الفصل مئتان وخمسة وثلاثين : جسر عبور السماء؛ ثلاثة حمقى يعودون إلى الأزمنة القديمة .
من يدري إن كان السبب هو رعب الفناء أم حرارة الحمم المتوهجة، لكن شي ليان غُمر بالكامل.
مرّت فترة طويلة قبل أن يستعيد وعيه ببطء.
حين فتح عينيه، وجد نفسه ممدداً على أرض باردة وصلبة. كان مو تشينغ جالساً بجانبه، يحدق فيه مذهولاً.
كانت رؤية شي ليان لا تزال مائلة إلى الحمرة، فجلس فجأة وهو يهتف:
"سان لانغ!"
لكن، على غير المتوقع، ما إن جلس حتى صرخ مو تشينغ وكأنه استيقظ من شروده:
"لا تتحرك!"
مد شي ليان يده بشكل غريزي ليدعم نفسه على الأرض، لكن يده هوت في الفراغ. فقد توازنه وكاد يسقط بالكامل. عندها فقط أدرك بدهشة أنه لم يكن ممدداً على الأرض مطلقاً—بل فوق جسر!
كان المكان كهفاً صخرياً تحت الأرض، شاسع الاتساع، قُبته تتصل بسماء الليل اللامتناهية، وفي داخله يطفو جسر منتهك.
هيكل الجسر كان مدمراً، قاتماً مخيفاً، يشبه الخشب وأحياناً الحجر، وكأنه صمد لآلاف السنين أمام الأمطار والعواصف، مختوماً وسط نيرانه. بلا أعمدة تسنده، معلّق في الهواء، يمتد بلا نهاية من كلا الطرفين إلى ما لا يُرى؛ بدايته مجهولة، نهايته غير متوقعة، واتجاهه غامض. بعض أجزائه عريضة حتى ثلاثين قدماً، وأجزاء أخرى ضيقة لا يتسع فيها سوى لشخص واحد.
تحت هذا الجسر المتهالك، على عمق آلاف الأقدام، كانت بحيرة حمم حمراء متدفقة، كحوض جحيم ملتهب.
"جسر عبور السماء؟"
كانت تلك الكلمات أول ما خطر على ذهن شي ليان. قبل ألفي عام، وللتغلب على الكارثة، شيّد ولي عهد وويونغ جسراً ليعبر به إلى السماء. أيمكن أن يكون هذا بقاياه؟
تذكر أنه أُسقط بالقوة من قبل الأبيض عديم الوجه ، فكيف انتهى به الأمر على هذا الجسر؟
نهض شي ليان قائلاً:
"سان لانغ؟"
لكن مو تشينغ ظل جالساً:
"لا داعي لمناداته، إنه غير موجود هنا."
التفت إليه شي ليان:
"كيف وصلنا إلى هنا؟ هل فُعّل مصفوفة تقصير المسافات في منتصف الطريق؟"
قال مو تشينغ:
"ربما. كنت أسقط مباشرة في الحمم، لكن في منتصف الهواء، نُقلت إلى هنا."
"يا لسوء حظ فنغ شين؛ الثلاثة سقطوا، وبقي هو وحده في الأعلى. لا بد أنه يشتم الآن بأعلى صوته. لكن العثور على هوا تشينغ أولى—إلى أين نُقل؟"
رأى شي ليان سيف فانغ شين والسيف الطويل مطروحين جانباً، فالتقطهما وتوجه نحو مو تشينغ. رآه الأخير قادماً بالسيف يتأرجح في يده ووجهه متجهّم، فتوتر فجأة وكأن قلبه انقبض.
غير أن شي ليان مد له السيف ثم بسط يده قائلاً:
"هل أنت بخير؟ إن كان الأمر كذلك، فانهض. علينا أن نكمل الطريق."
تأمل مو تشينغ اليد الممدودة طويلاً، ثم هز رأسه:
"لا أستطيع. يداي وقدماي مصابتان."
جلس شي ليان على ركبتيه ليتفحصه، وبالفعل كانت يداه محمرتين، وساقاه تحملان حروقاً، بالكاد يستطيع المشي.
