الفصل مئتان وواحد : يهيمن على السماء والأرض؛ كائن سماوي يخترق الفرن -٣-.
ذلك التمثال الحجري العملاق كان بالكاد قد بدأ يزحف ليقف على قدميه من جديد، حين اندفع أول جبلٍ من أرواح الجبال مهاجماً.
تذكّر شي ليان أن هوا تشينغ أخبره من قبل أنّه عندما كان في جبل تونغ لو، كانت تلك الجبال الثلاثة عدوّه الأكبر؛ تلاحقه باستمرار لتحطمه. وبطبيعة الحال، لا ينبغي الاستهانة بها. خطط شي ليان أن يقفز فوقها وينقلب متجاوزاً رأسها، لكنه لم يسبق له أن سيطر على تمثال إلهي عملاق بهذا الحجم من قبل، ولأداء حركة معقّدة كهذه ارتكب خطأً. لم يتمكن من القفز كما أراد، بل سقط أرضاً مجدداً.
دوي دوي! ارتجّت السماوات والأرض. سقط التمثال الحجري العملاق قرب العاصمة الملكية لوويونغ، وسحق شارعاً بأكمله. ومع مجرد حركة طفيفة منه، انطلقت أصوات التكسير، إنها أصوات القصور والمساكن الفخمة وهي تتحطم تحت جسده. وسط كل هذا الاهتزاز، كاد شي ليان أن يُرمى بعيداً مجدداً، لكن هوا تشينغ قبض على يده بإحكام.
صاح:
"تعال معي!"
أمسك بيده وقفز بخطوات سريعة إلى رأس التمثال العملاق. اتضح أن هذا "المسؤول العسكري المتوّج بالزهور" كان يربط شعره بتاج صغير، يشبه شرفة حجرية. قفز الاثنان فوق ذلك التاج، وأخيراً وجدا مكاناً مستقراً للوقوف، أكثر أماناً من الكتف أو الكف.
لكن لم يتاح لهما وقت للراحة، إذ اندفع روح الجبل مجدداً، وصدَم التمثال الحجري ليتراجع عدة خطوات إلى الوراء. هذه المرة كان شي ليان مستعداً ولم يسقط، لكنه داس من غير قصد على صف آخر من البيوت. لم يستطع منع قلبه من الألم، وأخذ يعتذر في صمت.
بينما كان يقود التمثال بعجز لينزلق بعيداً متجنباً البيوت، تساءل في حيرة:
"لماذا يصرّون على ملاحقتي وضربي؟ ماذا فعلت لهم؟"
أجابه هوا تشينغ :
"إنهم لا يلاحقونكَ أنت بالذات، غاغا . إنهم يهاجمون أيّ أحد. لكنك الآن بارز للغاية، لذلك لا يرون غيرك."
قال شي ليان مرتبكاً:
"صحيح... بهذا الحجم الهائل، يبدو فعلاً بارزاً..."
وقبل أن يُكمل أفكاره، كانت أرواح الجبال الثلاثة قد أحاطت بالتمثال من كل الجهات، تضغط عليه بلا توقف، محاولةً سحقه إرباً. أصبح التمثال غير قادر على تحريك أطرافه، وحتى شي ليان نفسه تجمد. بذل كل قوته ليجعله يقاوم، لكنه لم يفلح في دفعهم قيد أنملة، حتى خشي ألا يتمكّن من الدفاع مطلقاً!
وبينما كان يفكر في طريقة للهرب، تراجع خطوة لا إرادياً، فاصطدم بصدر أحدهم. التفت، فوجد هوا تشينغ قابضاً على كتفيه بقوة.
قال له بثبات:
"اترك كل شيء، وقاتل! لا تقلق، لا أحد منهم يستطيع أن يكون نداً لك. لا شيء في هذا العالم قادر على إيقاف خطوتك!"
كان صدره أشبه بأقوى الدروع، وفجأة امتلأ قلب شي ليان بالثقة. اندفع تيار بارد منعش في جسده كله، فجمع كل قوته وضرب بعنف، محطماً الحصار!
دوي دوي! انطرحت الجبال الثلاثة بعيداً أميالاً، والغبار يتطاير، والصخور تتناثر، والدخان والركام يتدحرج. لكن ما إن تراجعت حتى اندفعت عائدة، مستعدة للهجوم مرة أخرى. تشكلت أختام عديدة على يدي شي ليان في لمح البصر، وصاح:
"لـن تـمـنـعـوا طـريـقـي!!!"
