Ch49 بانغوان
شاب ذو بشرة شاحبة على نحوٍ مروّع —— وبالنظر إلى
بنيته فقط ، فقد بدا مشابهاً لكثير من الفتيان في الخامسة
عشرة أو السادسة عشرة من أعمارهم
وبحكم مروره بمرحلة البلوغ، بدا عليه ذلك القَوام
الممشوق النحيل ، لكنه لم يكن ضعيفاً أو واهناً
يرتدي جاكيت قصير ، أبيض ونظيف ، مع بنطال بني واسع
الساقين بطولٍ مناسب
يمتعل حذاءً وجوارب ، و كل شيء فيه مرتّب وأنيق غاية في النظام
كان من المفترض أن يُظهره ذلك كفتى يافع مفعم بالحيوية والنضارة
لكن كتفيه منحنية ، وظهره مقوّس بعض الشيء
وقف وجسده كله منكفئ إلى الداخل ، وكأن ثقلاً مجهولاً
من الوهن يثقل كاهله
و حين نظر إلى الناس بلا أي تعبير على وجهه ، انخفض
جفناه قليلاً ، وارتسم عبوس بين حاجبيه
ومن رأسه حتى قدميه ، يشعّ هالةً عنيدة قاتمة مثقلة بالكآبة
يُشعرك أنه يراقبك من مكانٍ مجهول، بينما أنت لا تملك
أدنى فكرة عمّا يجول في ذهنه
لم يكن يبدو كمراهق على الإطلاق
ما إن شهد شيا تشياو ذلك التحوّل في انعكاس صورته ،
ارتد للخلف بضع خطوات من شدّة الرعب ، وقال :
“ لقد كان في المرآة حقاً !
كيف سأجرؤ على النظر إلى نفسي في المرآة مجدداً ؟”
تذكّر ما قاله له شيه وون من قبل : إنّ سيّد القفص يمكن
أن يظهر في أي مكان يمكن لشخصٍ أن يوجد فيه ،
وبسبب ذلك ، كان شيا تشياو قد فتّش بدقة كل مكان يمكن
أن يختبئ فيه أحدهم ، لكنه نسي تماماً أمر المرايا
{ صحيح… فهناك أشخاص أيضاً داخل المرايا
البانغوان يستطيعون استعارة المرايا للدخول إلى القفص ،
فبطبيعة الحال يستطيع سادة الأقفاص استخدامها
للتجسس عليهم من الجهة الأخرى أيضاً !! }
انكمش بجوار تشو شو وهو يقول مرتجفاً بخوف:
“ لقد أفزعني حتى الموت ، لم أتوقع هذا أبداً .”
عبس وين شي حاجبيه وقال ببرود :
“ وما الذي يدعو للاستغراب ؟ لمثل هذا الجبان الذي
يعتمد فقط على التخفي لإنجاز أي شيء ، لا يمكن أن يكون
سوى انعكاسٍ بائس .”
و في هذا القول لامس أوجاع ذلك الانعكاس
و دوّى عواء مفاجئ ، وهبّت رياح قوية صَفعت وجوههم جميعاً
وتحت وطأة الرياح ، أغمض وين شي عينيه لحظة ،
وما إن فتحهما حتى كان الفتى يقف أمامه مباشرةً ———
سأل الفتى : “ عمّن تتحدث؟”
في وجهه شيء غريب للغاية
فعندما تكلم ، لم تتطابق حركات شفتيه مع صوته ،
كأن طبقة جلد مرقّعة عليه
أما صوته، فكان خشناً مبحوح ، كأنه غُلّف برمال خشنة
ومع أنّ تشو شو كان لا يزال في طور تبدّل الصوت بمرحلة
المراهقة ، فإن صوته يكاد يُعدّ عذباً لطيفاً مقارنة بصوت هذا الفتى
لم يلتفت وين شي إليه ، وكأن الطرف الآخر لا يستحق حتى
أن يقع في مجال نظره
و قال ببرود قاطع:
“ حيوان يؤذي الناس بلا سبب ولا دافع . أذلك أنت ؟”
لم يكن في مزاجٍ جيد هذه اللحظة ، لذا جاءت كلماته أكثر
لذعاً وحدة من المعتاد، مغلّفة بشظايا من جليد
