الفصل مئتان وثلاثين : النرد الماكر؛ عيني الأفعى تهزّ القلب -٢-.
لو كان ذلك التمثال الحجري العملاق للإله موجودة هنا، لكان بإمكانهم عبور النهر بخطوات قليلة فقط. لكن شي ليان تركه في العاصمة الملكية ليحرسها ويكبح الأرواح الشريرة، أما الأرواح الثلاثة للجبال فقد تحولت إلى سيف بالفعل، لذا من الأفضل أن لا تأتي.
قال شي ليان: "سان لانغ، هل يمكن للفراشات الفضية أن تحملنا للعبور؟"
أجاب هوا تشينغ : "ببخار الحمم قد تذوب الفراشات في منتصف الطريق."
فلو سقطوا من الجو أثناء العبور، واصطدموا مباشرة بقلب نهر الحمم، فلن تكون النتيجة جميلة.
لكن هوا تشينغ أضاف: "لكن هناك طريق جاهز بالفعل."
التفت الجميع نحو الجهة التي كان ينظر إليها، وبعد لحظة صرخ شي ليان: "لماذا يوجد أناس داخل الحمم؟"
كان ذلك حقيقيًا تمامًا، لم يكن يتخيل. فقد رأى في تلك اللحظة يدًا شاحبة بشكل مأساوي تخرج من الحمم، ممدودة نحو السماء.
وبالتدقيق، قال مو تشينغ: "إنهم موجودون فعلًا! وليسوا شخصًا واحدًا فقط؟"
كان هناك ما لا يقل عن ألف شخص، عدد من الأجساد والرؤوس تطفو على سطح النهر، بعضهم يتقلب مع تيار الحمم، وآخرون يسبحون عكس التيار. أجسادهم جميعًا بيضاء غريبة ووجوههم مطموسة، ولم يكونوا بشرًا أحياء.
فهم شي ليان الأمر: "إنهم أولئك القشور الفارغة من العاصمة الملكية لوويونغ... لقد جرفتهم الحمم إلى هنا."
وبما أن لديهم مهارات قتالية عالية، فلن يكون من الصعب استخدام هؤلاء القشور كأحجار يخطون عليها للعبور. لكن بما أن تلك الأرواح البائسة كانت تعاني وسط النهر المشتعل، فسيكون مؤلمًا أن يُداس عليها أيضًا. ومع ذلك، لم يكن لديهم وقت للتفكير في ذلك.
تقدم مو تشينغ أولًا. اختار المواضع المناسبة، وبقفزات قليلة عبر النهر ووقف على الضفة الأخرى، ثم التفت نحوهم.
قال شي ليان لغوشي : "دعني أنقلك أولًا."
لم يكن غوشي مسؤولًا عسكريًا ، ولم يتدرب على فنون القتال، لذا احتاج لمن يساعده. أومأ برأسه وتقدم.
لكن هوا تشينغ قال: "غاغا ، دعني."
فقال شي ليان موافقًا: "حسنًا."
فتقدم هوا تشينغ وأمسك بذراع غوشي كما لو كان يساعد شيخًا مسنًا: "سيدي الغوشي، تفضل. انتبه لخطواتك."
التفت غوشي ورأى أن من يساعده ليس شي ليان بل شخص آخر، فعقد حاجبيه: "هاه؟ لماذا أنت؟"
خمن شي ليان أن هوا تشينغ قلق من أن لا يكون مناسبًا أن يحمل شخصًا آخر بنفسه، كما أنه أراد أن يستعرض شيئًا أمام الشيخ، فيظهر قليلًا من اهتمامه، لذلك طلب أن يقوم بالأمر.
رؤية هذا جعلت شي ليان يضحك بخفة، وأخفى ضحكته بسعال صغير: "سان لانغ كان صادقًا جدًا حين قال إنه يريد مساعدتك، لذا أنا..."
أما هوا تشينغ فقال بابتسامة عريضة: "هل يهم إن كنت أنا أم غاغا ؟ ثم إني أحترمك كثيرًا يا سيدي، لذلك من الطبيعي أن أساعدك، هذا لا شيء."
ظل غوشي صامتًا لحظة، ثم قال: "إن كنت حقًا تحترمني، فأوقف تلك الابتسامة الزائفة. إنها مبالغ فيها جدًا..."
أزال هوا تشينغ ابتسامته فورًا: "حسنًا."
وبلا كلمة إضافية، حمل غوشي، وفي لحظة برق، كانا قد وصلا الضفة الأخرى.