قفز التمثال الحجري العملاق في الهواء، قدماه تهبطان فوق رأسي جبلين من الأرواح، ثم امتدت يده نحو مقبض السيف على خصره—وسحبه!
تدفقت الحركات بسلاسة كالماء والغيوم، نفذ التمثال الضخم الأفعال بدقة وهيبة، كأنها حركة محاربٍ حقيقي، بلا تردد.
أخذ شي ليان نفساً عميقاً، وصرخ:
"سـوف أقطعك—أه، انتظر؟!!"
كان على وشك أن يهوي بسيفه المجيد ليحول الجبال إلى وديان، لكنه فجأة شعر أن هناك خطأ ما. رفع بصره ليتأكد، فتفاجأ بشدة. أجل، التمثال العملاق استل سيفاً... لكنه كان مجرد مقبض!
أين النصل؟!!
ارتبك شي ليان تماماً، بينما رفع هوا تشينغ يده ليسند جبينه بإصبعين، وقال بأسف:
"...غاغا ، آسف. نسيت أن أخبرك أنني لم أنحت نصل السيف للتمثال. إنها هفوة مني."
"...."
طبعاً!
كان هوا تشينغ قد نحت التمثال داخل جدران الفرن الصخرية، في وضعية واقفة. أكمام التمثال الطويلة غطّت خصره، وأخفت السيف تقريباً، فلم يظهر سوى المقبض. ولأن النصل لم يُنحت أساساً، فمن الطبيعي ألا يظهر فجأة بعد أن دبت فيه الروح.
تجهم هوا تشينغ قليلاً وقال بجديّة:
"هذا خطئي. لم يكن نحتاً متقناً بما يكفي. في المرة القادمة سأنحت كل تفصيلة."
"...لا لا، إنه متقن للغاية بالفعل، حقاً!" سارع شي ليان لتلطيف الموقف، وهو يعلم أن هوا تشينغ لم يكن يمزح.
لكن، في النهاية، لا يوجد نصل، فلا مجال لقطع الجبال. لذلك غيّر شي ليان خطته فوراً: الهرب!
وجّه التمثال الحجري العملاق ليقفز من فوق رؤوس الجبال، ورمى مقبض السيف عديم الفائدة جانباً، ثم مدّ ساقيه ليواصل جريانه المحموم. وقف شي ليان وهوا تشينغ فوق تاج التمثال، والرياح تعصف بوجهيهما، شعر أسود، ثياب بيضاء، وأكمام حمراء تتطاير وتلتفّ، ورغم أنهما كانا في حالة فرار، إلا أن المشهد بدا كلوحة خلابة.
فجأة، طارت فراشة فضية بجوار أذن شي ليان، تحمل أصوات بشرية. أمسك بها سريعاً وقال:
"هل هذا فنغ شين ومو تشينغ على الطرف الآخر؟ هل سيدة المطر والجنرال باي هناك أيضاً؟"
وبالفعل، جاءته أصوات مألوفة عبر الفراشة.
قال باي مينغ:
"أقول يا سموك ، لا داعي للصراخ بهذا الشكل وأنت تسأل."
اعتذر شي ليان:
"آه، آسف، يبدو أن طاقتي الروحية فائضة الآن. سأضبطها قليلاً."
"...."
ثم جاء صوت مو تشينغ، مليئاً بالدهشة:
"ماذا؟! هل قلت للتو إن عندك فائضاً من الطاقة الروحية؟ أنت؟!"
سألهم شي ليان:
"هل اجتمعتم جميعاً؟ أين أنتم الآن؟"
أجابه مو تشينغ:
"نعم، اجتمعنا مع الجنرال باي، والجنرال باي الصغير، والآخرين. كلنا الآن في الغابة قرب نهر وويونغ، ونستعد للانسحاب إلى الخارج."
ثم جاء صوت فنغ شين، فيه قلق:
"ما الذي يجري عندكم؟ لقد شعرنا بحركة قوية غير طبيعية صدرت من الفرن للتو! هل تحتاجون أن نعود ونساعدكم؟"
أجاب شي ليان بسرعة:
"لا داعي! ابقوا هناك، سنأتي نحن ونأخذكم حالاً، وسنتحدث بعد ذلك! آه، لقد وصلنا بالفعل!"
