الفصل مئة وثمانية وتسعين : الرجل في الهاوية يتلقى قبعة خيزران تحت المطر -٣-.
في اللحظة التي قال فيها ذلك، ساد الصمت بين الجميع، لأنه أصاب كبد الحقيقة. فخلال اليومين الماضيين، لم يتقدّم أحد بالفعل لمدّ يد العون لشي ليان. ذلك البائع المتجوّل للماء على الأقل فكّر في مساعدته، لكنه لم يفلح، بينما الآخرون لم يتجرؤوا حتى على إلقاء نظرة نحوه!
تمتم أحدهم بتذمّر:
"وماذا نفعل الآن إذن؟ إن لم نستطع أن نفعل هذا، فَلِمَ لا تقترح أنت شيئًا؟"
وبدأ الحشد يزداد صخبًا مجددًا، وبعضهم حاول شقّ طريقه للأمام، وفجأة دوّى صوت غاضب يصرخ بوحشية:
"مَن الذي يحدث كل هذه الفوضى؟ إن كان أحدكم يريد الشجار، فجدّكم هذا بيده سكين!"
وعندما التفتوا، رأوا أنّه الطباخ البدين نفسه الذي كان أول من حاول سحب السيف في اليوم الذي سقط فيه شي ليان من السماء. بدا أن شيئًا قد أثار غضبه، فزمجر:
"ذلك الشاب محق! لولا أن عدّة أشخاص أمسكون بي أمس، لكنتُ نزعت السيف بالفعل! والآن، كيف صار أنكم أنتم من تُثيرون كل هذه الضجّة قبل أن أتحرّك أنا حتى؟ مثيرون للشفقة! تظنّون أنفسكم أهلًا لذلك؟ حقًا لا ترى وجوهًا بهذه الوقاحة كل يوم!"
كان ذلك الطباخ رجلاً ضخمًا، صوته يجلجل واضحًا، وفي ذروة غضبه، بيده سكين جزار كما لو خرج تواً من المطبخ. أولئك الذين صرخوا بأعلى صوت قبل قليل لم يجرؤوا على إصدار أي كلمة أخرى. أمّا الذين لم يعرفوا ما جرى في اليومين الماضيين، فبعد أن سألوا وعرفوا، فوجئوا جميعًا.
"مستحيل! ولا واحد منكم ساعده؟"
"أجل! تركتموه ملقى على الأرض ليومين كاملين؟ لم تساعدوه حتى على الجلوس؟"
كلما تحدثوا أكثر، ازداد شعور الآخرين بالخزي، فاحتجّ بعضهم:
"لا تتحدّثوا وكأنكم أنتم من كنتم ستساعدونه، تقولون هذا الكلام الجميل فقط بعدما انتهى الأمر. لا تنسوا، حين تهبط تلك الأرواح البشعة لاحقًا، لن ينجو أحد منا!"
ضحك آخر ساخرًا:
"هه، سأقول لكم، لو كنت هناك، لكنت بالتأكيد ساعدته على نزع السيف!"
"طبعًا، سهل تحريك لسانك بعد انتهاء الأمر..."
"انتظروا! على ماذا تتشاجرون؟ المشكلة الآن ليست في نزع السيف!"
وهكذا، بينما اشتد النقاش، علت الأصوات وصاروا على وشك الاشتباك بالأيدي، وكان المطر قد بدأ يتوقف ببطء. ومع ذلك، كانت الغيوم السوداء تزداد كثافة، وضغطها يشتد حتى يكاد يخنق مئات الناس تحتها. فجأة، انطلق صراخ مخيف من وسط الحشد، وأصابع كثيرة أشارت إلى السماء.
"إنها قادمة!!!"
رفع شي ليان رأسه بسرعة. الوجوه البشرية التي كانت تتدحرج داخل السحب السوداء بدأت فجأة في الاندفاع، وهوت سريعًا مثل نجوم سوداء ساقطة تجرّ وراءها ذيولًا طويلة.
لقد جاء مرض الوجوه البشرية!