حدّق الفتى في وين شي مباشرةً
تقلّصت حدقتاه إلى نقاط دقيقة ، لكنه لم يستطع أن يتفوّه
بكلمة واحدة
فإن قال ' لا ' — بدا جباناً
وإن قال ' نعم ' —- فقد قبل أن يُنعت بالحيوان
أثار هذا السؤال في نفسه شعوراً بالحرج والغضب ، فقبض وجهه…
ولم يكن ذلك مجرد تعبير مجازي ، إذ إنّ ملامحه حقاً قد
امتدّت وتهدّلت نحو الأسفل ،
مما دفع سون سي تشي والبقية إلى إطلاق صرخات فزع
بدا الفتى مستمتعاً للغاية بإخافة الناس ، أو بالأحرى بالتحكم بهم
وأخيراً قال :
“ هذا مجال نفوذي ،، هذه منطقتي ”
ثم أعاد جلد وجهه إلى مكانه ، وأكّد بنبرة ثقيلة عنيدة :
“ أنتم لا تبقون هنا إلا لأنني اسمح لكم بالبقاء ،،
لو أردت طردكم ، لكان عليكم أن ترحلوا فوراً . هذه منطقتي”
قال شيا تشياو بدهشة حقيقية :
“وما زلتَ تختبئ في المرآة رغم أنّك في أرضك أنت ؟”
لكن كلماته خرجت أقرب إلى السخرية منها إلى التساؤل
فاستدار رأس الفتى فجأة ، فارتاع تشو شو ووضع كفه
بسرعة على فم شيا تشياو وهو يهمس بحدّة :
“ اخرس بحق الجحيم !”
سكت شيا تشياو بعد ذلك ، لكن الـ غا خاصته لم يفعل
قال وين شي بسخرية لاذعة :
“ ليس لديك حتى الشجاعة للكشف عن هويتك الحقيقية
و تتحدّث عن ' منطقتك ومجالك ' ؟”
ارتسم على وجه الفتى نوع من الخدر الغريب ، وكأنه غير
مكترث بتلك الكلمات المستفزّة
لكن في النهاية، ما زال شاباً يافعاً، ولو كان هادئاً متماسكاً
إلى هذا الحد حقاً، لما قام بكل ما فعله حتى الآن
قال مجدداً بصوت أجشّ، لكن نبرته هذه المرة بدت أكثر يأساً :
“ هذه منطقتي .”
ردّ وين شي على الفور:
“ هذا مسكن عائلة شين ،، هل لقبك شين ؟”
: “ اسمي ليس شين ... مسكن عائلة شين لم يعد
موجود ...” فقد الفتى صبره أخيراً وقطع كلام وين شي:
“ لقد انتهى مسكن الشين منذ زمن !
حريق واحد أحرق كل شيء حتى الأرض !
كم مرة عليّ أن أكرر ؟ هذه منطقتي !”
ومع صدور كلماته الأخيرة ، انفجرت منه هالة عنيفة تناقض
تماماً كآبته السابقة
كان الأمر أشبه بمن يسكب دلواً من الماء في حوض هادئ
من الزيت ، فينقلب مشهده فجأة إلى شيء مختلف كلياً
“ ملكي !! "
لم تعد الكلمة تخرج من فم الفتى فحسب ، بل دوّت في أرجاء القصر بأسره
وفي غضون لحظة واحدة ، هبط جسده الشفاف المعلّق في
الهواء إلى الأرض و ترسخت قدماه في البلاط ،
وارتبط كيانه كاملاً بالقفص
وربما لأنه أراد إثبات ملكيته للمكان ، فقد قرر أخيراً الكفّ
عن التخفي والتربص
و للمرة الأولى ، وقف علناً ، بغير تنكّر ، في مركز القصر
هذا بالضبط ما ينتظره وين شي
أومأ برأسه ، من غير أن ينطق بكلمة
وظلّ صدى صوت الفتى الأجش يتردد في كل غرفة وممر ،
مفعماً بالرهبة والوضوح القاسي
وحين تلاشى الصدى الأخير ، غمر الصمت الممر الطويل
وبينما بدأ الفتى يشعر بالرضا بنفسه ، دوّى صوت فتاة يافع صافٍ :
“ أهذا آ جون؟ لقد سمعت صوت آ جون .”