كان أمامهم نهر وويونغ الجاف، فتجاوز التمثال الحجري العملاق النهر وجثم بجانب الغابة الكثيفة. وبالمصادفة، رأى شي ليان فنغ شين ومو تشينغ يخرجان من الأشجار، ينظران حولهما وكأنهما يبحثان عنه، لكنهما كانا يتطلعان في الاتجاه الخاطئ. لم يخطر ببالهما أن ينظرا إلى الأعلى، فلم يلحظا شي ليان ولا هوا تشينغ أبداً.
قال فنغ شين عبر الفراشة:
" سموك ، ألم تصل بعد؟ أين أنت؟"
ضمّ شي ليان كفّيه أمام فمه وصاح باتجاه الأسفل:
"أنا هنا بالفعل! في الأعلى، انظرا للأعلى، فوق رأسيكما!"
"...."
حينها فقط انتبها إلى الظل الهائل الذي يغطيهما، فرفعا بصرهما معاً.
فرأيا في اللحظة ذاتها "شي ليان" ضخماً إلى حد لا يُصدّق، جاثياً بجانب الغابة وينظر نحوهما من الأعلى، وحتى أن على وجهه ابتسامة ودودة مألوفة للغاية.
أما هوا تشينغ فلم يكترث حتى لإلقاء نظرة، وظل واقفاً جانباً عاقداً ذراعيه، بملامح كسولة. ولوّح شي ليان بيده للأسفل قائلاً:
"هل ترونني؟ أنا هنا!"
لكن وقع الصدمة البصرية من رؤية نسخة عملاقة من "شي ليان" كان قوياً لدرجة أن المرء لا يلحظ شيئاً آخر عند النظرة الأولى.
غشى وجه مو تشينغ بأكمله ذلك الوجه، فتمتم مذهولاً:
"...لم أُصَب بالجنون... صحيح؟"
أما عينا فنغ شين فامتلأتا بذلك الوجه أيضاً، وتمتم:
"...ما هذا اللعنة... ما هذه اللعنة... ما بحق اللعنة في هذا العالم؟ ما هذا الشيء؟"
قال شي ليان متردداً:
"أه..."
رفع هوا تشينغ حاجبيه، وكأنه يبذل جهداً هائلاً ليكتم ضحكة. والحق يُقال، لم يسبق أن شاهد أحد من قبل تمثالاً إلهياً بهذا الحجم وبهذا النحت الواقعي البديع. أكبر تمثال معروف في الماضي كان لجون وو، ومع ذلك لم يتجاوز نصف حجم هذا التمثال الحجري العملاق...
ظل فنغ شين ومو تشينغ مذهولين تماماً، واضطر شي ليان للصراخ عليهما عدة مرات قبل أن يجدا مكان وجوده الحقيقي. خرج الآخرون من الغابة واحداً تلو الآخر، وما إن رفعوا رؤوسهم حتى صُعق معظمهم بالتمثال العملاق لدرجة كادوا أن يلووا أعناقهم أو يسقطوا أرضاً. لم يدري شي ليان أَيضحك أم يبكي، فمدّ التمثال يده إلى الأرض وبسط كفه.
قال:
"بركان الفرن قد ثار، والنيران ستحرق هذه المنطقة قريباً، وهناك أيضاً ثلاثة جبال أرواح قد تلحق بنا. اصعدوا بسرعة، سأُخرجكم جميعاً!"
تسلق الجميع كف التمثال العملاق، وكل واحد وجد مكاناً ليستقر فيه. كان شي ليان يشم رائحة الكبريت الخانقة في الهواء، ولما التفت، رأى الدخان الأسود والغبار يتسعان بسرعة. فأغلق كف التمثال العملاق، وجعله ينهض ليواصل خطواته العملاقة إلى الأمام.
بعد أن تجاوز باي مينغ والبقية صدمتهم الأولى، عادوا إلى هدوئهم، لكن فنغ شين ومو تشينغ لم يستفيقا بعد. ربما لأنهما كانا يعرفان ملامح وهيئة صاحب هذا التمثال جيداً، وبعد أن تضخمت بهذا الحجم الهائل، صارت الصدمة أشد وقعاً.
وقف فنغ شين فوق كتف التمثال، لا يزال غير مصدّق:
"من فعل هذا؟ من نحت هذا؟ كيف لم أرَه من قبل؟ لم أسمع عنه قط!"