عمّ الذعر الحشد وفقدوا صوابهم؛ بعضهم فرّ هاربًا، وبعضهم اختبأ داخل البيوت، وآخرون اندفعوا لالتقاط السيف الأسود. ولكن، ذلك السيف الذي طُرح على الأرض اختفى منذ وقت لا يُعرف متى، فخرجوا خالي الوفاض.
كان شي ليان مصدومًا من ردود أفعال الناس السابقة، ولم يلاحظ ذلك إلا الآن. فصرخ:
"أين السيف؟! مَن أخذه؟!"
لم يجد أحد وقتًا للرد، فالناس تشتّتوا فارّين في كل اتجاه. لكن، كيف لهم أن يكونوا أسرع من الأرواح الناقمة الهابطة؟ سرعان ما انطلقت من كل مكان صرخات الأحياء ونواح الأرواح!
وحين لحقت الأرواح الناقمة بالناس، صارت مثل دخان أسود كثيف يلتف ويلتصق بلا رحمة، يتسلل عبر كل مسام أجسادهم، ويمتزج ببطء داخلهم. بذل شي ليان جهدًا مضنيًا لطردهم، لكن الأرواح كانت أكثر من أن تُحصى، ولم يكن بمقدوره وحده أن يُبعدها جميعًا.
وقف عاجزًا، يراقب بعينيه المذعورتين أشخاصًا كُثُر يصرخون ويولولون وهم مطاردون من تلك الأشباح. كان البائع المتجول للماء وزوجته، وكذلك الطباخ البدين، يتقلبون على الأرض وهم يتصارعون مع الدخان الأسود الملتف. وكل هذا بينما الأبيض عديم الوجه يقف غير بعيد، يضحك بسخرية بلا انقطاع، متلذذًا بالمشهد.
كان شي ليان غاضبًا وقلقًا في الوقت نفسه، فشدّ عزيمته وزأر باتجاه المكان الذي كان يغصّ بأكثر الأرواح:
"هييييه!"
فهو المسؤول عن إيقاظها من الأصل، ولذا من الطبيعي أن تنتبه إليه. فتح ذراعيه على وسعه.
"تعالوا إليّ!!!"
الأرواح التي كانت تلتف حول الناس ترددت قليلًا، غير متأكدة إن كان عليها التوجّه إليه، لكن الأرواح التي لا تزال في السماء غيّرت مسارها فورًا واتجهت نحوه مباشرة.
نجاح!
كان قلب شي ليان يخفق بقوة حتى كاد يتوقف. لم يكن يعرف ما الذي سيحدث له، ولا ما سيكون عليه مصيره. لكنه شعر أن الدم اندفع كله إلى رأسه، وأنه سيبذل كل ما بوسعه. حتى لو لم يكن الأمر سوى سعيٍ إلى التبرير، وحتى لو تحطّم جسده كليًا، فلن يتراجع! حتى لو جاء مئة ألف روح أخرى، سيظل واقفًا!
تريدون رؤيتي أستسلم وأدمّر نفسي؟
إذن... لن أفعل!!!
لن أفعل أبدًا!!!
غطّت أسراب السواد السماء والأرض، وأحاطت بشي ليان. فصرخت روح ناقمة بينما اخترقت جسده، وفي لحظة كان قلبه كأنه تجمّد، وارتجف جسده كله. تبعتها ثانية، ثم ثالثة...
كانت تلك الكائنات أشبه بسكاكين ذات هالة حادّة، تمزّق جسده وتخترقه، ومع كل مرة تأخذ معها جزءًا من دفئه، حتى شحب وجهه أكثر فأكثر. ومع ذلك، ظل ثابتًا، لم يتراجع خطوة.
لم تمر سوى بضع مئات منها، وهو لم يصمد إلا لحظة، بينما السماء كلها مغطاة بالسحب السوداء، وكلها أرواح!
أغمض شي ليان عينيه، مستعدًا ليتلقى بقدراته الخاصة السيل الجارف من الأرواح الناقمة. لكن على غير المتوقع، لم تأتِ الروح التالية. فتح عينيه مرتبكًا، وإذا بالسواد من حوله قد اختفى.
لقد تحوّل كله إلى تيار أسود متدفّق، يُسحب بقوة إلى اتجاه آخر!