فكر قليلاً، ثم قال:
"سأساعدك إذن."
رفع مو تشينغ، وأسند ذراعه على كتفه، ومضى به.
بعد خطوات قليلة، انفجر مو تشينغ فجأة:
"لماذا؟"
كان شي ليان يتفحص الطريق بحذر وهو يجيب:
"لماذا ماذا؟"
قال مو تشينغ:
"ظننت أنك بعد أن اكتشفت أنني بخير أيضاً، ستزداد شكوكك بي."
"أوه، لا؟" رد شي ليان.
"لماذا؟"
ابتسم شي ليان وقال:
"لأني أعلم."
"تعلم ماذا؟"
"أنك لم تكذب."
"...."
كان من المستحيل وصف تعبير وجه مو تشينغ في تلك اللحظة.
تابع شي ليان ببساطة:
"ألستَ أنت من طلب مني أن أصدقك؟ إذن صدقتك. هذا كل شيء."
"...."
وأضاف:
"كيف أقولها... ربما لأنني أعرفك منذ سنوات طويلة، ما زلت متأكداً من هذا: لست من هذا النوع. ألم أقلها من قبل؟ قد تبصق في كوب أحدهم، لكنك لن تسعى لتسميمه."
في البداية بدا وكأن مو تشينغ تأثر قليلاً، لكن حين سمع الشطر الأخير، اسودّ نصف وجهه.
قال بعصبية:
"هذا المثال غير ضروري أبداً، رجاءً لا تذكره ثانية. لن أبصق حتى، هذا عمل غير أخلاقي !"
لوّح شي ليان بيده:
"لا تشغل بالك بالتفاصيل الصغيرة. ثم حتى لو، بنسبة واحد في المليون، أخطأتُ في الحكم عليك، فلن تقدر أن تهزم سان لانغ وأنا معاً. سنسحقك في ضربة واحدة، فلا تمثل أي تهديد هاهاهاها..."
تمتم مو تشينغ:
"أنت تفعل هذا عمداً، صحيح؟ تحاول جاهداً قتلي غيظاً..."
سعل شي ليان وقال:
"كنت أمزح. على أي حال..." ثم شدّ على ذراعه ونظر للأمام بجدية:
"إن كنت قد رفضت فعلاً ارتكاب عمل شرير، وجون وو كبّلك بقيود ملعونة، فلا يمكن أن أدعك تدفع ثمن ذلك."
قال بهدوء:
"لأن ما فعلته كان الصواب."
ظل مو تشينغ يحدق فيه طويلاً، ثم عض على أسنانه وقال:
"شي ليان، أنت حقاً شخص..."
فقاطعه شي ليان فوراً:
"كفى. لا تظن أني لا أعلم ما رأيك بي؟ أنت تعتمد عليّ لأدعّمك الآن، فلا تقل شيئاً قد يجعلني أرغب في رميك داخل الحمم."
شخر مو تشينغ:
"وهكذا تنقذني، رغم أنك تعرف ما أظنه بك؟"
ابتسم شي ليان:
"الأمر سواء. إنقاذك مجرد مبدأ ألتزم به. ثم إنك شخص غريب الأطوار في كل شيء، صحيح أنني رغبتُ في قتلك ضرباً ذات يوم، لكنني لم أنجح، وبعد هذا الوقت الطويل فقدتُ الاهتمام. لكن مهما كنت غريباً، ومهما رغبت في ضربك، خطاياك لا تستحق الموت. إن استطعت إنقاذك، فسأنقذك بالطبع."
أطلق مو تشينغ زفرة، ثم بعد لحظة صمت أضاف:
"سموك ، أنا في الواقع..."
لكن فجأة، اهتز الجسر تحت أقدامهما، فتغيّرت ملامحهما.
كان مو تشينغ جريحاً ولم يستطع الرد بسرعة، لكن لحسن الحظ أن شي ليان تحرك بسرعة جنونية ، فدفع بقدمه وقفز بهما ثلاثين قدماً للأمام. نظر الاثنان للخلف، فرأيا جزءاً من الجسر قد تصدّع وانفصل، ليسقط نحو الأسفل!
