الفصل مئتان وأربعة وثلاثين : جروف شاهقة بمئات الياردات؛ ألف منعطف فوق شلالات الحمم -٢-.
ساد الصمت على شي ليان لبرهة طويلة. كان مقبض السيف الطويل قد احمرَّ من شدة الحرارة، فأطلق مو تشينغ صرخة قوية، إذ أفلتت إحدى يديه، وظلّ معلّقًا بيده الأخرى فقط. لم يجرؤ على البقاء على تلك الهيئة طويلًا، فأعاد تشبثه، لكن راحت يداه تصدران خيوطًا من بخار أبيض، وحتى مع المسافة البعيدة، كاد الآخرون أن يشمّوا رائحة اللحم المحترق.
أطلق هوا تشينغ فراشة فضية بخفّة. خفقت جناحاها، وطارت بضع مئات من الأقدام، لكنها لم تبلغ حتى ثلث الطريق نحو مو تشينغ حتى تلاشت في الهواء دخانًا فضيًا. أدرك شي ليان أن هوا تشينغ كان يبرهن له أن الفراشات لن تنفع، وأن الأمر طريق مسدود لا يستحق المجازفة.
شهد مو تشينغ أيضًا تلاشي الفراشة، فتبدل وجهه شيئًا فشيئًا إلى اليأس. لقد فهم. أولًا، لم يكن هناك من يستطيع إنقاذه حقًا، وثانيًا، لم يكن هناك من يصدّقه. ثم إن كلماته التي أيقظت ذكرى بعينها جعلت لا سبب يُقنع شي ليان بأن يخاطر بحياته لينتشله.
لكن، وبرغم يأسه، أبى أن يستسلم. شدّ على أسنانه وهتف:
"إن لم تصدّقني، فلا بأس! لكنني لن أسقط بهذه السهولة أبدًا!"
قبض بقوة وحاول أن يدير جسده في الهواء ليستوي واقفًا فوق مقبض السيف. لكن فجأة، وقبل أن يرتفع إلا بضع بوصات، إذا بجسده يهبط بعنف!
خفض بصره، فرأى أرواحًا ناقمة لا تُحصى وقد امتزجت بلون الدم القاني، بوجوه وأطراف مشوّهة، التصقت بساقه وجذبته إلى الأسفل!
تلك الأرواح كانت ذائبة في مجرى الحمم، لكنها انبثقت فجأة، واحدة تلو الأخرى، تتشبث بجسده السفلي. ثقيلة، ملتهبة، تزيد النار وقودًا فوق وقود. كاد يفقد عقله.
صرخ: "اغربوا عني!!!"
لقد واجه الموت مرارًا في القرون الماضية، لكن تلك المرات كانت نتيجة جروح بالغة. أما أن يموت غارقًا في الحمم، فذلك أفظع بألف مرة. تخيّل نفسه يتلاشى كدخان الفراشة الفضية، تاركًا الدنيا بلا أثر، فلم يطق احتماله.
بلغت يداه غايتهما، وتراخت أصابعه العشر، عاجزة عن القبض أكثر.
صار الفراغ تحت السيف، وسقط! كان جسده يهبط نحو ألسنة اللهب وبركة الحمم المشتعلة.
"آآآآآآآآآه!"
صرخة مروّعة تمزقت بها حنجرته، لكن بعد أن هبط مسافة، توقف سقوطه فجأة، وظل معلقًا في الهواء!
لم يستوعب مو تشينغ الأمر في الحال، نصف رأسه مخدّر، لكن غريزته جعلته يتحسس جسده بسرعة. فإذا برباط حريري أبيض يطوّق خصره.
إنها رويي بطبيعة الحال! لكن... القصر الذي كان يقف عليه شي ليان بعيد عن حافة الجرف. إن كانت رويي لم تستطع الوصول إليه سابقًا، فكيف أمسكت به بعد أن هوى؟
رفع بصره مصعوقًا، ليجد أن شي ليان لم يكن فوق سطح القصر أصلًا، بل كان منحنٍ نصف جلوس فوق مقبض السيف الطويل نفسه!
كان يسحب رويي بسرعة، وأطلق زفرة ارتياح حين رأى أن مو تشينغ بخير:
"الشكر للالهة ... وصلت في الوقت المناسب."
تمتم مو تشينغ مذهولًا: "...سموك ؟"
كانت تلك اللحظات شديدة الوقع حتى صار ذهنه مشوشًا. فالمسافة بعيدة، والحمم تتدفق بلا توقف، ولا موطئ قدم آخر بينهم. بأقصى قفزة، لا يمكن لشي ليان أن يقطع إلا نصف المسافة، فكيف وصل؟
من بعيد دوّى صوت فنغ شين:
"سموك ! هل أنتما بخير؟!"
نظر مو تشينغ إلى مصدر الصوت، فوجد على سطح القصر كلًّا من هوا تشينغ وفنغ شين فقط. كان هوا تشينغ يراقبهما وذراعاه معقودتان، لا يعبأ إلا بسلامة شي ليان. وبين القصر والجرف، كان هناك سيف حالك السواد مغروسًا بثبات وسط الحمم المتدفقة.