مذهولًا، استدار ينظر. وفي آخر الشارع الطويل، وقف محارب أسود، وفي يده السيف الأسود الطويل.
وومينغ ؟
كان شي ليان قد أمره من قبل بالابتعاد حين يُطلق مرض الوجوه البشرية، فلماذا ظهر هنا الآن بالذات؟
لم يستوعب شي ليان ما الذي يجري ولا ما الذي يفعله المحارب المقنّع هنا، لكن سرعان ما ركض نحوه وهو يصرخ:
"انتظر! ماذا تفعل؟ لا تلمسه! أعد لي السيف!"
بدا وكأن المحارب الأسود قد سمع صوته، فرفع رأسه قليلًا. لم ير شي ليان وجهه الحقيقي، بل رأى فقط القناع المرسوم عليه ابتسامة. ومع ذلك، شعر بشيء غريب...
شعر أنه، تحت ذلك القناع، كان يبتسم حقًا.
غير أنّ ذلك الإحساس تلاشى سريعًا. فقد اجتمع التيار الأسود الهائل والصيحات المدوية ليشكّلوا عاصفة، وابتلعوا المحارب الأسود في لحظة واحدة.
وفي تلك اللحظة، دوّى صراخ مروّع يخترق القلب.
كان صوتًا مألوفًا، كأنه قد سمعه من قبل! لا بدّ أنه قد سمع هذا الصوت من قبل!
مؤلم. مؤلم جدًا، وكأنه يشعر بالألم ذاته؛ ألم يفوق الموت، ألم يحطّم القلب والجسد معًا، فسقط شي ليان على ركبتيه، ممسكًا رأسه وهو يصرخ:
"آآآآآآآآآآآآآآآآه!!!"
جاء انفجار الألم فجأة، ورحل فجأة بالسرعة نفسها. وبعد وقت لا يُعلم كم مرّ، خيّم الصمت تدريجيًا على المكان. رفع شي ليان يديه ببطء عن رأسه.
مترنّحًا، رفع عينيه وألقى نظرة حوله. الأرض مغطاة بالناس الممدّدين، أغلبهم فاقدو الوعي. لكن الأرواح الناقمة التي التفت حولهم جميعًا... اختفت.
وقف مذهولًا من المشهد. ماذا حدث لمرض الوجوه البشرية؟ ماذا حلّ بالأرواح الناقمة؟ وماذا حدث له هو نفسه؟
لم يبقَ أي أثر للتيار الأسود، فقط السيف الأسود الذي سقط على الأرض في الموضع الذي وقف فيه ذلك الشبح المقنّع. وبجانب نصل السيف، برزت زهرة صغيرة بيضاء.
نهض شي ليان مترنّحًا واقترب، والتقط الزهرة والسيف.
تحسّس وجهه وذراعيه، فلم يجد أي أثر يدل على أنه حمل لعنة قوية. وبينما ما زال في حيرته، جاء صوت مفاجئ من خلفه...
قال الصوت بهدوء: "آه."
التفت شي ليان للخلف، فرأى الأبيض عديم الوجه واقفًا خلفه، ذراعاه مطويتان داخل أكمامه الواسعة التي كانت تتطاير مع الريح.
لم يكن شي ليان قد استوعب بعد ما حدث، لكن إحساسًا غامضًا بالقلق تسلل إلى صدره.
ألقى الأبيض عديم الوجه عليه نظرة وبدأ بالضحك بخفوت. ازداد ذلك الإحساس سوءًا، فزمّ شي ليان حاجبيه وقال:
"على ماذا تضحك؟"
سأله الأبيض عديم الوجه بدلاً من الإجابة:
"ألستَ تدرك بعد ما الذي حدث؟"
"ماذا؟" سأل شي ليان.
قال: "هل تعلم من يكون ذلك الشبح؟"
"...روحٌ من أرواح الموتى في ساحة المعركة؟" حاول شي ليان أن يخمّن.
"أجل." أجابه الأبيض عديم الوجه. "لكن في الوقت نفسه، كان أيضًا آخر مؤمنٍ لك في هذا العالم. والآن... لم يعُد موجودًا."
