الفصل مئة وثلاثة وتسعين : الشبح ذو الثياب البيضاء يعيّن المحارب الأسود جنرالًا -٢-.
قال وومينغ: "سموك ، سأفتح الطريق".
لكن شي ليان أوقفه: "لا حاجة، سأفعلها بنفسي".
ثم قفز نازلًا، خفيفًا كزهرة بيضاء تتساقط من غصنها مع نسمة ريح، وهبط بلا صوت أمام قاعة القصر.
وبينما كان يهمّ بدفع الأبواب ليفتحها، انبعث من داخل القاعة صوت بكاء رضيع.
لكن لانغ يينغ لم تكن له أي محظيات، وابنه مات منذ زمن بعيد، فمن أين أتى رضيع داخل القصر؟
لم يعطِ شي ليان الأمر أهمية. فحتى لو كان بالداخل جيش كامل من الملايين، لما خاف. رفع ساقه وركل أبواب القصر!
ويا للمفارقة... لم يكن في القاعة الواسعة سوى شخص واحد فقط، لم يوجد أثر لأي روح أخرى، ولا حتى رضيع. وحين رأى ذلك الشخص من جاء، رفع رأسه.
قال: "أتيت؟ لقد كنت أبحث عنك".
كان الجالس داخل القصر هو لانغ يينغ نفسه.
ورغم أنه صار ملكًا ذا شأن، لم يكن يرتدي ثيابًا فاخرة، بل جلس متصلّبًا على العرش. استغرب شي ليان من ردّ فعله للحظة، قبل أن ينتبه أنه ما يزال مرتديًا ثوب الجنازة مع القناع على وجهه، فظنّه لانغ يينغ الأبيض عديم الوجه.
كانت مصفوفات سحرية قد نُصبت داخل القاعة أيضًا، وحين اجتاز شي ليان العتبة شعر بقوة تمنعه من الدخول. لكنه ضغط قدمه بقوة أكبر فاخترق الحاجز بسهولة، وتعالى صوت تحطم في الأجواء.
اندفعت برودة الشتاء وهواء الليل إلى القاعة، تملأ أكمام شي ليان برياح هادرة، فقال بصوت بارد: "لماذا كنت تبحث عني؟"
وعندما سمع صوته، تغيّرت ملامح لانغ يينغ قليلًا: "إنه أنت؟"
اقترب شي ليان ببطء، حذاؤه الأبيض النقي يخطو على أرضية الحجر المجمّد، خطوة بعد أخرى. وقال: "نعم، إنه أنا".
لانغ يينغ، ذلك الرجل البسيط من عامة الشعب، قاد جيشًا وأسقط مملكة شيان لي . وبهيبة الملك التي تحيط بجسده، لم يكن بوسع أي روح شريرة عادية أن تقترب منه. لكن هذه المرة، جاء شي ليان وهو محاط بملايين الأرواح الغاضبة لأولئك الذين ماتوا في ساحات المعارك!
كان واثقًا أن لانغ يينغ لن يستطيع مقاومة هذا العدد المهول من الأشباح المليئة بالكراهية. وبالفعل، الأرواح الحاقدة كانت تضطرب، تتململ في لهفة للانقضاض وانتزاع جسد العدو الحيّ. كان صوت ضجيجها واضحًا لأي إنسان، ومع ذلك لم يظهر على لانغ يينغ لا صدمة ولا ذعر.
قال: "جئت لتقتلني؟"
لم يُجب شي ليان. وفي اللحظة التالية اندفع أمام لانغ يينغ وأمسك بشعره، دافعًا رأسه بقوة نحو الأرض.
نجاح!
تحت قناع الضحك والبكاء، انفرجت شفتا شي ليان بابتسامة لا إرادية.
لقد كان محقًا! الآن يمكنه هزيمة لانغ يينغ!
بعد أن تخلّص من قيد كونه مسؤولًا سماويًا، الذي كان يجعله عاجزًا أمام رجل يملك حظ الملك، صار هو، بجسد بشري تخلى عن ألوهيته، قادرًا أخيرًا على سحقه. قلبه كان يخفق بجنون، وهمّ بالخطوة التالية... لكن فجأة تجمّد وجهه.