دويييييي—!
سقط مقطع من الجسر القاتم في الحوض الجهنمي الأحمر، فانقضت الأرواح الناقمة التي كانت تنتظر منذ زمن، تمد أذرعها العديدة لتتشبث، وكأنها تريد استخدامه كقارب للهروب من هذا البحر المشتعل. لكن عددها كان هائلاً، فلم يتحمل ذاك الجزء المتهالك، وسرعان ما غرق.
تبادل الاثنان نظرات مرتجفة.
قال شي ليان:
"يبدو أن هذا الجسر غير مستقر!"
فتح مو تشينغ فمه وأغلقه، وكأنه يريد القول بأن عليهما العودة للخلف، فالمكان الذي استيقظا فيه كان أوسع بكثير ولن ينهار بسهولة. لكن بعد انهيار ذلك المقطع، لم يعد هناك طريق للعودة. لم يتبقَّ أمامهما سوى المضي قدماً، والجسر أمامهما بدا كفخ متواصل، عريض هنا وضيق هناك، يخبئ الأخطار في كل زاوية. لا أحد يعلم أين ستسقط خطوتهما التالية!
من دون تردد، حمل شي ليان مو تشينغ على ظهره:
"لا يمكننا البقاء في مكان واحد طويلاً، وإلا فقد ينهار هو أيضاً. تمسك جيداً، سأعبر بسرعة!"
وكما وعد، اندفع بخطوات طائرة. وكلما تقدما أكثر، صار الجسر أضيق خانقاً؛ أوسع أجزائه بالكاد بحجم باب، وأضيقها لا يتجاوز عرض خصر إنسان!
ومع ذلك، حتى في هذا الموقف الخطر، كان شي ليان يسير بخفة مذهلة؛ فأينما خطا لم يتحرك شيء تحته. كان طرف قدميه يلمس السطح لمسة خفيفة، ثم يرفعها بسرعة، مثل طائر السنونو تلامس سطح الماء ثم تنسحب. ولو كان أي مسؤول عسكري آخر حاضراً لذهل من تلك الخطوات المحكمة إلى حد الرعب، إذ لم يوجد محارب آخر يمكنه القيام بمثلها. كانت هذه مهارة لا يمكن أن تصدر إلا عن شخص لم يعتمد على القوة الروحية، بل تدرب بإصرار يومياً بلا توقف!
فجأة، ارتفع عمود من النار نحو السماء، ليقطع الطريق أمام شي ليان. ولو لم يتوقف بسرعة خارقة لاصطدما بالنار واحترقا حتى الموت. فنظر الاثنان إلى الأسفل، وإذا بملايين الأرواح الناقمة بلون الحمم قد احتشدت، تعوي وتضحك بصوت قبيح، مادّة أيديها نحوهما. وكان عمود النار ضربة صادرة عن تلك الأرواح.
بدأت آذانهما تؤلمهما من شدة الأصوات، فقال مو تشينغ:
"ما الذي يصرخون به؟"
تمتم شي ليان:
"... يقولون: 'انزلوا! انضموا إلينا! تعفنوا موتاً هنا!' "
ارتعب مو تشينغ وقال:
"أتفهمهم؟ كان يجب أن يتحدثوا بلغة وويونغ!"
أجاب شي ليان:
"نعم. إنهم شعب وويونغ الذين سقطوا في الحمم واحترقوا حتى الموت عندما انهار جسر عبور السماء. إياك أن تقترب منهم؛ فهم يسحبون أي شيء يرونه إلى الحمم. كنت متأكداً أن هذا الجسر هو بقايا جسر عبور السماء!"
سأل مو تشينغ:
"هل يمكن أن ينالوا الغفران إذا جرّوا الآخرين معهم؟"
قال شي ليان:
"لا. حتى لو سحبوا الآخرين، فلن يغتفر لهم شيء. هذه الأرواح الناقمة لن تنال الغفران أبداً، لكنها تستمتع برؤية الآخرين يعانون مثلها."