...مؤمن؟
هل كان لديه حقًا مؤمن واحد لا يزال على قيد الحياة في هذا العالم؟
ظلّ شي ليان صامتًا لحظة طويلة قبل أن يتمكن بصعوبة من النطق:
"ماذا تعني... بقولك لم يعُد موجودًا؟"
أجابه ببرود:
"لقد تلاشت روحه."
واجه شي ليان صعوبة في تقبّل ذلك.
"كيف يمكن أن تتلاشى روحه هكذا؟!"
قال الأبيض عديم الوجه:
"لأنه تحمّل اللعنة نيابة عنك. الأرواح التي استدعيتها أنت التهمته بالكامل، ولم تُبقِ حتى على فتات."
"...."
الأرواح التي استدعاها هو؟
تحمّل اللعنة عنه؟!
تابع الأبيض عديم الوجه:
"أوه، صحيح. لم تكن هذه المرة الأولى التي تلتقي فيها به."
ظل شي ليان يحدّق به مشوشًا، بينما بدا الآخر مستمتعًا:
"ذلك الشبح ظلّ يتبعك منذ زمن بعيد. في البداية ظننت أنه يحمل ضغينة عميقة فقط، فأمسكت به واستجوبته. لكن من كان يظن أن إجاباته ستكون مثيرة للاهتمام؟ مهرجان الشانغيوان، ليلة الفوانيس، روح شبحية تائهة. أما زلتَ تتذكر؟"
تمتم شي ليان:
"مهرجان الشانغيوان؟ ليلة الفوانيس؟ روح تائهة؟"
أشار الأبيض عديم الوجه بكسل:
"هذا الشبح كان في حياته جنديًا تحت قيادتك. وفي موته صار روحًا شبحية تتبعك. لقد مات في ساحة المعركة من أجلك؛ وتحول إلى شبح شرس بسبب طعنك بمئة سيف؛ ثم أيضًا بسببك، فنيت روحه عند إطلاقك مرض الوجوه البشرية."
بدأ شي ليان يتذكر شيئًا باهتًا، لكنه لم يرَ قط وجه هذا المؤمن، لم يعرف حتى اسمه. فماذا يمكن أن يتذكر حقًا؟ وكم يمكن أن يتذكر؟
"ربما... كان هناك بالفعل مؤمنون هنا يعبدون سموّك..."
أجل. كان هناك.
وهو... كان المؤمن الوحيد!
تابع الأبيض عديم الوجه الكثير من الكلام، لكن شي ليان ظلّ في ذهول، لا يلتقط شيئًا، حتى قال أخيرًا:
"إله مثلك بائس ومثير للشفقة حقًا. أما كونه مؤمنًا لك، فهذا يجعله أكثر بؤسًا وسخرية إلى أبعد حد."
"...."
في السابق، حين كان الأبيض عديم الوجه يسخر منه، لم يُبدِ شي ليان أي رد فعل. لكن عندما سمع ذلك المخلوق يستهزئ بمؤمنه، وكأنه يُمعن في احتقاره، شعر كأن سيفًا اخترق قلبه ليوقظه. اجتاحه غضب لا يمكن السيطرة عليه.
اندفع نحوه، لكن الآخر أمسك به بسهولة، وقال ببرود:
"لن تستطيع هزيمتي هكذا. كم مرة يجب أن أكرر حتى تفهم الحقيقة؟"
لم يكن شي ليان يسعى للنصر منذ البداية، ولم يهمه إن لم يستطع الفوز. هو فقط أراد أن يُبرح ذلك الكائن ضربًا.
صرخ غاضبًا:
"ماذا تعرف أنت! كيف تجرؤ على السخرية منه!!"
أجاب الأبيض عديم الوجه:
"ولِمَ لا أسخر من تابعٍ لفاشل؟ أنت غبي، ومؤمنك أكثر غباءً منك. اسمع جيدًا! إن أردتَ هزيمتي، فعليك أن تطيع تعاليمي. وإلا فلن تحلم يومًا بأن تغلبني!"