ابتسم هوا تشينغ ابتسامة زائفة وقال:
"هناك الكثير مما لم تره بعد في هذا العالم."
ورغم أنه لم يُصرّح بمن الفاعل، إلا أن الجميع تقريباً—وخاصة فنغ شين ومو تشينغ—أجمعوا على إجابة واحدة:
إنه هذا الرجل!
قال مو تشينغ مذهولاً:
"يكاد لا يُصدّق... كيف تتحكم بهذا الشيء؟ كم يحتاج من الطاقة الروحية؟ هل لديك ما يكفي؟ ظننت أنك لا تملك أي طاقة روحية أصلاً؟"
هذه المرة لم يُجب هوا تشينغ ، بل سرق شي ليان نظرة نحوه ثم وضع قبضته على فمه مجيباً بتردد:
"أمم، في الحقيقة..."
قاطعه باي مينغ قائلاً:
"إن لم تكن لديك طاقة، فمن الطبيعي أن تستعير، أليس كذلك؟ أمر بسيط."
ضحك شي ليان قائلاً:
"هاهاها، صحيح..."
وعلى طول الطريق، حين رأت الوحوش والشياطين الحمم تتدفق، والنيران المشتعلة تهب بجنون، أدركوا أن شيئاً خطيراً يحدث. وما إن شاهدوا بشراً يتسلقون التمثال الحجري العملاق حتى تعالت صيحاتهم:
"انتظرونا نحن أيضاً!"
"أنا أنا أنا، سأصعد أيضاً!"
"خذونا معكم! اصطحبونا!"
لكن هوا تشينغ قال ببرود:
"انزلوا من هنا فوراً."
وانتشرت موجة من الفراشات الفضية، تبعث وهجاً بارداً، تلاها صراخ وعويل من الأسفل.
كان يين يو يحمل غوزي النائم بين ذراعيه، ونادى بصوت عالٍ:
"سيدي! صاحب السمو! أولئك القشور الفارغة وجرذان آكلة الجثث من قبل صاروا فجأة هائجين ويتحركون جماعات، يبدو أنهم في طريقهم للخروج من جبل تونغ لو!"
أما سيدة المطر، فكانت تمتطي الثور الأسود، تحدّق في السماء بتركيز. وقالت:
"تلك الكائنات داخل الغيوم السوداء أيضاً يبدو أنها تريد الخروج."
وكانت كلماتها صحيحة. فالمخلوقات التي كانت تلتوي داخل الغيوم السوداء كلها أرواح حاقدة تتعطش لأجساد حيّة لتتلبسها، ومن ثم تتحوّل إلى "داء الوجوه البشرية". داخل جبل تونغ لو لم يكن هناك أي أحياء، بل فقط وحوش وأشباح أو مسؤولون سماويون لا يستطيعون اختراقهم، لذا أرادوا الخروج بالطبع. ملايين الوجوه البشرية الملتوية، تجر وراءها ذيولاً طويلة من الدخان الأسود، كانت تدور في السماء مثل ثعابين وديدان مشوّهة.
ارتعشت يدا شي ليان قليلاً، لكنه قال:
"جبل تونغ لو تحيط به عَزلة، لا شيء من الخارج يدخل، ولا شيء من الداخل يخرج. إذاً، تلك الأرواح الحاقدة لا ينبغي أن تتمكن من المغادرة في الوقت الراهن..."
لكن قبل أن يُكمل كلامه، أمسك هوا تشينغ فجأة بيده. ارتجف قلب شي ليان في اللحظة ذاتها، فأمسك بيده الأخرى بقوة.
قال بقلق:
"ما الأمر؟ هل استنزفتُ الكثير؟ آسف آسف، كان يجب أن أوفّر..."
لكن هوا تشينغ كان يضع يده على عينه اليمنى، وقال ببرود:
"ليس هذا السبب، غاغا . لا داعي للقلق بشأنك. المشكلة في حاجز جبل تونغ لو... لقد تحطّم."
أُصيب شي ليان بالذهول:
"ماذا؟ تحطّم؟"
لقد قال بنفسه قبل قليل إن لا داعي للقلق بوجود الحاجز، فما الذي يجري بحق السماء؟
أجاب هوا تشينغ :
"لقد كُسر. من المحتمل أن يكون الابيض عديم الوجه هو من فتحه. تلك الأشياء... ستخرج."
يتبع...
تعليقات: (0) إضافة تعليق