الكتاب الخامس: بركة المسؤول السماوي
الفصل مئة وتسعة وتسعين : يهيمن على السماء والأرض؛ كائن سماوي يخترق الفرن -١-.
كان شي ليان مستلقيًا على الأرض الباردة، لا يزال وجهه مغطى بذلك القناع نصف الضاحك ونصف الباكي، فيما كان الأبيض عديم الوجه يقف بجانبه، وكأنه يستمتع بمشهد هذا المظهر الذي بدا نسخة طبق الأصل عنه.
كان القناع مضغوطًا بإحكام على وجه شي ليان بواسطة قوة غريبة، ولم يستطع خلعه مهما حاول.
قال الأبيض عديم الوجه:
"دعه كما هو. لا تُضيّع قوتك في محاولات بلا جدوى. تريد الخروج من هنا؟ طالما أنك اتبعتَ توجيهاتي، يمكنك كسر الفرن بسهولة."
لكن شي ليان تظاهر وكأنه لا يسمعه.
كان الأبيض عديم الوجه دائمًا يبحث عن احتقار شي ليان، ولن يتخلى عن ذلك بسهولة. تنهد قائلًا:
"كان بإمكاننا أن نصبح أعظم معلم وتلميذ، وأفضل صديقين. لماذا تصر على التمرد؟"
أوقف شي ليان محاولاته أخيرًا، وردّ باشمئزاز:
"توقف عن استخدام ذلك الأسلوب وكأنك مررتَ بجميع تقلبات الحياة وفهمتَ قلوب البشر. لا أريد معلمًا أو صديقًا مثلك."
كان اشمئزازه واضحًا بلا شك، فابتسم الأبيض عديم الوجه بسخرية:
"أعلم، في قلبك، أن الوحيدين القادرين على توجيهك هما غوشي وجون وو، أليس كذلك؟"
كانت نبرته غريبة، مليئة بالاحتقار والتهكم. لم يرغب شي ليان في التورط في هذا الموضوع، فغيّر السؤال.
"لانغ يينغ، هل كان ولي عهد يونغ آن الأول؟"
كان لانغ يينغ من يونغ آن، وقد أُصيب بمرض الوجوه البشرية، وولي العهد الصغير ذاك هو الاحتمال الوحيد الذي خطر لشي ليان.
أجابه الأبيض عديم الوجه:
"صحيح. كان ذلك ولي العهد الذي طرحتَه أرضًا وتركتَه في قصر يونغ آن، ثم أضرمت النار بعد أن مزّقتَ جثة لانغ يينغ إلى ملايين القطع."
كان ولي عهد يونغ آن ابن أخ لانغ يينغ الوحيد، ومن المحتمل أن تكون بقايا مرض الوجوه البشرية قد أصابته في ذلك الوقت.
فسأل شي ليان:
"لماذا لم ينتقل مرضه إلى الآخرين؟"
قال الأبيض عديم الوجه:
"لأن أهل قصر يونغ آن اكتشفوا إصابته. ولكي لا يتأثر الآخرون، أُمر بخنقه بالبطانية سرًا، لكنه قاوم وهرب."
ثم أعلنت يونغ آن للعالم أن الملك وولي العهد ماتا بالمرض. وبسبب صراع داخلي ما، نُصّب أحد أبناء إخوة لانغ يينغ الآخرين وليًا للعهد، وكان ذلك سلف لانغ شيان شيو.
سأله شي ليان:
"كيف استطعت خداعه؟"
رد الأبيض عديم الوجه:
"لم أخدعه. كل ما فعلته أنني أخبرته بالحقيقة، من هو المذنب الذي حوّله إلى ذلك الوحش. وكل ما طلبته هو أن يعيرني جزءًا منه، مقابل أن أساعده على الانتقام."
صُدم شي ليان:
"تسمي هذا جزءًا؟! لقد ابتلعته كاملًا كغذاء لك!"
أجاب الأبيض عديم الوجه بهدوء:
"بهيئته تلك، لا إنسان ولا شبح، لم يكن أحد سيعامله بإخلاص. فبقاؤه في هذا العالم لم يكن إلا عذابًا بحد ذاته."
فجأة قال شي ليان:
"يا صاحب السمو؟"
"...."
في تلك اللحظة، شعر أن هذا الكائن كاد يجيب على هذا اللقب، لكنه تراجع.
لذا جرب مرة أخرى:
"أنت. أنت ولي عهد وويونغ، أليس كذلك؟"
بمجرد أن خرجت الكلمات من فمه، أحسّ أن الحرارة الخانقة داخل الفرن قد تجمّدت.