كان شي ليان يريد أن يبصق في وجهه بكل ما أوتي من قوة، لكن حتى التنفس كان صعبًا. قلب الأبيض عديم الوجه يده، وفجأة ظهر قناع آخر ضاحك-باكٍ في كفّه.
قال: "لنبدأ من جديد!"
كان على وشك أن يضغط القناع على وجه شي ليان، لكن فجأة دوّى هدير هائل.
في الأفق، لمع البرق، ورعدت السماء، وانبثق ضوء غريب من بين طبقات السحب. ارتبك الأبيض عديم الوجه وتوقف عن الحركة.
"ما هذا؟ كارثة سماوية؟..."
ثم تراجع بعد لحظة وقال:
"لا، ليس هذا!"
لكن، كان هذا فعلًا كارثة سماوية... غير أنها لم تكن وحدها!
صوت رجولي عميق دوّى من السماء بأسرها:
"إن لم يستطع هو هزيمتك، فماذا عني أنا؟"
رفع شي ليان رأسه بسرعة.
لا أحد يعلم منذ متى، لكن مسؤولًا عسكريًا شابًا، مرتديًا درعًا أبيض ومُفعمًا بالهالة الروحية ، كان قد ظهر عند نهاية الشارع الطويل أمامهم. يكسو جسده ضوءٌ روحي رقيق أبيض، ممسكًا بسيف يتقدم خطوة بخطوة، يشق طريقًا من النور وسط هذا العالم المظلم الكئيب.
اتسعت عينا شي ليان رغمًا عنه.
جون وو!
———
بعد أن انقشعت الأمطار وانجلت السماء، جلس شي ليان على الأرض المحترقة يلهث بخفة.
أعاد جون وو سيفه إلى غمده وتقدّم نحوه.
"شيان لي . أهلًا بعودتك إلى الصفوف."
كان على وجهه تعبير متعب، مع آثار دماء خلفها الأبيض عديم الوجه، إلى جانب جراح كثيرة تغطي جسده، كبيرة وصغيرة. لم تكن تلك الجراح غير خطيرة، لكن جراح الأبيض عديم الوجه كانت أعمق بكثير، حتى تمزّق جسده وتبعثر شكله، ولم يبقَ منه سوى قناع ضاحك-باكٍ محطّم.
عندما سمع عبارة "العودة إلى الصفوف"، ارتبك شي ليان، فمدّ يده إلى عنقه، واكتشف عندها أن القيد الملعون قد اختفى.
ابتسم جون وو وقال:
"كما توقعت، لم أكن مخطئًا. والوقت الذي استغرقته للعودة كان أقصر مما تخيّلت."
بدأ شي ليان يستوعب ذلك ببطء، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة، لكنها كانت مريرة.
بعد أن التقط أنفاسه، تكلّم قائلًا:
"جلالتك، أرجو أن تسمح لي بطلبٍ واحد."
قال جون وو: "مسموح."
سأله شي ليان:
"ألستَ تريد أن تعرف ما هو؟"
أجابه:
"على أي حال، ستطلب هدية عند عودتك إلى البلاط السماوي، فما ستطلبه الآن قد يكون هديتي لك احتفاءً بعودتك إلى الصفوف."
ارتعشت شفتا شي ليان قليلًا، لكنه نهض، ناظرًا في عينيه بكل احترام:
"إذن، أرجو من جلالتك أن ينفيني إلى عالم البشر مرة أخرى."
عند سماع ذلك، تلاشت ابتسامة جون وو.
"لِمَ ذلك؟"
أوضح شي ليان بصدق:
"لقد ارتكبت خطيئة. الجولة الثانية من مرض الوجوه البشرية قد أطلقتها أنا. حتى وإن بدت العواقب ليست خطيرة."
ففي النهاية، لم يختفِ سوى شبح مجهول الاسم، وربما لم يكن في هذا العالم من يهتم بأمره. لذلك بدت العواقب وكأنها ليست خطيرة.
قال جون وو ببطء:
"إن كنت قد أدركت خطأك، فهذا يعني أنك عدت إلى الطريق الصحيح."
لكن شي ليان هزّ رأسه.