كانت حركته سريعة بشكل مرعب، ولم يستوعب غوشي ما حدث حتى وجد نفسه يقف بجانب مو تشينغ، مذهولًا. أما القشور الفارغة التي وطئها هوا تشينغ بحذائه فلم تدرك حتى أنه داسها، بل رفعت رؤوسها في حيرة وظلت تسبح في الحمم.
وحين استعاد غوشي وعيه، ألقى نظرة على هوا تشينغ وقال: "لا بأس، جيد نوعًا ما."
أما شي ليان ففكر: "هذا حكم قاسٍ جدًا. كيف يمكن لمهارة كهذه أن تكون "لا بأس" فقط؟" ثم نادى: "سأعبر الآن أنا أيضًا!"
قال هوا تشينغ وهو يلتفت: "غاغا ، ابق مكانك، سأعود لآخذك!"
لكن شي ليان تحرك أسرع من كلماته، فقد قفز بالفعل، ووطئت أصابع قدميه بطن قشرة فارغة طافية، فشعر بجسدها يتمايل قليلًا تحت وزنه، لكنه قفز فورًا نحو الرأس الفارغ التالي.
بهذه الطريقة عبر خمسة أو ستة منها، حتى وصل إلى منتصف النهر. لكن فجأة، انخفض جسده وكاد يفقد توازنه. وبفضل رد فعله السريع تماسك، ونظر إلى الأسفل، ليجد أن القشرة التي يقف عليها أمسكت بحذائه!
فكر في نفسه بقلق: "ليس مجددًا!"
لقد عاد نحسه السيئ. فالآخرون عبروا النهر بسلاسة، لكنه هو وحده الذي وقع مع وحش مشاكس، ممسكًا بكاحله الأيمن مانعًا إياه من القفز!
وبما أن القشور الفارغة تطفو فقط لكونها مجوفة، فهي لا تحتمل وزنًا كبيرًا. ومع تصاعد البخار كان العرق يتصبب من جبين شي ليان، بل إن طرف كمّه اشتعل نارًا. ولو بقي مكانه فسوف يغرق هو وحجره في الحمم، وسيحترق بالكامل!
وفي اللحظة الأخيرة خطرت له فكرة. فانطلقت رويي والتقطت قشرة أخرى تبعد ثلاثة أقدام، وسحبها إليه، فثبت قدمه اليسرى فوقها. وهكذا، أصبح تحت قدميه قشرتان تحملانه معًا، فزاد ذلك من توازنه ومنع سقوطه. وبعد أن نجا من الخطر، سحب سيف فانغ شين وقطع الذراع التي أمسكت به. وبينما كان يستعد للقفز مجددًا، ظهر ظل أحمر بجانبه فجأة.
قال شي ليان: "سان لانغ؟ لقد أصبحت بخير، لم يكن عليك أن تأتي."
لكن هوا تشينغ ضرب القشرة التي أمسكت به بكفه فتناثرت قطعًا: "لنكمل الحديث بعد أن نصل إلى الشاطئ."
وصلا إلى الضفة، فقال شي ليان: "آسف، أقلقتك."
قال هوا تشينغ : "الخطأ خطئي. كان يجب أن أقول لك ان تنتظرني حتى آتي بك قبل أن تعبر."
قال غوشي معترضًا: "حسنًا، كفى. سموه ليس ضعيفًا لهذه الدرجة، حتى لو لم تذهب إليه كان سيتدبر أمره. لماذا كان لا بد أن تذهب؟ هيا، من هنا."
تسلقوا الضفة وساروا قليلًا، حتى وصلوا إلى قصر وويونغ.
كان نصف القصر مدفونًا في الأرض. وبعد دخولهم، صار الطريق مائلًا يقود مباشرة إلى أعماق باطن الأرض. ومع الابتعاد عن السطح بدأت الحرارة تخف. وكان القصر تحت الأرض فارغًا، حتى أصغر حركة كانت تُحدث صدى يتردد طويلًا.
أشعل كل واحد منهم شعلة صغيرة بيده لينير الطريق. ورغم أن القصر كان مغلقًا منذ زمن طويل، إلا أنه ظل عظيمًا وفخمًا؛ انعكس ضوء النار على نقوش ذهبية لامعة وأعمدة منحوتة ورسومات بديعة. لكن المكان بلا أرواح، فكان الجو ميتًا، وكأن هذا القصر مجرد ضريح ضخم.
قال غوشي : "هنا نشأ جلالته."
سأل مو تشينغ: "هل هو موجود فعلًا هنا؟"
أجاب: "ما رأيك؟ هنا تكمن أقوى قواه، فكونوا حذرين."