ولهذا السبب بالتحديد، لا يمكنها أن تنال الخلاص، بل عليها أن تبقى تعذب هنا إلى الأبد.
قال مو تشينغ مستغرباً:
"كيف تعرف كل هذا؟"
أجابه شي ليان:
"لا أعرف بالضبط... ربما هو من أخبرني."
تماماً كما نقل إليه من قبل صرخات ذكريات "الجرذان أكلة الجثث".
لكن الأرواح المنصهرة لم يعجبها أنهما لم يسقطا بعد، فبدأت تلتف حول بعضها، متشابكة الأيدي، تستعد لهجوم جديد. فانطلق شي ليان يجري بسرعة، فارتفع عمود نار آخر، ليحطم ما تبقى من الجسر المتهالك.
ولم يكن بوسعهما أن يكتفيا بالدفاع فقط. حاول شي ليان أن يهاجم الأسفل، لكنه لم يعد يملك الكثير من القوة الروحية، فلم تصل ضرباته بعيداً. أما مو تشينغ، فكانت طاقته الروحية أقوى، وضرباته أبعد مدى، لكنها لم تصب هدفها بدقة. مرّات عديدة كادت أعمدة النار تحرق كعبيهما. وفي الأسفل، تجمعت الأرواح بشكل ضخم، طاقتها هائلة، وهي تضحك وتصفق بفرح شديد، وكأنها تشاهد عرضاً ممتعاً لهاربَين بائسين. لم يتمكنا من إلحاق أي ضرر بها، وكان الأمر مخزياً لدرجة أن مفاصل أصابع مو تشينغ تصدعت من شدة قبضته!
بعد لحظات، كان مو تشينغ، وهو ما يزال محمولاً على ظهر شي ليان، يلهث بعنف، وكأنه اتخذ قراراً صعباً جداً.
قال:
"كفى سموك ... شي ليان، أنزلني!"
قال شي ليان وهو يركض:
"ما الذي تقوله! أنت تحب حياتك وتخشى الموت! لست أنت من يقول مثل هذا الكلام!"
صرخ مو تشينغ بغضب:
"آسف لأنني أحب حياتي وأخاف الموت! لكن إن كنت سأموت على أي حال... فأنزلني بسرعة قبل أن أغيّر رأيي!"
قال شي ليان:
"لا تعبث، توقف عن الكلام، ستشتت تركيزي. المهم الآن أن نجد نهاية الجسر."
قال مو تشينغ بغضب:
"من الذي يعبث هنا؟ إن كان هذا حقاً جسر عبور السماء، فلا أحد يعلم كم ستستمر بالجري! عاجلاً أو آجلاً سيمسكون بنا. أنزلني! سأهتم أنا بهؤلاء الأوغاد، وأنت أكمل طريقك!"
ثم ربت بخفة على كتف شي ليان وقفز للخلف. التفت شي ليان نحوه، وهمّ أن يقترب، لكن مو تشينغ صاح:
"لا تقترب! هذا الجزء من الجسر ضيق! إن أتيت ستسقط معنا!"
فتوقف شي ليان مكانه. ثم قال مو تشينغ:
"أنت محق، نحن متشابهان. أنت ترى أنني غريب الأطوار، وأنا أراك غريباً أيضاً."
ثم حدق في عينيه وأضاف:
"بما أننا وصلنا إلى هنا، فسأقولها بصراحة. لدي الكثير من الاعتراضات عليك."
قال شي ليان بتردد:
"أمم... حسناً... كنت أعلم ذلك منذ وقت طويل."
قال مو تشينغ ببرود:
"حقاً؟ إذن هل كنت تعلم أنني كنت أظن أنك تعتمد على مكانتك فقط؟ وأنك، رغم كونك ولي العهد المحظوظ، لست أفضل مني كثيراً في المهارة؟"
"...."