"ما هذا الصوت؟"
إيييه... ووو... سمع بكاء رضيع ضعيف مجددًا. لكن لم يكن هناك أي طفل داخل القاعة!
أنصت بتركيز. لا... الصوت لم يأتِ من الخارج، بل من فم لانغ يينغ نفسه، الذي كان مُثبتًا تحت قبضته!
أدق من ذلك... الصوت كان يخرج من جسده!
مزّق شي ليان ثوب لانغ يينغ، فأتسعت عيناه مذهولًا وقفز مبتعدًا.
"...ماذا... ما هذا؟!"
انقلب لانغ يينغ ببطء وجلس منتصبًا، وقال: "لا تخف".
لكن تلك الكلمات لم تكن موجّهة إلى شي ليان، بل إلى الشيء الملتصق بجسده.
على صدر لانغ يينغ برز وجهان بشريّان واضحان، كل منهما بحجم وجه حقيقي، كأنهما ورمان بارزان. الوجه الأكبر كان أنيقًا جميل الملامح، يسهل تمييزه كوجه امرأة، أما الأصغر فكان منكمشًا جافًا كوجه رضيع، وصوت البكاء كان يتسرب من شفتيه.
داء الوجوه البشرية!
ذهل شي ليان: "كيف أصبت بداء الوجوه البشرية؟!"
لكن لانغ يينغ أجاب بهدوء: "هذا ليس داء الوجوه البشرية".
صرخ شي ليان: "كيف ليس هو؟ إن لم يكن هذا، فما هو إذن؟!"
قال لانغ يينغ: "إنها زوجتي وابني. وليسا ما تصفه أنت".
رفع يده برفق يلمس الوجوه على صدره، كما يلمس زوج حنون زوجته وابنه. لكن تلك الوجوه لم تستطع حتى فتح أعينها، ولم يكن بإمكانها سوى فتح أفواهها للبكاء والأنين. لها هيئة البشر، لكنها ليست بشرًا كاملين.
بعد لحظات رفع لانغ يينغ رأسه وقال: "أين الأبيض عديم الوجه ؟ لقد قال إن زوجتي ستعود إن فعلت هذا، لكن مضى وقت طويل وما زالت لا تستطيع الكلام. ما الذي يحدث؟ أخبره أن يلقاني بسرعة!"
وعند سماع ذلك، أدرك شي ليان الحقيقة: "إذن سمحتَ للأبيض عديم الوجه أن يزرع أرواح زوجتك وابنك الغاضبة في جسدك؟"
هكذا انكشف السر. جميع التعويذات والمصفوفات التي مرّ بها شي ليان في طريقه إلى القصر لم تكن لمنع دخول أحد، بل لمنع تلك الأرواح من الهروب خارجه! لانغ يينغ، الذي صار ملكًا، كان يستخدم جسده ولحمه ليُربّي سرًا روحَي زوجته وابنه المليئتين بالحقد!
كان شي ليان قد جاء باحثًا عن الانتقام، لكنه لم يتوقع أن يجد لانغ يينغ قد جرّد نفسه بنفسه من إنسانيته وزرع المرض في جسده. بدا أن الوجوه الملتصقة به قد طال بها الزمن، إذ بدأت تنبت أذرعًا وأرجلًا صغيرة مترهلة، مشوهة ومرعبة. وكانوا قد استنزفوا بالفعل كل غذاء جسده؛ أضلعه بارزة بشكل غريب، بطنه غائر، بشرته صفراء شاحبة، ملامحه هزيلة ذابلة، كأنه لا يملك سوى أيام قليلة ليعيشها. لم يعد هو ذلك المحارب القويّ الضاري الذي مزّق الممالك في ساحة القتال.
ويبدو أنه، رغم انتصاره في الحرب وتوّجهه ملكًا، لم يعش حياة سعيدة. لم يشعر شي ليان بأي ارتياح لهذا المشهد، وأمسك بلانغ يينغ من جديد.
صرخ بغضب: "أيُّ مزحةٍ هذه؟!"
لم يكن قد انتزع روح عدوه بعد، وإذا بالعدو يحتضر ويموت من تلقاء نفسه! ما هذا الجنون؟! ماذا عساه يفعل الآن؟!