منذ سقوطه إلى الداخل، كان يفكر في هذا السؤال.
السبب في أنه يستطيع فهم لغة جرذان أكل الجثث لا بد أنه بسبب أن أحدًا من بين جون وو أو غوشي أو الأبيض عديم الوجه قد نقل جزءًا من ذكرياته ومشاعره إليه. وهذا يعني أن أحدهم على الأقل كان من وويونغ. وبما أن جون وو وُلد بعد سقوط مملكة وويونغ، فقد كان غوشي والأبيض عديم الوجه الأكثر إثارة للريبة.
ولِمَ رفض دخول هوا تشينغ إلى الفرن؟ لم يكن السبب كونه "أسمى"، فقد أكد له شي ليان أن ملوك الأشباح الذين أصبحوا أسمى يمكنهم دخول الفرن مجددًا، مثلما يستطيع مسؤول سماوي خوض كارثة سماوية أخرى بعد الصعود. ومع ذلك، اختفى هوا تشينغ في منتصف الطريق. التفسير الأكثر وضوحًا هو أن هذا الفرن يخضع لأوامر الأبيض عديم الوجه!
فما هويته الأرجح إذن؟
بعد لحظة من الصمت الدامس داخل الظلام، كرر شي ليان بيقين:
"أنت ولي عهد وويونغ."
أخيرًا، لم يبقَ الأبيض عديم الوجه صامتًا.
اندفع نحو شي ليان، وانطلقت ضرباته قوية وحادة، وهذه المرة كان على شي ليان أن يتفاداها. قفز مبتعدًا، وسأله وهو يراوغ:
"يا صاحب السمو، لدي سؤال لك. لماذا لا تُظهر وجهك الحقيقي لأحد؟"
قال الأبيض عديم الوجه بصوت مظلم:
"يا صاحب السمو، أحذرك من مناداتي بهذا اللقب."
فرد شي ليان:
"أنت تناديني 'يا صاحب السمو'، فلماذا لا أستطيع أن أناديك بالمثل؟ إن لم تُجب، فسأخمن بنفسي. هناك سببان فقط لعدم رغبتك في كشف وجهك. إما أنك شخص أعرفه، أو أنك شخص لا أعرفه لكن بمجرد أن أرى وجهك الحقيقي سأتمكن من معرفة هويتك بسهولة. أو أن مظهرك قبيح للغاية، قبيح لدرجة أنك لا تطيقه! تمامًا مثل..."
وفي لحظة، دوّى صوتان حادان، وتدفق ألم لاذع في ذراعه، حيث أمسك به الأبيض عديم الوجه بعنف.
قال بصوت جليدي:
"أيها الأمير العزيز، هل لأنني كنتُ ودودًا أكثر مما ينبغي، جعلتك تظن أنه لم يعد عليك أن تخشاني؟"
كان صوته متجمدًا، ومع أن الألم كان شديدًا، ظل شي ليان متمسكًا بوعيه. بدا أن الأبيض عديم الوجه قد غضب حقًا، فالتقط السيف الأسود ووجّهه نحو شي ليان.
"الاسم الذي منحته لهذا السيف هو فانغ شين؟"
وبينما كان ينظر بثبات إلى ذلك النصل البارد يقترب من عنقه أكثر فأكثر، ظل وجه شي ليان صلبًا:
"هل في ذلك مشكلة؟"
أطلق الأبيض عديم الوجه شخيرًا ساخرًا:
"أنت لا تعرف كيف تُطلق أسماء. اسمع جيدًا، الاسم الأصلي لهذا السيف هو *(تشو شين)."
فجأة، اتسعت عينا شي ليان وقال:
"مَن هناك؟!"
لكن الأبيض عديم الوجه لم يكلف نفسه عناء الالتفات للخلف:
"أتريد استخدام حيل الأطفال لمواجهتي؟"
كان شي ليان مذهولاً.
قال: "أأنت... لم تلاحظ؟"
رد الأبيض عديم الوجه ببرود: "لا يوجد شيء، فما الذي يمكن ملاحظته؟"
هو لم يلاحظ، لكن شي ليان بالتأكيد لاحظ.
في وقت سابق، انعكس ضوء النار على نصل فانغ شين، وانعكس ذلك الضوء على الجدار الحجري فوقهما. وفي تلك اللحظة رأى شي ليان وجهاً.
كان واثقاً أنه لم يتوهّم. لقد رأى وجهاً بشرياً، وجهاً هائلاً!