وتابع:
"وكنت أعتقد أنك تقوم بكل تلك الأعمال الخيّرة فقط لتتفاخر أمام الآخرين وتنال المدح. في الحقيقة، حتى مساعدتك لي كانت في نظري استعراضاً لتُظهر رحمتك. وبصراحة، هذه الأفكار لم تتغير كثيراً حتى الآن. ربما لن تتغير أبداً. حتى لو كتمتها فترة، ستعود لتظهر."
كان شي ليان في حرج وهو يتمتم:
"هل من الضروري أن تقول هذا كله بوجهي؟!"
لكن مو تشينغ واصل:
"لكن في كثير من الأحيان... أشعر بالرهبة منك."
تسعت عينا شي ليان بدهشة.
تابع مو تشينغ بصعوبة، وكأن الكلمات تخنقه:
"أليس هذا طبيعياً؟ أنت حقاً مذهل. كما أنك أفضل مني. باختصار... لطالما أردت أن أكون صـ-صـ-صديقك."
"...."
لم يتخيل شي ليان أبداً أنه سيسمع هذه الكلمات من فم مو تشينغ. ورغم أنها خرجت مترددة ومتصلبة، إلا أنها كانت صادقة للغاية!
اتسعت عيناه وقال:
"أنت..."
زفر مو تشينغ بعد أن قالها:
"تلك الحادثة بعد سقوط شيان لي، سواء كنت على حق أو على خطأ، وسواء كنت في مأزق أم لا، فأنا مدين لك باعتذار."
توقف شي ليان قليلاً ثم قال:
"...لقد مضى الأمر، فلنتركه. الأهم الآن أن نخرج من هنا."
لكن مو تشينغ رفع صوته وقال:
"لقد قال لي إنه إن شككت بك، فلن تنقذني حتى لو عرفت أنني بريء. لأنك تكرهني، فلن تثق بي."
أدرك شي ليان من يقصد بذلك "هو".
أضاف مو تشينغ:
"صحيح أنني لم أوافق على مساعدته، لكن كل ما قاله كان قد خطر في ذهني من قبل. كنت أعتقد دائماً أنك تكرهني وتزدري وجودي. لكن الآن... طالما أن هذا غير صحيح، فأنا مرتاح."
في تلك اللحظة، ارتفع عمود نار آخر، فتراجع شي ليان خطوات مبتعداً عن مو تشينغ. أما الأخير، فغضب فجأة وضرب بكفه سطح الجسر بعنف.
اتسعت عينا شي ليان وهو يصيح:
"ماذا تفعل؟!"
انهار الجزء من الجسر، وسقط مو تشينغ معه وهو يصرخ:
"أساعدك على تنظيف القذارة!"
سقط الجسر المحطم في الحمم، فأثار أمواجاً هائلة، وتدافعت الأرواح الناقمة لتسحبه. لكن فجأة، دوى انفجار عظيم بدد عدداً هائلاً منها. وسط صرخات الأرواح، وقف مو تشينغ على القطعة المحطمة، تحيطه هالة روحية متوهجة بأقصى سطوع، وهو يضحك بسخرية:
"يا أوغاد الظلام! استمتعتم بإشعال النيران بلا حساب؟ ها قد جئت! فلنرى إلى أين ستهربون الآن!"
وأخيراً، وصلت ضرباته إلى الأرواح المنصهرة!
رفع كفيه الملطختين باللون الأحمر، وبدأ يقصف الأرواح بجنون، يفتك بها بلا رحمة. فهربت الأرواح الأخرى التي كانت تتفرج من بعيد، مذعورة تصرخ وتتفرق.
بدأت النار تلتهم ثيابه، بينما كان شي ليان متشبثاً بحافة الجسر يطل عليه من الأعلى:
"مو تشينغ! إلى أي مدى يمكنك القفز؟!"
صرخ مو تشينغ:
"لماذا تتكلم كثيراً؟ لماذا لم ترحل بعد؟!"
رد شي ليان بانفعال:
"ليس هذا شأني! لقد قلت أخيراً كلاماً عاقلاً في حياتك، ثم سقطت بعده مباشرة! كيف يمكنني أن أتركك الآن؟!"