كان صوتها أجوف بعض الشيء ، وتحت هذه الأجواء وحدها
كان كفيلاً بأن يُقشّعر البدن
ومع ذلك، استطاع الجميع أن يميّز أنه صوت شين مانيي
فجأة ارتسمت على وجه آ جون نظرة خوفٍ وارتجف
: “ آ جون ...” نادت شين مانيي مجدداً :
آ جون ؟
آ جون هل أنت هنا ؟”
ومع انتقال صوتها عبر الممر ، تداخل الصدى فوق بعضه ،
كما لو أنها تركض نحوهم ، مقتربة أكثر فأكثر
—- “ لِمَ لا تبتسم ؟ فلنلعب لعبة ! أريد أن ألعب معك "
——— " لقد كنت أبحث عنك طويلاً .
هل صرت مستعداً أخيراً لتلعب معي ؟”
تداخلت الجُمل والتفّت حول الفريق وحول آ جون
أحياناً قريبة وأحياناً بعيدة ، مصحوبة بضحكات متدفقة
وتبعاً للصدى ، التفت الجميع غريزياً نحو نهاية الممر —
ولمحوا هناك شيه وون واقفاً وسط ضباب أسود ، وإلى
يساره شين مانيي الصغيرة ، وعلى يمينه السيد لي
كانوا كظلٍّ ثلاثي مقطوع الملامح ، حدقاتهم جميعاً مصوّبة
مباشرةً نحوهم
وفجأةً صار من العسير تمييز ما إذا كانت تلك الكلمات
صادرة حقاً عن شين مانيي، أو أنها بقايا شيء آخر مدفون عميقاً في وعي آ جون ———
ولم يطل الوقت حتى انضم صوت آخر —
هذه المرة — صوت رجل ، لطيف حنون راقي ، يتحدث ببطء شديد ،
وكان في نبرته لمحة وهمية وهو يمتزج مع ضحكات شين مانيي الرنانة
—- “ آ جون إنك تميل إلى ضيق الأفق "
——- “ آ جون ، أيّ شخص هذا الذي لا يرى سوى الأسوأ في
الآخرين حين يحكم عليهم ؟ أنت حساس للغاية ،
لذا لا أريد أن أكون قاسياً معك "
—— “ آ جون على الرجل الشريف أن يكون محترماً واسع الصدر "
—— “ آ جون لا بأس، يمكنك أن تذهب وتنسخ الحروف الآن .
—— “ آ جون إنني أتعرف على خطك .”
( ضيق الأفق = يغضب بسرعه من اي شيء حتى لو بسيط
و الرؤية المحدودة للأمور ، التمسك بالآراء الشخصية ،
وعدم تقبل وجهات نظر الآخرين بسهولة
فواسع الصدر العكس = يعني خلي مزاجك أروق
أو لاتكون حساس بزياده أو دقيق بزياده
يعني المرونة في التعامل مع الآخرين ،
لا تتحسس ، لاتنفعل بسهولة ، تجاهل الأخطاء الصغيرة )
تشابكت تلك الأصوات وغمرت القصر بأسره
ومع كل جملة ، كانت الظلال الثلاثة عند نهاية الممر تقترب
أكثر قليلاً ، صامتة مثل الأشباح
ثم بدأ الجميع يسمعون أصوات خشخشة خفيفة ،
كما لو أن شيئ ذا أطراف كثيرة يزحف على الأرض
ولمّا التفتوا ، أدركوا أنّ الصوت ينبعث من الكتلة المتشابكة
من الأجساد المتفحّمة التي انهارت في الحمّام
“ أهذا آ جون؟”
“ أوه .. آ جون.”
“ آ جون "
“ جون- غا "
تنهيدة الطباخة المفعمة بالدهشة ،
صرخة الخادم الحادّة ،
وتحيات الفتيات الخجولة ، تعالت وانخفضت جميعها بتناغم
ارتسمت على وجه آ جون ملامح مظلمة ،
وازداد اضطرابه شيئاً فشيئاً
ثم غطّى أذنيه بيديه وقال بخشونة :
“ أنتم جميعاً مزعجون جداً !”