فانغ شين!
الآن فقط أدرك!
لم يكن بوسع شي ليان أن يقفز كامل المسافة، لذا رمى فانغ شين أولًا، وثبته في مجرى الحمم ليصنع نقطة ارتكاز، ثم انطلق منها إلى مقبض سيف مو تشينغ. في اللحظة الأخيرة، أطلق رويي وأمسك به.
قال شيه ليان: "كنتُ أبحث عن حل، ولم يكن هناك شيء يساعد، لذا استغرق الأمر وقتًا. لقد هلعت أكثر من اللازم، لا تفقد رباطة جأشك وإلا سقطت أسرع."
كان مو تشينغ قد ظنّ أن صمت شي ليان تردّدًا في إنقاذه، لكنه في الحقيقة كان يفكر في كيفية إنقاذه. ولحسن الحظ، أنه حتى في مثل هذا الخطر، ظل شي ليان حاضر الذهن.
انسابت حبات العرق على جبين مو تشينغ بغزارة. رفع عينيه، فإذا بيد شي ليان ممدودة إليه مع ابتسامة:
"على أي حال، وإن كانت متأخرة بعض الشيء، فهي ليست متأخرة تمامًا، أليس كذلك؟"
"...."
شعر مو تشينغ أن ذراعيه أثقل من أن يرفعهما بعد طول تمسكه، لكن شي ليان مد يده أكثر وقال:
"تعال."
أمسك بيده أخيرًا. كانت ذراعه ترتجف، لكن شي ليان جذبه بقوة، فنهضا معًا فوق مقبض السيف. ثم لوّح شي ليان نحو سطح القصر:
"سان لانغ! نجحنا!"
فأجاب هوا تشينغ : "أحسنت، غاغا. عد الآن، حالًا!"
رد شي ليان مبتسمًا: "حسنًا، سأعود حالًا!" ثم التفت إلى مو تشينغ وسأله: "هل تستطيع القفز؟ إن لم تستطع، فسآخذك أنا."
تحركت شفتا مو تشينغ: "أنا..."
لكن شي ليان نظر إلى حاله وقال بحزم: "سآخذك أنا."
ثم أمسك شي ليان بظهر مو تشينغ. لو كان هذا في الماضي، لربما رفع مو تشينغ عينيه ساخرًا في خفاء، واشتكى من قسوة قبضته وعدم مراعاته لحرمة الآخرين. أما الآن، فلم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة.
كان شي ليان على وشك القفز حين شعر كلاهما فجأة بالأرض تميل تحت أقدامهما في اللحظة نفسها. وكأن ما أصابهما لم يكن كافيًا، فإذا بالسيف الطويل المثبّت في الصخور يختار هذه اللحظة بالذات ليترنح ويتراخى!
تغيّرت ملامح هوا تشينغ على الفور. صرخ:
"غاغا !!!"
وفي هذه المرة، كان جسدان اثنان يهويان معًا نحو بركة الحمم القرمزية.
حتى في تلك اللحظات المحرقة التي تحرق فيها النار الحواجب، ظل عقل شي ليان صافياً وسريع التفكير. صاح:
"لا بأس!"
ثم دار في الهواء عدة مرات، وأمسك بمقبض السيف بكلتا يديه، وغرسه مجددًا في الصخور!
طنين معدني حاد دوّى، وتناثرت شرارات لامعة براقة. وعلى سطح طبقة الحماية الروحية التي تغلّف جسد شي ليان، بدت تلك الشرارات كحبّات من ذهب مسحوق؛ لو لم تكن هذه الطبقة تحميه، لأحدثت شرارة واحدة ثقبًا عميقًا في جسده.
رفعت رويي مو تشينغ إلى الأعلى، فقال شي ليان بجدية:
"هذا السيف لن يحتمل وزن رجلين بالغين لوقت طويل. لا يمكننا الاستمرار هكذا. بيننا نحن الاثنين، لا بد أن يبقى أحد فقط."
عاد مو تشينغ ببطء إلى وعيه. قال: "هل تقصد..."
أجابه شي ليان: "يمكنك أن تذهب."
"...؟؟؟"
تقلّصت حدقتا مو تشينغ، لكن قبل أن يتمكن من الاعتراض، أمسكه شي ليان ورماه بقوة إلى الأعلى، وهو يصيح:
"استعد!"
طار مو تشينغ فوق الجرف، واكتشف أنه يتجه نحو فانغ شين المغروس هناك. تماسَك، وقلب جسده في الهواء، ثم هبط بثبات على مقبض فانغ شين.
وحين استقر فوقه، أدرك السبب الذي جعل شي ليان يرميه أولًا.
فالمسافة بعيدة، وبوسع شي ليان أن يقفز إليها من موطئ القدم المنخفض الذي يقف عليه، لكن هو لم يكن ليقدر. المسافة بالنسبة له بعيدة جدًا، ولم يكن بإمكانه الوصول إلا بقوة رمي شي ليان له.