غضب مو تشينغ بشدة:
"ماذا تعني بقولك 'أخيراً كلام عاقل'..."
قبل أن ينهي كلامه، انخفض الجزء المكسور من الجسر تحت قدميه عدة درجات. تغيّرت ملامح وجهيهما معًا. في تلك اللحظة، كان فعلاً على وشك أن يُدفن في قاع بركة الحمم، وتذوب عظامه في الهواء!
مو تشينغ، الذي كان قبل قليل مليئًا بالحماسة، شحب وجهه فجأة. رفع كفّيه، وأغلق عينيه، وكأنه يستعد لتحطيم جمجمته بنفسه قبل أن يُحرق حيًا، ليموت بطريقة أسرع.
صرخ شي ليان بسرعة:
"انتظر! انتظر! انتظر! لا تتسرع! أنـــا... عندي خطة!"
فتح مو تشينغ عينيه بحدة:
"أي خطة؟!"
مع أن رويي لم تكن تصل إلى القاع، إلا أنها كانت تمتد إلى نصف الطريق. ألقى شي ليان الحرير إلى الأسفل، وهو يصيح:
"اقفز بكل قوتك! اقفز وأمسكها! أنا سأرفعك!"
ازداد وجه مو تشينغ شحوبًا وقال بعصبية:
"لو كنت أستطيع القفز، هل كنت سأحتاج لخطة أصلاً؟!"
ثم حاول أن يجمع شجاعته مرة أخرى ليقتل نفسه قبل أن يموت احتراقًا.
صرخ شي ليان:
"انتظر! انتظر! انتظر! حقًا، انتظر!!! سأفكر في طريقة!"
قال مو تشينغ غاضبًا:
"إذن تكلم!!"
"طريقة... طريقة... بسرعة، فكر في طريقة! لكن لا يوجد شيء!!!"
كان الاثنان على وشك فقدان الأمل تمامًا، ورفع مو تشينغ يده مرة أخرى. لكن فجأة، صفعته يد أخرى بقوة، ثم أمسكت به!
وفي اللحظة التالية، والرجل ما يزال مشوش الذهن تقريبًا، قفز ممسكًا بمو تشينغ! شعر شي ليان بأن الطرف الآخر من الحرير الأبيض شد فجأة، وعندما نظر للأسفل، فوجئ وانفجر قلبه بالفرح.
"فنغ شين؟!"
كان الجزء المكسور من الجسر الذي يقف عليه مو تشينغ قد غرق تمامًا في أعماق مجرى الحمم، يغلي. وعلى الطرف الآخر من رويي، كان فنغ شين ممسكًا بالحرير بيد، وبالأخرى مشدودًا على مو تشينغ ذو الوجه المتجمد، وهو يصرخ:
"سموك ! بسرعة! اسحبنا للأعلى!"
كان هناك المزيد من الوحوش الجوفاء يسبحون أسفلهم، ويبدو أن فنغ شين كان يركبهم، منجرفًا مع التيار حتى وصل إليهم. لم يكن لدى شي ليان وقت ليسأل، فسحبهم بسرعة إلى مكان أكثر اتساعًا وثباتًا على الجسر.
وبينما كانوا يُرفعون ببطء، تجمّعت أرواح حاقدة جديدة أسفلهم، تحدّق إليهم بخبث، وتطلق أصواتًا غاضبة. وفجأة، ارتفع عمود من النار نحوهم!
ظل فنغ شين ومو تشينغ معلقين في الهواء، غير قادرين على تفادي الضربة، فسحب شي ليان رويي بخفة، وتحرك بضع خطوات ليتجنب الهجوم. لكن لم يكن في أي مكان آخر من الجسر مساحة واسعة أو ثابتة مثل هذه، لذلك بعد تفادي الضربة اضطر للعودة لنفس الموقع.
كاد العمود الناري أن يحرق فنغ شين، فصرخ بغضب:
"ما بال هذه الكلاب القذرة تهاجم الناس وهم في الحضيض؟! يا لكم من أنذال! اللعنة على عائلاتكم كلها!"