"المعرفة وحدها لا تكفي. إن أخطأتُ، فعليّ أنا أن أتحمل العقوبة. لكنني ارتكبت الذنب، والذي تحمّل العقوبة عني كان هو..."
رفع رأسه وقال: "إذن، كعقوبة، أرجو من جلالتك أن يمنحني قيدًا ملعونًا، لا، بل قيدين ملعونين. أحدهما ليُقيّد قواي الروحية، والآخر ليبدّد حظي وثروتي كلها."
قطّب جون وو جبينه قليلًا وقال: "تبديد حظك وثروتك؟ ألن تصبح بذلك تعيس الحظ إلى أقصى حد، وتتحول حقًا إلى إله النحس؟"
في الماضي، كان شي ليان ليتأثر بشدة عند وصفه بإله النحس، وكان ينفر من ذلك، معتبرًا إياه إهانة عظيمة. لكنه الآن لم يعد يبالي بمثل هذه الأمور.
قال: "إن أصبحتُ إله النحس، فليكن. ما دمتُ أنا نفسي أعلم أنني لست كذلك."
وبمجرد أن يتبدّد حظه، فسوف يتدفق بطبيعة الحال نحو من هم أقل حظًا، وبذلك يكون نوعًا من التكفير.
قال جون وو مذكرًا: "سيكون هذا محرجًا جدًا."
فأجاب شي ليان: "لا بأس. وبصراحة، أشعر أنني... بدأت أعتاد الأمر."
ورغم أنه لم يكن شيئًا يرغب في التعود عليه، إلا أنه ما إن اعتاد، بدا وكأن لا شيء يمكن أن يؤذيه بعد ذلك.
أمعن جون وو النظر فيه وقال: "شيان لي ، عليك أن تدرك أنه بلا قوى روحية، لن تعود مسؤولًا ."
تنهد شي ليان: "جلالتك، أنا أعرف هذا أفضل من أي أحد."
ثم بعد صمت قصير، قال بنبرة مشوبة بالإحباط والأسى: "الناس يقولون إنني إله، لذا لدي قوى روحية. لكن في الحقيقة، لستُ المسؤول الذي يتصورونه، وقد لا أكون بالقدر من القوة التي تمنّوها.
هل يكون المسؤول فاشلًا إلى هذا الحد؟ أرغب في حماية شعبي، لكني تركت جثثهم مبعثرة في البراري. أرغب في الانتقام لهم، لكن في اللحظة الأخيرة تراجعت وتخليت عن الأمر. لم يكن الأبيض عديم الوجه مخطئًا عندما وصفني بـ'الفاشل'."
ثم أضاف: "إن لم أعد مسؤولًا سماويًا ، فليكن."
ظل جون وو يحدّق فيه مليًا، ثم بعد برهة طويلة قال: "لقد نضج شيان لي ."
كان ينبغي أن يسمع شي ليان هذه الكلمات من والديه، لكن والده وأمه لم يعد لهما أي فرصة لقولها.
وبعد لحظة قال جون وو: "بما أنها الطريق التي اخترتها، حسنًا إذن. لكن عليّ أن أجد سببًا لأُبعدك إلى عالم البشر."
فلم يكن بوسعه أن ينفي مسؤولًا سماويًا بتلك البساطة كما لو كان يلعب لعبة أطفال؛ وإلا فما الذي سيجعل السماء موضع هيبة؟
أما شي ليان، فكان قد خطرت له فكرة، فقال: "جلالتك ، يبدو أننا لم نتبارز يومًا بكل ما لدينا من قوة، أليس كذلك؟"
فهم جون وو مقصده فورًا وابتسم: "شيان لي ، أنا مصاب."
فأجاب شي ليان: "وأنا أيضًا مصاب. إذن نحن متعادلان."
هز جون وو رأسه قائلًا: "إن كان الأمر كذلك، فلن أتحفظ بعد الآن."
ابتسم شي ليان، وعيناه تتلألآن بحماسة الفكرة: "وأنا كذلك."
هكذا، نُفي سمو ولي العهد مرة أخرى.