وبينما كان ممسكًا به، تدحرج شيء من جسد لانغ يينغ، يتلألأ بلون أحمر، يتقافز على الأرض حتى ابتعد. قبض لانغ يينغ على يدي شي ليان وكأن هذه الحركة البسيطة أضحت فوق طاقته.
لهث قائلًا: "اللؤلؤة... تلك اللؤلؤة".
ألقى شي ليان نظرة، فإذا بالشيء المتدحرج على الأرض هو لؤلؤة المرجان الحمراء التي كان قد أهداها لانغ يينغ من قبل.
قال لانغ يينغ: "لطالما أردت أن أقول لك هذا: شكرًا على اللؤلؤة".
تفاجأ شي ليان بسماعه هذه الكلمات، لم يتوقع منه أن يقول شيئًا كهذا الآن. كأن شيئًا في قلبه أوشك أن يُبعث للحياة، لكنه كبحه بقوة.
قال بصوت مرتجف: "أنت..."
تمتم لانغ يينغ بصوت خافت: "لو أنك أعطيتني إياها أبكر... لكان كل شيء أفضل. لكن... للأسف..."
وقبل أن يُكمل، تراخى جسده بين يدي شي ليان، وسقط أرضًا وعيناه شاخصتان.
لم يستوعب شي ليان الأمر بعد، حتى قال وومينغ: "سموك ، لقد مات".
"...."
"مات؟" تساءل شي ليان مذهولًا.
خفض رأسه، فرأى أن بؤبؤي عيني لانغ يينغ قد بدأا يخمدان بالفعل. لقد مات حقًا.
تمتم شي ليان: "كيف مات فجأة هكذا؟ لم أفعل به شيئًا بعد، فكيف يموت؟"
وكلما فكر أكثر، ازداد يقينه: لقد مات وهو في حالة من الرضا! لقد انتقم لمملكته من شيان لي ، وها هو يحمل أرواح عائلته على جسده، مستعدًا للقائهم في عالم الموتى. عانى بما يكفي في الدنيا، فكان الموت بالنسبة له تحريرًا، نهاية لكل شيء. أما شي ليان، فلم يتبقَّ له ما ينتقم لأجله!
امتلأ صدره بالغيظ والمرارة، ولم يلبثا أن تحوّلا إلى شعور واحد فقط: الحقد. يا له من أمر حقير! حقير إلى أبعد الحدود!
سقط لانغ يينغ بلا حراك، لكن الوجوه البشرية على صدره بدا وكأنها أحست بموت مُضيفها، فانفجرت صرخاتها عويلًا مزعجًا: "ويييه... وووو... يييييه!" كانت حادة بشكل يمزق الأذان، أقسى من صوت الأظافر وهي تخدش صحون الذهب والفضة. كاد شي ليان أن يجن من شدة الغضب. استل سيفه الأسود ليقطعهم ويسكتهم، لكن المحارب ذو السواد كان أسرع منه—شهر سيفه الرفيع، ولمع بريق النصل، وإذا بجثة لانغ يينغ تُقطع إلى عشرات، بل مئات القطع في لحظة، والدماء تتناثر في كل اتجاه.
لم يتحرك شي ليان بعد حتى سبقه الآخر، فهتف ببرود: "من سمح لك بفعل هذا؟"
انحنى وومينغ وقال: "لا داعي لأن تتسخ يداك، سموك ".
وفي تلك اللحظة، دوّى وقع أقدام مسرعة من خارج القاعة، وتعالت صرخة شاب: "عمي!"
من؟ التفت شي ليان نحو الباب فرأى أبواب القاعة مفتوحة على مصراعيها، وفتيًّا لم يتجاوز العاشرة يقف هناك ينظر باتجاههم. كان وجهه مفعمًا بالابتسامة أولًا، لكنه حين دخل ورأى أشلاء الجسد الممزق تغطي الأرض، تجمّد مذهولًا.
قال شي ليان ببرود: "من أنت؟"
ارتبك الفتى وقال: "أنا..." ثم وقعت عيناه على الأشلاء الممزقة على الأرض، فصرخ: "عمي!"
وفي تلك اللحظة، علت أصوات أخرى من الخارج: "سيدي ولي العهد! لا تركض هكذا! لقد أمر الملك أن لا تجوب القصر ليلًا! أرجوك لا تُحرجنا!"