وما إن نطق بهذه الكلمات ، حتى هبطت الأصوات المتعددة
طبقةً واحدة ،
أشبه بلحن أغنية مبهجة تحوّلت فجأة إلى مرثية جنائزية
تحولت الهتافات الضاحكة إلى عويل يائس ونحيب مفجوع
و وسط البكاء ، توقفت شين مانيي أمام آ جون
مالت بجسدها إلى الأمام وحدّقت بالشخص الذي أمامها —
الشخص الذي كانت تعتبره أخاً أصغر رغم أنه أطول منها
بكثير — و سألت بنبرة مشؤومة :
“ آ جون لماذا طويتني داخل الأريكة ؟”
نظر آ جون إليها وقال:
“ لأنك كنت مزعجة جداً ...
كنتِ حقاً مزعجة أكثر من اللازم .
ظللتِ تضحكين وتضحكين ، تركضين صعوداً ونزولاً .
صوتك في كل مكان . كنتِ مزعجة أكثر من اللازم .
هل تعرفين أي يوم كان ذلك ؟ لقد كان ذكرى وفاة أمي .
هل تدركين معنى ذكرى الوفاة ؟”
ركز آ جون نظره على وجه شين مانيي وتابع :
“ أنت لا تفهمين
كل ما تعرفينه أن الأشرطة جميلة ، والأرجوحة ممتعة ،
وأنك تستطيعين أن تصيري عروس بمجرد أن تلفي نفسك
بستارة سرير بالية
بلغتِ السادسة عشرة، ومع ذلك فهذا كل ما تعرفينه .
هل تفهمين أنك ستكونين أضحوكة لو خرجتِ من هنا؟
كلا
أنت لا تعرفين ذلك أيضاً ،
لأن كل من في هذا المنزل دلّلك وأغرق عليك بالمديح والحنان ،،،
ورغم سيل ترهاتك المتواصل ، لم يصحح أحد تصرفاتك أو يعلمك
حتى السيد لي كان يقول لك دائماً : ' نعم ، هكذا بالضبط '
كان يقول أيضاً إنك تبدين ذكية جداً كلما ارتديتِ النظارات ،
لكنك مع ذلك تنسين كتابة عدة كلمات وأنتِ تنسخينها
مباشرةً من الكتاب ... ذكية هاه !
لقد حظيتِ فعلاً بحياة سعيدة ، وكل ذلك فقط لأنك كنتِ
الابنة الكبرى لعائلة شين .
لو كان الأمر يتعلق بأي شخص آخر ، لما عاش حتى سن
الثانية عشرة ، ناهيك عن السادسة عشرة .”
لقد كان يمقت شين مانيي حقاً ، كما يمقت عائلة شين بأكملهم
كثير من الناس أخبروه أن أمه كانت تنحدر من عائلة ثرية ،
وأنها فيما مضى فتاة مدللة بدلال مماثل لحياة شين مانيي
لكن ماذا حدث ؟ في منعطف قاسٍ من القدر ، رحل والده ،
فتحوّلت تلك الفتاة المدللة إلى مربية في غمضة عين ،
واصطحبته معها ليعيش عالةً على كرم الآخرين
لم يعرف يوماً طعماً لتلك ' الحياة الجيدة ' المزعومة
و كل ما عرفه عنها كان من أفواه الآخرين ،
وكلما عرف أكثر ، ازداد يقيناً بأن السماء ظالمة
لماذا يولد بعض الناس في أحضان النعيم ، بينما يُجبر
آخرون على تحمّل نظرات الاحتقار والاشمئزاز ؟
وما دام هؤلاء المترفون أظهروا أدنى قدر من اللطف ،
لم يكن أمامه سوى أن يتظاهر بالامتنان العميق لهم
كان لا بد أن يسمع دوماً من يقول : “ أبناء عائلة شين
يعاملونك بلطف شديد .
مانشينغ يعتبرك أخاً له حقاً ، وهو لا يتصرّف بتعالِي أبناء السادة معك .”
وكان يجد ذلك مثيراً للسخرية في كل مرة يسمعه فيها
{ لم أكن سوى عملٍ خيري لا أكثر !