بعد اجتيازه الكارثة السماوية الثانية المدوية والعنيفة، عاد ولي عهد شيان لي ، الجامح والعنيف، إلى السماء . لكن قبل أن تمضي حتى مدة عود بخور واحدة، أسقطه الإمبراطور العسكري السماوي مجددًا إلى الأسفل. ولم يتمكن أي من المسؤولين السماويين من فهم ما الذي كان يفكر فيه ذلك الرجل بالضبط؟!
لكن، شي ليان بدوره لم يكن يفهم ما الذي يفكر فيه المسؤولون السماويون الآخرون.
هل كانوا حقًا فضوليين إلى هذه الدرجة؟ يتابعونه يومًا بعد يوم، متنكرين في هيئة بشر لمراقبته، أو متحولين إلى حيوانات للتجسس عليه، وقد مرّت أيام وهم يلاحقونه! هل كان من الممتع حقًا مشاهدة رجل بالغ يحمل الطوب والطين؟!
وبينما كان يتساءل، صرخ المشرف من خلفه:
"أيها الجديد، أنت، نعم أنت! أكلمك أنت! عُد إلى عملك ولا تتكاسل!"
قفز شي ليان بسرعة وجلس مستقيمًا مجيبًا بصوت مرتفع: "حاضر!"
ثم التقط مروحة قديمة من نبات ذيل القط، وبدأ يهوّي بها النار. أمامه موقد صغير مكوّن من بضع طوبات، وفوقه قدر كبير من الأرز يغلي أثناء الطهي.
كان هذا في ورشة بناء حيث كان ينقل التراب والطين. لكن الطوب قد نُقل بالفعل، ولم يبتعد عنه كثيرًا معبدان جديدان. وكانت مهمته آنذاك الطهي. ظل يطبخ ويعمل بجد، وفي تلك الأثناء وصلت عربة تجر تمثالين إلهيين كبيرين. وبينما كان يضيف المكونات بلا مبالاة إلى القدر، ظل يختلس النظر من وقت لآخر.
أُدخل كل من التمثالين إلى معبده. وفور دخول التمثال الأول إلى قاعة المعبد على اليسار، تعالت هتافات:
"الجنرال شوان تشين عظيم! الجنرال شوان تشين كريم ورحيم!"
بقي شي ليان بلا كلام.
يصفون مو تشينغ بـ'الكريم والرحيم'؟ هل هؤلاء المصلون جادّون؟
لكن بدا أن لديهم أسبابًا وجيهة. فالجميع يعلم أن مو تشينغ صعد لأنه قضى على جميع الأرواح الناقمة المتشبثة في العاصمة القديمة لشيان لي ، لذا فاعتباره 'كريمًا ورحيمًا' لم يكن بلا أساس. وفي كل الأحوال، كان جميع أهل العاصمة القديمة ممتنين له.
أما في قاعة المعبد على اليمين، فلم يرغب المصلون أن يُهزموا في الهتاف، فصاحوا بأعلى أصواتهم:
"الجنرال جو يانغ عظيم! الجنرال جو يانغ شجاع وبطولي!"
هز شي ليان رأسه موافقًا، فلم يكن لديه اعتراض على ذلك. لكن، هذا الوصف ربما لا ينطبق حين يتعلق الأمر بالنساء.
ظل المصلون في الجانبين يتنافسون في الصراخ ليغلب بعضهم بعضًا، حتى أوجعوا أذني شي ليان. فتنهد، ماسحًا جبينه وهو يفكر: لِمَ عليهم أن يكونوا هكذا؟
ألم يكن من الأسهل ألا يبنوا المعبدين بجوار بعضهما البعض ما داموا يكرهون بعضهم؟
لكن بالطبع لم يكن ذلك ممكنًا! فهذه المنطقة كانت الأشد ازدهارًا والأفضل من حيث الطاقة الروحية ، ولن يتخلى أتباع هذين المسؤولين السماويين عن أرض بهذا القدر من القيمة لمجرد تجنّب بعضهم؛ بل كان عليهم أن يبذلوا جهدهم لانتزاع المصلين من الطرف الآخر وإغاظتهم.