رد عليه شي ليان ساخرًا:
"لو أن عائلاتهم كلها تشبههم، هل أنت متأكد أنك تريد فعلًا أن تفعل بهم ذلك؟"
لم تيأس الأرواح، بل أطلقت ضحكات شريرة وكأنها تستعد لهجوم آخر. لكن فنغ شين كان في قمة غضبه، فرفع مو تشينغ عاليًا وقال متأففًا:
"تمسّك بهذا!"
كان مو تشينغ قد شعر سابقًا أنه سيموت حتمًا، فكان تأثير الصدمة عليه شديدًا، وحتى الآن ما زال بطيئ الاستجابة. مع ذلك، أطاع وأمسك برويي. وهكذا حرر فنغ شين يده، وأخرج القوس الطويل على ظهره وبعض العصي الخشبية الملتقطة من مكان مجهول.
استخدم العصي كسهام، وأمسك القوس بيد، بينما عضّ الوتر بأسنانه، ثم ثبّت السهام وأطلقها دفعة واحدة: ووش! ووش! ووش! ووش!
اخترقت السهام بركة الحمم، وانفجرت أمواج نارية صغيرة، فتدحرجت الأرواح الحاقدة هلعًا وتفرقت من جديد. شعر فنغ شين بالارتياح، وصاح مهددًا:
"أرأيتم! قلت لكم أني سأجعلكم نادمين! يا كلاب قذرة! هذا الجد قادر أن يسحقكم بيد واحدة فقط!"
وأخيرًا، اجتمع الثلاثة معًا على جسر عبور السماء. مسح شي ليان عرقه مرات عدة، وما زال قلبه يخفق بسرعة.
قال: "فنغ شين، كيف وصلت؟"
أمسك فنغ شين رأسه وقال غاضبًا:
"كيف وصلت؟ أنتم الثلاثة قفزتم سويًا، فماذا كنت سأفعل؟ كدت أجنّ! لم يكن أمامي سوى النزول من أسفل الجرف، ثم جرفني التيار إلى هنا. لم أجدكما إلا بعد أن سمعت أصوات الانفجارات والصراخ! ماذا كنتما تفعلان، القفز في بركة الحمم؟ هذا جنون!"
قال مو تشينغ وقد عاد له وعيه: "لقد تم سحبي بالقوة!"
تخيل شي ليان كم الشتائم التي رددها فنغ شين طوال الطريق، فقال له مهدئًا:
"حسنًا حسنًا، اهدأ. على أي حال، وصولك كان إنقاذًا لنا، مساعدة كبيرة! كما يقولون، أحيانًا الناس فعلاً... يحتاجون لمن يمد لهم يدًا ليساعدهم على النهوض!"
كان الثلاثة مرعوبين حتى الموت تقريبًا، وبعد أن التقطوا أنفاسهم وتماسكوا، لم يجرؤوا على البقاء أكثر. حمل فنغ شين مو تشينغ على ظهره، وقفزوا جميعًا عبر الجسر المحطم.
خلال الطريق، وبعد تبادل ما رآه كل منهم، علم شي ليان أن فنغ شين لم يرى هوا تشينغ أيضًا. فاشتد قلقه: أين ذهب هوا تشينغ ؟ لم يكن أمامهم سوى الاستمرار بالسير فوق جسر عبور السماء بحثًا عنه.
وفجأة، قال فنغ شين لمو تشينغ الذي على ظهره:
"بالمناسبة، سمعت بعضًا مما كنت تصرخ به قبل قليل. البداية كانت مستفزة وتجعلك تستحق الضرب، لكن لم أتوقع أنك في النهاية، أيها الوغد، كنت تفكر بكل ذلك حقًا!"
"...."
اسودّ وجه مو تشينغ تمامًا. التفت فنغ شين إلى شي ليان وقال:
"ألم أقل لك؟ هذا الرجل مشاعره أعقد من جواري القصر الحاقدات، ولا يمكن فهمها أبدًا!"
"...."