مسح فنغ شين عرقه البارد وقال:"الشكر للالهة أن سموك سريع البديهة!"
أما هوا تشينغ ، فقد بدا وجهه مشدودًا، ونادى بصوت حازم:
"غاغا ! إن لم تعد فورًا، فسأنزل أنا إليك!"
كان في نبرته تحذير صريح، فسارع شي ليان إلى الرد:
"أنا عائد حالًا! الأمر بخير، ليس عسيرًا جدًا، أستطيع أن أقفز بنفسي، لا تنزل."
عندها فقط خفّ توتر هوا تشينغ قليلًا، لكنه ظل يراقب دون أن يرمش.
نظر فنغ شين إليه وقال باندهاش: "...إنني متفاجئ قليلًا."
لم يلتفت هوا تشينغ ، وأجاب ببرود: "ممّا؟"
حكّ فنغ شين رأسه وقال: "كنت أظن، بما أنك متحيّز ضده دائمًا، أنك سترى أنه لا يستحق النجاة، وأنك ستمنع سموه من إنقاذه."
عندها فقط التفت هوا تشينغ ونظر إليه وقال: "نصف كلامك صحيح، والنصف الآخر خطأ."
"هاه؟"
قال هوا تشينغ : "الشق الأول صحيح. بالفعل، لا أرى أنه يستحق النجاة. حاله لا يعنيني في شيء."
نظر فنغ شين إلى تعابيره اللامبالية وتصبّب عرقًا: "ألستَ صريحًا أكثر مما ينبغي؟!"
وحين تذكّر أن هذا الرجل يعامله على الأرجح بالمثل، سال عرق آخر.
ضحك هوا تشينغ بخفة، ثم أضاف بعد برهة: "لكن، وحده سموه من يقرّر ما يريد. لن أعارض أي قرار يتخذه أبدًا."
"...."
لم يسبق لفنغ شين أن سمع أحدًا يقول مثل هذا الكلام. لا من رجل لامرأة، ولا من رجل لرجل. كل ما خطر له هو أن شي ليان لو سمعه، فستكون قصة كبيرة أخرى.
وبحيرة، لم يعرف أي وجه يُبدي، فاكتفى بالقول: "...آه. فهمت."
أعاد هوا تشينغ بصره نحو شي ليان، الذي كان يقف على السيف ويراقب مجرى الحمم وهو يخطط بتركيز، وابتسم. "ثم إني كنت أعلم مسبقًا أنه سيفعل هذا."
وعلى الجانب الآخر، نادى شي ليان: "مو تشينغ، تحرّك بسرعة إلى سطح القصر، كُف عن الهرب. إن كان ثمة ما يقال، فنتحدث بعد ذلك."
أدرك مو تشينغ حينها أنه إن لم يغادر فانغ شين، فلن يجد شي ليان مكانًا يهبط فيه في خطوته التالية. فأجبر نفسه على التماسك وهمّ بالعودة، لكن في تلك اللحظة، صاح شي ليان فجأة من الأسفل:
"مَن هناك؟!"
كان واقفًا على السيف يخزن طاقته في صمت، حين انشقّت شلالات الحمم خلفه. امتدت من داخلها يدان، وأمسكتا به فجأة! كان واضحًا أن ذلك الكائن خرج من أعماق الحمم، لكن يديه كانتا باردتين بشكل مرعب. ارتجف جسده، وسمع من فوقه صوت هوا تشينغ يصيح:
"سموك ؟!"
عانق صاحب اليدين شي ليان بقوة، وسقط عن السيف آخذًا إياه معه. تجمّد عقل شي ليان، ورأى من كانوا في الأعلى بوضوح ما الذي أمسك به من الخلف.
كان رجلًا بلباس أبيض، وعلى وجهه قناع نصف باكٍ نصف ضاحك؛ كأنه يفرح، وكأنه ينوح.
إنه الابيض عديم الوجه !
استشعرت رويي الخطر، فانطلقت من تلقاء نفسها إلى الأعلى، وألقت نفسها أمام مو تشينغ. قبض عليه هذا بغير وعي، لكن القوة من الطرف الآخر كانت هائلة. لم يفلح في تثبيته، بل جذبه معه إلى الأسفل!
كان شي ليان يهبط بسرعة وسط الشرر الناري، حين سمع ذلك الكائن يضحك قرب أذنه:
"هاهاهاهاها... ساذج! يا له من ساذج، شيان لي ! أكنت تظن أن النهاية السعيدة الكاملة تُنال بهذه السهولة؟"
في الأسفل، تصاعدت أمواج من البخار الحارق، لكن ذهنه امتلأ ببرودة جليدية. وسط تعارض الجليد والنار، رفع بصره، فرأى في الأعالي، بين اللهب والضوء، ظلًا قرمزيًا يقترب بسرعة.
لقد كان هوا تشينغ ... قد قفز هو أيضًا!
لكن تحتهم كانت بركة الحمم، هيي!
يتبع...
تعليقات: (0) إضافة تعليق