ولم يمض وقت طويل حتى تحولت صيحاتهم إلى شجار. عندها شعر شي ليان أن الوقت مناسب، فأخذ يقرع القدر وينادي بصوت عالٍ:
"أيها الجميع، توقفوا عن القتال! تعالوا لتناول الطعام!"
لكنهم كانوا في ذروة اشتباكهم، ولم يكترث أحد به. هز رأسه ورفع غطاء القدر، فانتشرت رائحة في المكان امتدت لأميال. وهنا ارتكب خطأً. إذ توقّف الجمع فجأة عن القتال وبدؤوا جميعًا يصرخون:
"...ما هذا بحق السماء... ما هذه الرائحة؟!"
"من الذي يطبخ قذارة؟!"
"وقذارة تشبه قعر القدر المحروق أيضًا؟!"
رد شي ليان مدافعًا: "ماذا تقولون! إنها وصفة ملكية سرية ثمينة..."
لكن المشرف جاء وهو يغطي أنفه بيده، ووجهه قد ازرقّ من الرائحة، فصرخ وهو يقفز غاضبًا: "هراء! أي وصفة سرية ثمينة؟ أي ملكية؟! أنت؟ اخرج من هنا فورًا! لا تُقرف الناس!"
حاول شي ليان التنازل: "حسنًا، حسنًا، سأرحل. لكن، هلّا أعطيتني أجري أولًا..."
فصرخ المشرف غاضبًا: "أجر؟! تجرؤ حتى على ذكر الأجر؟! قل لي، منذ أن جئت، كم خسرتُ من المصائب؟! ها؟ كلما أمطرت السماء، يضرب البرق، ولا يحدث ذلك إلا لك وحدك! احترقت المنازل ثلاث مرات! وانهارت ثلاث مرات أيضًا! أنت أشبه بإله النحس! وتجرؤ على طلب الأجر؟! اغرب عن وجهي! وإن عدت سأبرحك ضربًا!"
فقال شي ليان معترضًا: "لكن لا يمكنك أن تقول ذلك، أنت بنفسك قلت إن كل تلك الكوارث حدثت لي وحدي، ولم يُصب أحد غيري بسوء كل مرة، فهل يعني هذا أنك فقط تبحث عن ذريعة للتهرب من دفع أجرتي؟..."
لكن قبل أن يكمل كلامه، لم يستطع المشرف ولا العمّال الآخرون احتمال الرائحة التي تتصاعد من القدر، ففرّوا جميعًا، تاركين شي ليان خلفهم.
"انتظروا؟" ناداهم شي ليان.
نظر من حوله، فوجد أن الفريقين المتخاصمين أيضًا قد هربوا بسبب الرائحة الكريهة. بقي صامتًا في ذهول.
تمتم لنفسه: "إن كنتم لن تأكلوا، فلماذا جعلتموني أطبخ قدرًا كبيرًا هكذا؟ ألا يُعتبر ذلك تبذيرًا لمجرد أن لديكم المال؟"
هز رأسه مفكرًا، ثم غرف وعاءين كبيرين من الأرز، وضع أحدهما في معبد جو يانغ، والآخر في معبد شوان تشين. وأخيرًا، شعر أنه قد أدى المطلوب، فصفق يديه راضيًا.
ثم خرج ليجمع أغراضه، فطوى حصيرة القش على الأرض بعناية، وربطه بالسيف وحمله على ظهره. كان الشريط الحريري الأبيض الملتف حول معصمه يتمايل خفية، فربّت عليه شي ليان، وضبط قبعة الخيزران على رأسه.
قال: "حسنًا. لا تدفعوا لي. سأذهب للعزف في الطرقات."
فما يزال لديه حيلة خاصة: تهشيم الصخور على صدره!
وأثناء سيره على الطريق، لمح فجأة زهرة صغيرة حمراء على جانب الطريق، ثمينة ونادرة. انحنى ليلمس بتلاتها بلطف، وشعر بسعادة غامرة.
قال لها: "آمل أن نلتقي مجددًا."
وحتى بعد أن ابتعد، كانت تلك الزهرة الصغيرة الحمراء لا تزال ترقص في مهب الريح.
الكتاب الرابع "إنتهى"
تعليقات: (0) إضافة تعليق