لاحظ شي ليان أن وجه مو تشينغ صار معتمًا أكثر فأكثر، فلوّح له بيده محذرًا فنغ شين. لكن الأخير لم ينتبه، والتفت إلى مو تشينغ وقال:
"لو كنت تريد أن تكون صديقًا لسموه، لماذا لم تقلها مباشرة؟! لماذا تثير اشمئزاز الناس بسخريتك طوال الوقت، فقط لأنك ظننت أن سموه يحتقرك فلا يمكنك أن تكون صديقه؟ لا أفهم عقلك أبدًا!"
لوّح شي ليان بيده يائسًا:
"هو هكذا منذ أن كنا صغارًا. لا تؤنبه أكثر، انظر فقط إلى وجهه كيف احمرّ."
"...."
لم يعد مو تشينغ يحتمل، وانفجر صائحًا:
"ما هذا بحق الجحيم! بحق السماء! هل يمكن أن تصمتا؟!"
ذكّره شي ليان بهدوء: "يبدو أنك التقطت ألفاظ فنغ شين. ثم إن الشتائم ليست جيدة."
ضحك فنغ شين وأضاف: "أنت بنفسك قلتها، أنك كنت حقًا تريد أن تكون صديقًا لسموه!"
وتعمد أن يقلد تلعثم مو تشينغ وهو يجز على أسنانه، فصار وجه مو تشينغ شرسًا، ويده تبحث عن سيفه.
قال فنغ شين: "على أي حال، صار كل شيء مكشوفًا الآن. تذكّر فقط هذا: سموه لم يفكر بك أبدًا كشيء قذر في داخله. باستثناء تلك المرة التي تجاوزت فيها الحد وأغضبته، بعدها لم يقل عنك أي كلمة سيئة أمامي! كل ما عليك أن تتصرف كشخص طبيعي من الآن، تتحدث طبيعي، تعبّر طبيعي، لو رجعت لسخريتك سأصرخ عليك!"
استمع مو تشينغ بصمت إلى الجزء الأول، مطأطئًا رأسه، لكنه ما إن سمع الجزء الأخير حتى رفع عينيه بحدة وقال:
"ألم تصرخ عليّ بالفعل لمئات السنين؟"
ذكّره شي ليان: "مو تشينغ، أنت مسؤول سماوي. عليك الانتباه لصورتك أمام أتباعك، لا يمكنك التذمر أو رفع عينيك هكذا."
رد مو تشينغ: "أرجوك، هذا الرجل يشتم طوال الوقت في المحكمة العليا."
قال فنغ شين باستهزاء: "هذا لأنك تستحق الشتم."
قال مو تشينغ: "توقف عن نبش الماضي معي. أليست أنت من ترك سموه لتذهب وتنجب ولدًا؟"
ظهرت العروق على جبين فنغ شين، ورفع أكمامه مهددًا: "هل تريد القتال؟"
ابتسم مو تشينغ بسخرية: "قاتل نفسك. لو لم تكن تثرثر عليّ أمام سموه طوال الوقت، هل كنت سأظن فعلًا أنه يحتقرني وأصبح كل هذا غريب الأطوار؟"
كان الموضوع ينزلق نحو أمور حساسة مجددًا، فتدخل شي ليان:
"ألن تكفا عن كشف فضائح بعضكما في وقت كهذا؟ ما الفائدة من إيذاء بعضكما..."
رفع مو تشينغ عينيه مرة أخرى: "ثم انظر لنفسك، كيف فقدت أعصابك حينها. ما المشكلة لو أنه سرق؟ لو كنت مكان سموه حينها، لسرقتُ ثمانية عشر بيتًا غنيًا ولم أتردد لحظة. وأنت، بدل أن تكون العون، ركضت وراء سموه تسأله ماذا فعل!"
بدأ العرق يتصبب من جبهة شي ليان، فالتفت للوراء وقال بخجل:
"انتظر لحظة، ليس من الضروري فضح مواقفي أيضًا؟ على أي حال، ابحثوا معي عن سان لانغ، ابحثوا معي عن سان لانغ! هاهاهاها..."
يتبع...
تعليقات: (0) إضافة تعليق