك القدم، غير قادر على النهوض.
انحنى الأبيض عديم الوجه قليلًا وقال:
"أنت مثل طفلٍ غاضب. لم تصل بعد لمرحلة الحسم."
صرخ شي ليان بغضب:
"ومن قال إنني لم أصل؟!"
سأله الأبيض عديم الوجه:
"إذن ما الذي تفعله الآن؟ أين لعنتك؟ أين موتاك؟ والدك ووالدتك، جنودك، وشعبك... كم هو أمر مثير للشفقة أن يُفرض عليهم إله مثلك! لم تستطع حمايتهم وهم أحياء، ولا تستطيع حتى الانتقام لهم بعد موتهم! أيها القمامة عديمة الفائدة !"
ضغط بقدمه أكثر، فاندفعت خيوط الدم فورًا من تحت حواف قناع شي ليان الباكي الضاحك؛ متدفقةً من حنجرته.
ترك الأبيض عديم الوجه اليد الممسكة بالسيف، ودس طرفه الأسود اللامع عند عنق شي ليان، مارًّا فوق ذلك القيد الملعون، باعثًا في داخله ذكرياتٍ معينة.
قال:
"هل ترغب أن أُعيد تذكيرك كيف يكون شعورك عندما تُثقب بمئة سيف؟"
الخوف الساحق جعل تنفس شي ليان يتقطع، خائفًا جدًا لدرجة أنه لم يجرؤ على الحركة. وبعد أن بث فيه الرعب، تغيّر الأبيض عديم الوجه فجأة وصار صوته أكثر وُدًّا.
سحب قدمه، وساعد شي ليان المذعور الجامد على الأرض لينهض جالسًا، ثم أمسك بذقنه ودفعه لينظر إلى اتجاه معين.
قال:
"تعال، انظر. هكذا تبدو الآن."
ما جعله ينظر إليه كان التمثال الإلهي المدنس على المذبح المُدنّس.
سأله الأبيض عديم الوجه:
"من عليك أن تشكر لكونك وصلت إلى هذه الحال؟ أتظن أنه أنا؟"
وكأن دماغ شي ليان يُغسل قسرًا مرة أخرى، تُسكب فيه أشياء جديدة مرارًا، مما يجعله أكثر ارتباكًا، وأكثر شكًّا. حتى إنه نسي غضبه.
تساءل بذهول:
"...ما هدفك؟ لماذا تتشبث بي هكذا؟"
أجابه الأبيض عديم الوجه:
"لقد أخبرتك. أنا جئت لأرشدك وأعلّمك. أما الدرس الثالث الذي أُلقنه لك فهو هذا: إن لم تستطع إنقاذ الناس، فدمّرهم. وحده عندما تدوسهم تحت قدميك سيبدؤون بتمجيدك!"
بعد أن قال لشي ليان تلك الكلمات، شعر فجأة بصداعٍ حادّ كأن رأسه سينفجر، فأمسك برأسه وصرخ بألم.
إنها تلك الأرواح الحاقدة!
عدد لا يُحصى من الأرواح الناقمة كانت تعوي وتنوح داخل دماغه، حتى شعر شي ليان أن رأسه سينفجر، ورغب أن يتدحرج على الأرض من شدّة الألم. أما الأبيض عديم الوجه ، فقد انفجر ضاحكًا بجانبه.
قال بنبرة مريبة وناعمة:
"إنهم لم يعودوا قادرين على الانتظار. بعد ثلاثة أيام، إن لم تُطلق مرض الوجوه البشرية، وإن لم تمنحهم هدفًا يلعنونه، فسيكون هدف لعناتهم هو أنت. هل تعلم ما الذي ستصبح عليه حينها؟"
شعر شي ليان أن ذلك السيف الأسود الجليدي قد حُشر مجددًا في يده، وصوت يدوّي بجوار أذنه:
"لم يعد أمامك خيار للعودة."
وعندما بدأ ذلك الصداع المبرح يتلاشى أخيرًا، أسقط شي ليان يديه وفتح عينيه، فلم يجد أحدًا في قصر ولي العهد المتهالك سوى نفسه. أما الرجل ذو الثياب البيضاء، الذي يشبهه تمامًا، فقد اختفى منذ زمن.
لا يُعرف كم من الوقت مضى، لكن الليل كان قد حلّ. كان قصر ولي العهد غارقًا في الظلمة، خالٍ من أي ضوء. عندها اضطرب قلب شي ليان، وأدرك أمرًا مهمًا:
لقد مرّ يوم كامل من الأيام الثلاثة.
في تلك اللحظة، بدا أن وميضًا أبيض قد مرّ داخل ظلام القاعة. التفت شي ليان ليرى ما هو، وعندما تبيّن له المشهد بوضوح، انكمشت حدقتا عينيه خلف القناع.
خطف ذلك الشيء بسرعة وصاح:
"ما... ما الذي تفعله هذه الزهرة هنا؟"
لقد كانت زهرة بيضاء صغيرة، طرية وضعيفة، موضوعة على اليد اليسرى للتمثال الإلهي المتفحّم، المبتور الأطراف. جعلها هذا التناقض تبدو نقيّة كالجليد، لكنها في الوقت نفسه حزينة للغاية. وكأن التمثال تحمّل كل تلك الإصابات ليحمي هذه الزهرة الصغيرة.
لم يعرف شي ليان لماذا أثار فيه هذا المشهد غضبًا شديدًا، فصرخ:
"أيها الشبح! أخرج!"
وبالفعل، ظهر بعد لحظة ذلك المحارب الأسود الحامل للسيف، كما كان متوقَّعًا. لم يكد يتكلم حتى قاطعه شي ليان بسؤال صارم:
"ما قصة هذه الزهرة؟ من وضعها هنا؟ أنت من فعل هذا؟"
أخفض وومينغ رأسه قليلًا، وتوقفت نظراته لبرهة عند الزهرة التي بدت وكأنها تُسحق حتى الاختناق في يد شي ليان، ثم قال بهدوء أخيرًا:
"لم أكن أنا."
فصاح شي ليان:
"إذن من الذي فعلها؟؟"
سأل وومينغ:
"ولِمَ يغضب سموك هكذا عندما يرى هذه الزهرة؟"
تغيّر وجه شي ليان إلى السواد، وألقى بالزهرة على الأرض قائلًا:
"...خدعة كهذه تُثير اشمئزازي."
لكن وومينغ قال:
"ولِمَ يظن سموك أنها خدعة؟ ربما كان هناك حقًا من يؤمن بك ويعبدك هنا."
يتبع...
تعليقات: (0) إضافة تعليق