قوة الأبيض عديم الوجه الروحية لا بد أن تكون أقوى من شي ليان، فكيف لم يلاحظ هو الآخر؟
إلا إذا... كان الأمر شيئاً أفظع من الأبيض عديم الوجه نفسه!
اللحظة التي رآه فيها كانت قصيرة جداً، لكن المشهد ظل عالقاً في ذاكرته: ذلك الوجه يملك ملامح كاملة... وكان مألوفاً! شعر شي ليان بقشعريرة تسري في ظهره.
قال: "هناك شيء آخر داخل هذا الفرن!"
لكن الأبيض عديم الوجه رد ببرود: "لا يوجد هنا احد غيرك وانا، إضافة إلى الصخور والحمم."
كان شي ليان على وشك الرد حين خطرت له فجأة فكرة: "انتظر... صخور؟ وجه؟ مألوف؟"
وفي لحظة، أشرق ذهنه وفهم ما رآه.
— هكذا إذن!
ما إن استوعب الأمر حتى بدأت يداه بسرعة تُشكّلان تعاويذ خلف ظهره.
لاحظ الأبيض عديم الوجه حركته وقال: "لا فائدة، حتى لو..."
لكن قبل أن يُكمل كلامه، دوّى صوت تصدّع هائل خلفهما ومن فوقهما، وفي الوقت نفسه تساقطت الصخور والأتربة كالطوفان!
شعر الأبيض عديم الوجه بخطر قادم نحوه فقفز مبتعداً بسرعة خاطفة ليتجنب الهجوم. وبالفعل كان سريعاً للغاية، فلا أحد أسرع منه، وكان يفترض أن ينجو تماماً... لكن لسوء حظه، كان الشيء الذي يهاجمه ضخماً إلى حد لا يُصدَّق.
لقد كانت يد عملاقة، أصابعها مقبوضة في هيئة قبضة، سقطت بعنف هائل فوق الأبيض عديم الوجه!
كانت يداً حجرية هائلة.
ضخمة جداً لدرجة أن قبضة واحدة منها تضاهي قصراً، والضوء المنعكس من النار لم يكشف سوى هذا الجزء منها، أما ما فوق المعصم فظل غارقاً في الظلام.
وسط أصوات تكسّر الصخور، قلبت اليد نفسها وبسطت كفها نحو شي ليان. وعلى الرغم من ضخامتها، كانت أصابعها طويلة ورفيعة، ومفاصلها أنيقة ورشيقة، تصلح للإمساك بالزهور أو حمل السيوف.
أمسك شي ليان بسيفه، ونهض متعثراً من الأرض، وقفز إلى مركز الكف.
لكن ما إن همّت اليد برفعه حتى تذكّر فجأة شيئاً، فصاح على عجل: "انتظر!"
ثم قفز إلى الأسفل والتقط قبعة الخيزران خاصته، قبل أن يقفز مجدداً إلى الكف. عندها ارتفعت اليد العملاقة، مبتعدة شيئاً فشيئاً عن الضوء البرتقالي للنيران. كان شي ليان يشعر أنهما يرتفعان عالياً وعالياً، وبدأت يداه من جديد تُشكّلان تعاويذ.
قال بأعلى صوته: "اكسر الحاجز!!!"
مع هذا الأمر، شعر بهبوط مفاجئ، كما لو أن العملاق الذي يحمله ثنى ركبتيه استعداداً للقفز. وفي اللحظة التالية، اندفع جسده كله إلى الأعلى دفعة واحدة؛ ذلك العملاق قفز مباشرة باتجاه فوهة الفرن المغلقة!
دوّيٌ مزلزل، اهتزازات عنيفة، وأصوات تشقق واضحة جداً.
كانت تلك أصوات الصخور وهي تنهار تحت ضغط التصادم العنيف، على وشك أن تتحطم!
بعدها تسللت أشعة بيضاء من الأعلى.
لقد اخترق الحاجز!
انكسر الغطاء الحجري المختوم للفرن، وانفجرت منه أنوار بيضاء عمياء، مع عواصف هوجاء تعصف داخلاً، تصرخ وتعوي.
وقف شي ليان في كف ذلك العملاق الحجري، يضغط بيد على قبعة الخيزران فوق رأسه، ويستخدم الأخرى ليحمي وجهه من العاصفة الثلجية التي اجتاحت المكان. الهواء الخانق الحار قد زال تماماً، فتنفس بعمق هواءً بارداً منعشاً قبل أن يصرخ بكل قلبه:
"سان لانغ—!!!"
لم تزل أصداء المقطع الأول من صرخته تتردد حين شعر فجأة بذراعين يطوقانه من الخلف. تجمّد في مكانه للحظة ونظر للأسفل، وما إن رأى الأكمام الحمراء والدروع الفضية تعانقان خصره، حتى هدأ قلبه.