في تلك اللحظة لاحظ شي ليان شيئًا. عند خصر هوا تشينغ ، كانت العين الفضية على مقبض سيف إي-مينغ تدور بسرعة، في اضطراب غير عادي. لكن هوا تشينغ ظل بوجه هادئ مركز، متجاهلًا الأمر. فلم يستطع شي ليان إلا أن يمد يده ويمسح عليها، فهدأت قليلًا. فنظر هوا تشينغ للأسفل، ولما رأى يد شي ليان ما تزال على المقبض، بدا وكأنه سيقول شيئًا.
وفجأة، انطلقت من أركان القاعة الكبرى ضحكات "هاهاها ..." متواصلة. كانت بصوت رجل في منتصف العمر، خبيث وماكر، كأنه يدبر مؤامرة، فجعلت شعر شي ليان يقف من الرعب. وقد سمع ذلك الصوت من قبل.
كان صوت روح الجنين!
صرخ مو تشينغ: "هناك!"
فقذف بخط من النار، أضاء المكان فوقهم. فرأوا كتلة بيضاء ملتصقة بزوايا سقف القصر العالية مثل وزغة، كانت روح الجنين! ولسانه الطويل اللامع يلعق ظهره كما لو كان يحك نفسه.
عندما رأى الجنين الشيطاني ألسنة النار تطير نحوه، ضحك باستهزاء وبصق شيئًا يشبه القيء باتجاه مو تشينغ. تفاداه مو تشينغ بمهارة، وعلامة الاشمئزاز بادية على وجهه.
نظر غوشي إلى تلك المادة اللزجة على الأرض، ثم إلى الجنين الملتصق بالأعلى، وقال باشمئزاز:
"هل هذا فعلًا ابن ذلك الصعلوك فنغ شين؟؟"
سارع شي ليان بالنداء:
"انتظر! تسو تسو! أليس هذا اسمك، تسو تسو؟"
حين سمع الجنين اسمه، توقف للحظة ثم التفت لينظر إليه.
قال شي ليان:
"تسو تسو، لقد جئنا لنبحث عن... عن... عن والدك. هل تعرف أين هو؟"
وما إن سمع كلمة "والدك" حتى أطلق شخيرًا ساخرًا، ثم بدأ يزحف مستخدمًا أطرافه الأربعة بسرعة "بطا بطا" واختفى.
صاح شي ليان:
"تسو تسو! أسرعوا، ابحثوا عنه!"
فورًا أشعل الجميع مشاعلهم أكثر، وبدأوا يبحثون في كل مكان.
فجأة هتف مو تشينغ:
"من هناك!"
رد شي ليان:
"أي اتجاه؟"
أشار مو تشينغ إلى ممر جانبي:
"رأيته يدخل هناك للتو."
كان الممر ضيقًا وطويلًا، مظلمًا ومخيفًا. من الواضح أنه لا يؤدي إلى مكانٍ حسن.
فجأة قال هوا تشينغ :
"هل رأيته حقًا يدخل هناك؟"
أجاب مو تشينغ بانزعاج:
"ولماذا أكذب عليك؟ ما الفائدة؟"
أطلق هوا تشينغ ضحكة باردة بلا مشاعر، تحمل عداءً واضحًا.
فوبخه غوشي:
"ما الذي تتشاجران عليه الآن؟ لا تتركوا أي مكان مريب دون تفتيش. حتى لو ألقينا نظرة فقط فلن يضر."
كان الممر ضيقًا جدًا، ربما كان أوسع قديمًا لكنه تهدم وأصبح لا يسمح إلا بمرور شخص واحد في كل مرة.
شعر مو تشينغ بالضيق من نبرة الشك في صوت هوا تشينغ ، فتقدم أولًا. أما هوا تشينغ فقد وقف بشكل طبيعي أمام شي ليان ليفتح له الطريق، لكن شي ليان لاحظ أن عين إي-مينغ على خصر هوا تشينغ تدور بجنون. شعر بالخطر وسحب هوا تشينغ إلى الخلف فورًا.
تفاجأ هوا تشينغ وسأل:
"ما الأمر؟"
تنحنح شي ليان بهدوء وقال:
"ألم أقل لك إنني سأحميك؟ قف خلفي."
بعد لحظة، ضحك هوا تشينغ بهدوء.
كلما توغلوا أكثر، ازداد شعور شي ليان بعدم الارتياح. غرائزه كانت دقيقة جدًا في استشعار الخطر، وما كان يقلقه بشدة يأتي من الأمام.