ولي العهد؟
ابن لانغ يينغ مات منذ زمن، وهذا الفتى يناديه "عمي". إذن هذا هو ولي العهد الجديد الذي نصبه لانغ يينغ، ولي عهد مملكة يونغ ان!
ويبدو أن الحقيقة بدأت تتكشف للصبي أيضًا، فصرخ برعب: "أشباح! هناك أشباح! أش—"
لكن قبل أن يكمل، عاجله المحارب ذو السواد بضربة على عنقه، فسقط ولي عهد يونغ ان فاقدًا الوعي وسط بركة الدماء. إلا أن صرخته كانت قد وصلت إلى الخارج، وتعالت الأصوات الراكضة والضجيج.
"ماذا؟ هل سمعتم هذا؟!"
"الحراس! الحراس!"
رمقهم شي ليان بنظرة باردة، فأومأ له وومينغ بأنه سيتكفّل بالأمر، ثم اختفى كلمح البصر. وفي لحظات، خيّم الصمت، وقد قُطع كل صخب من الخارج.
وحين خرج شي ليان من القاعة، وجد عددًا كبيرًا من الحراس مطروحين أرضًا، وذاك المحارب الأسود واقفًا وسطهم، وسيفه النحيل يقطر دمًا. لقد قضى عليهم جميعًا بضربة واحدة. ومن بعيد تعالت أصوات دفعة جديدة من الحرس:
"احموا الملك!"
"احموا ولي العهد!"
لكن شي ليان لم يلتفت إليهم، وكما توقع، لم تمر لحظات حتى اجتثّت أصواتهم كحصاد منجل، فاختفت كليًا. سرعان ما عاد المحارب الأسود إليه بلا صوت.
قال شي ليان ببرود وهو يدير رأسه قليلًا: "أحرق القصر".
"أمرك، سموك ". انحنى وومينغ.
اشتعلت النيران، وزمجرت ألسنتها في السماء، وفي مواجهة اللهيب العظيم وقفت هيئتان نحيلتان ترتديان السواد، وظلالهما ترتجف وتتموّج على الأرض، تتغير أشكالها بالامتداد والالتواء.
وبعد الخراب الذي حلّ، ارتجّ قصر يونغ ان كله، وتعالت صرخات من يحاولون إخماد النيران ومن يسعون للهرب، في مشهد لم يختلف كثيرًا عن الحريق الذي دمّر قصر شيان لي .
سأل المحارب الأسود: "سموك ، ما الذي تود فعله الآن؟"
فأجاب الرجل ذو الثياب البيضاء ببرود: "إلى خليج لانغ إر".
قبل سقوط مملكة شيان لي ، كان شي ليان يزور خليج لانغ إر مرارًا. وفي كل مرة، كان هدفه أن يستجلب المطر لإنقاذ الناس، بجسد منهك وقلب مثقل، وخطوات كالصخر. أما هذه المرة، فكان الأمر مختلفًا تمامًا، وجسده خفيف كريشة.
بعد أن تجاوزوا سنوات القحط، ومع الدعم القوي من الملك الجديد، عاد خليج لانغ إر يعج بالحياة. الشوارع والأزقة مزدحمة بالفرح، والناس في بهجة غامرة، على النقيض تمامًا من البؤس الذي عانوه لسنوات مضت. لكن مكانًا واحدًا ظل على حاله من الخراب: قصر ولي عهد شيان لي .
لم يعد أحد يقترب من قصر ولي العهد المهجور، فاختار شي ليان أن يقيم فيه. وفي تلك اللحظة، كان جالسًا يتأمل في قاعة القصر.
الأرواح الحاقدة كان ينبغي أن تجد سريعًا جسدًا مضيفًا، لتكون أداة انتقامه. لكن بما أن لانغ يينغ قد مات، ظلّت الأرواح تئن وتعوي في عذاب، تحاصر شي ليان بلا هوادة، وهو يشيح عنها مغمض العينين.
تقطبت حاجباه وقال: "انتظروا قليلًا، لا تكونوا عجولين. سأمنحكم جميعًا الخلاص قريبًا".
وفي تلك اللحظة، جاءه صوت: "سموك ".
فتح شي ليان عينيه، فرأى المحارب ذو السواد أمامه، راكعًا على ركبة واحدة.
يتبع...
تعليقات: (0) إضافة تعليق