جاءه صوت عميق مفعم بالأسى عند أذنه: "...كنت سأفقد عقلي!"
أسرع شي ليان بالاستدارة، وأمسك وجنتي الآخر بكلتا يديه ليواسيه: "لا تفقد عقلك، لا تفقد عقلك، لقد خرجتُ بالفعل!"
كان هو هوا تشينغ . شعره الأسود مبعثر، وعيناه شاردتان قليلاً. ذلك القناع المبتسم الباكي الذي لم يستطع شي ليان نزعه مهما حاول، انتزعه هوا تشينغ بسهولة ورماه بعيداً. لم يعرف شي ليان لماذا رفع يديه ليضم كفيه إلى وجنتي هوا تشينغ ، لكنه فعل ذلك دون وعي، ربما ليطمئنه، وربما خوفاً من أن يتجمد وجهه في العاصفة. فمهما طال مكث شي ليان داخل الفرن، فلا بد أن هوا تشينغ بقي طوال تلك المدة يحرس فوهة البركان.
لقد دخلا معاً بخير، لكن أحدهما طُرد فجأة، والآخر لا يعرف ما الذي يجري بالداخل—بالطبع كان سيجن جنونه!
عانق هوا تشينغ شي ليان بقوة، وقال بيأس: "...لم أستطع دخول الفرن مهما فعلت، وكان عليك أن تحطّم القيود وتخرج بنفسك! لقد كنتُ حقاً..."
قاطعه شي ليان بسرعة: "سان لانغ، الأمر بخير، حقاً لا بأس! ثم إني لم أخرج وحدي!"
هدأ هوا تشينغ قليلاً وسأل: "ماذا؟ كيف خرجت غاغا ؟"
أجابه شي ليان: "أنت ساعدتني على اختراقه. انظر."
وأشار بيده إلى الأعلى. فرفع هوا تشينغ عينيه نحو حيث يشير.
بين الثلوج والرياح، ظهر تمثال عملاق لرجل، منحوت من صخور الجبال، واقف وسط العاصفة وكأنه يسند السماء ويثبت الأرض. وفي تلك اللحظة، كان الاثنان يقفان في قلب كف ذلك التمثال.
ملامح وجه التمثال رقيقة وجميلة: حواجب طويلة وعينان أنيقتان، شفتان ناعمتان منحنية الأطراف قليلاً، كما لو أنه يبتسم دون ابتسامة، حنون دون خفة، جاد دون قسوة—وجه رحمة وجمال.
— لقد كان وجه شي ليان!
رفع شي ليان رأسه ليتأمل ذلك الوجه، وقال بهدوء: "أهو هذا الذي حدثتني عنه؟ أجمل تمثال إلهي نحتته بيديك؟"
"...."
ظل هوا تشينغ يحدق به طويلاً قبل أن تعود عيناه نحو شي ليان بجواره. "نعم."
ذلك التمثال الحجري العملاق لا بد أنه نُحت في فترة بقاء هوا تشينغ أسيراً داخل الفرن، في أقسى لحظات العذاب.
وعلى مدى القرون، ظل مخفياً في أعماق ظلمة تونغ لو؛ بعض أجزائه ما زالت مغطاة. كان الفرن كهفه الطبيعي الموحش، وهو وحده إلهه الأعظم.
لقد كان هو والفرن جسداً واحداً، مكوَّنَين من نفس الصخر. فلو كان تمثالاً عادياً من حجر عادي، لما تمكن أبداً من اختراق الفرن، ولتحطم إلى شظايا. ولولا أن شي ليان نفسه هو المستدعى، أو لولا أن هوا تشينغ منح شي ليان ما يكفي من الطاقة الروحية قبل القفز، لما استطاع استدعاء هذا التمثال أو تحريكه.
التفت شي ليان إلى هوا تشينغ وقال بابتسامة: "إذن يا سان لانغ، لقد خرجتُ. لقد اخترقنا الحاجز معاً."
يتبع...
*Fangxin (芳心): ناعم، عاطفي، مليء بالرقة.
Zhuxin (誅心): عنيف، مدمّر، مليء بالقسوة.
الكاتب استخدم التلاعب بالأسماء ليُظهر التناقض الكبير بين رؤية شي ليان للأشياء (لطيفة ومليئة بالعاطفة حتى تجاه سيف قاتل) وبين طبيعة الأبيض عديم الوجه القاسية المتطرفة.
تعليقات: (0) إضافة تعليق