سأل شي ليان:
"غوشي، هل تتذكر إلى أين يؤدي هذا الطريق؟ لماذا أشعر أنه كلما تقدمنا زاد ثِقَل..."
هالة قتل.
لم تكن هالة قتل نشطة، بل باردة وجامدة كالثلج. وكلما ساروا أعمق، ازداد توتره.
لكن غوشي لم يرد. عندها انتبه شي ليان فجأة، ورفع صوته قائلًا:
"غوشي؟"
لكن لم يأتِ جواب. استدار بسرعة، ليكتشف أنه لا يوجد أحد خلفه!
السبب في أنه لم يلحظ ذلك من قبل هو أن شعلات النار التي أطلقها هوا تشينغ وغوشي ما زالت تطفو في الهواء خلفه، تتحرك ببطء وتضيء الطريق، وكأن أصحابها لم يختفوا.
التفت مو تشينغ هو الآخر، وقال بصدمة:
"أين ذهب زهرة المطر القرمزي ؟"
تحرك شي ليان عائدًا بلا كلمة، لكن مو تشينغ أوقفه قائلًا:
"إلى أين؟ نحن على وشك الوصول! ثم هل تظن أن زهرة المطر القرمزي سيعود أدراجه؟"
أجاب شي ليان بصوت منخفض:
"... لا."
ولهذا بالتحديد كان الأمر مخيفًا؛ لأن هوا تشينغ أبدًا لن يرحل وحده بصمت!
تذكر شي ليان بسرعة الخيط الأحمر الذي تركه هوا تشينغ معه، فرفع يده ونظر. كان الخيط في إصبعه الثالث ما زال لامعًا قويًا، مما يعني أن هوا تشينغ بخير. تنفس بارتياح، لكنه تذكر الأعين التي أطلقها هوا تشينغ قبل دخولهم، فعقد حاجبيه بقلق.
قال مو تشينغ:
"على الأرجح لن تجد شيئًا حتى لو عدت. الأفضل أن نتابع ونرى ما بالداخل، وإلا سنضيع وقتًا بالعودة خاليي الوفاض ونضطر للقدوم مجددًا."
كان شي ليان على وشك الرد، لكنه فجأة رفع يده:
"شش... اسمع. ما هذا الصوت؟"
أصغى مو تشينغ باهتمام.
كان صوت رجل يتنفس ببطء وعمق.
وكان يأتي من الأمام!
تأهبا فورًا، كل منهما قبض على سلاحه وتقدما بحذر. وأخيرًا خرجا من الممر الطويل ووَصَلا إلى قاعة صغيرة. نظر مو تشينغ الى المكان بحذر، بينما أطلق شي ليان شعلة صغيرة أضاءت المكان، فكشفت عن جسد ملقى على الأرض.
بمجرد أن رأى شي ليان ظهر ذلك الجسد، عرفه وركض نحوه:
"فنغ شين؟!"
قلبه بسرعة، وكان فعلًا فنغ شين. جسده مليء بالحروق والجروح، لكنه لم يكن في خطر مميت. ربت شي ليان عليه قليلًا حتى استعاد وعيه ببطء، وما إن فتح عينيه بدأ يسبّ، لكن حين رأى أن من أمامه هو شي ليان، توقف فجأة.
"سموك؟! لماذا أنت هنا؟"
تنهد شي ليان:
"الأجدر أن تسألني أنت: أين هذا المكان؟"
جلس فنغ شين وهو يتلفت حوله:
"وأين نحن أصلًا؟"
كما توقع شي ليان، حتى فنغ شين لم يعرف، فعلم أن السؤال بلا فائدة. مد يده لمساعدته على النهوض:
"انهض أولًا. بما أننا وجدناك، فعلينا أن نبحث عن سان لانغ أيضًا."
سأل فنغ شين:
"تقصد زهرة المطر القرمزي ؟ ماذا حدث له؟ ألم يكن معك؟"
بدأ شي ليان يشرح:
"القصة كالتالي، كنا معًا..."
لكن فجأة رفع فنغ شين يده ليقاطعه:
"انتظر! من هذا الذي خلفك؟"
التفت شي ليان، فرأى ظلًا غارقًا في العتمة لا يتحرك، فقال بهدوء:
"ذاك مو تشينغ. ما الأمر؟"
تقلصت حدقتا فنغ شين فجأة، وصاح:
"أمسك به، بسرعة!!"
يتبع...
تعليقات: (0) إضافة تعليق