سيّد شاب مهيب لم يذق مرارة الألم أو الشقاء قط
ينحني ليمنحك بضع قطع من الحلوى— هل يُعدّ ذلك فعلاً
عملاً مهيباً يستحق المديح ؟ }
إن كان كذلك ، فالسبب هو أن من ينحني : ' ابن سيّد '
و الأمر نفسه مع شين مانيي
بعد أن فقدت عقلها ، صار حتى المجانين “ أبرياء ولطفاء ويستحقون الشفقة .”
كان بوسعها أن تحتفل بعيد ميلادها الحادي عشر مراراً وتكراراً ،
عاماً بعد عام ؛
تشير إلى السنة الحالية وتقول إنها 1913،
وأن العام المقبل هو أيضاً 1913،
والذي يليه أيضاً 1913
بالنسبة إلى شين مانيي — فإنها عالقة في زمنٍ يمكنها فيه
التأرجح والابتكار في اللعب
أما بالنسبة إليه ، فقد كان عالقاً في السنة التي شنقت فيها
أمه نفسها ، غير قادر على تجاوزها
لذا كان حقاً منزعجاً بشدة من شين مانيي
وجودها تذكير أبدي بأن أمه قد شنقت نفسها في غرفتها في
التاسع عشر من مايو 1913
وكل ذلك بسبب خطأ صغير ارتكبته
{ السماء ظالمة }
وأحياناً يخطر بباله هذا السؤال
إذا كان لا بد لأحدٍ من عائلة شين أن يموت في التاسع عشر
من مايو 1913، فلماذا لا تكون شين مانيي؟
نصف بلهاء وعديمة الجدوى ، ولم يكن بوسعها البقاء طويلاً
على قيد الحياة بعد مغادرتها لبيئتها المحمية
لو لم يُطفأ الحريق في ذلك اليوم بالوقت المناسب ، لكانت
قد احترقت حتى الموت بالفعل
لكن فيما بعد أدرك أنّ حتى لو ماتت شين مانيي في ذلك
الحريق العرضي ، لما استطاعت أمه النجاة
بل كانت ستغرق أكثر في الإحساس بالذنب ، مما يعني أنها
كانت ستُقدِم على الانتحار بعزيمة أكبر
{ ؟؟؟ في كل الأحوال ، كانت أمي محكومة بالموت
ذلك هو القدر
السماء حقاً غير عادلة }
و غالباً يمتلئ بالغضب لهذا السبب ، لكنه كان متحفظاً للغاية ،
فلا يظهر على وجهه
ومع ذلك ، كان السيد لي لا ينفك يتصيّد له الأخطاء في أتفه الأمور
كان السيد لي يخبره أنه يفتقر إلى السَعة وسعة الصدر ،
وأنه غير قادر على تحمّل الآخرين
و كان يخبره أنه ينظر للأمور دائماً بمنظار سوداوي ،
وأنه يظن أسوأ ما في الناس دوماً،
وأنه لا يحسن الحكم على الشخصيات
وبكلامٍ صريح ، كان يرى أنّ آ جون لا يكفّ عن تقييم الناس
الشرفاء بعقلية دنيئة وضيعة
في رأي آ جون —- أن أحكام السيد لي تتفاوت جذرياً
بحسب الأشخاص
لو كان المفرط في التفكير هو شين مانيي أو شين مانشينغ،
لكان السيد لي صفق لهم وأشاد بهم وامتدحهم لكونهم
حذرين متأنّين لا يُخدعون بسهولة
{ وبهذا ؟؟ ألن يكون الأمر ما يزال ظلماً ؟؟؟؟ }
أما كبير الخدم ، فكان مُرابياً ماكر ؛ لا يفكر إلا في دفاتر
الحسابات والمال
ورغم أنه يقول كثيراً أشياء مثل: “ آ جون لا يلقى معاملة سهلة ” ،
و “ هذا منزلك ، ونحن جميعاً عائلتك ”،
إلا أن تلك الكلمات لم تكن تعني له شيئاً على الإطلاق
اعتبار مكانٍ ما “بيتك”—في جوهر الأمر ، لم تكن تلك سوى كلمات منمقة
فالذين يقولون مثل هذا الكلام لم يفكروا قط في اعتباره واحداً منهم
حتى الجدّة التي كانت تطهو لهم ، كانت غير محبوبة للغاية
فباستثناء الطهي ، لم تكن تفعل شيئاً سوى التمتمة بالخرافات
تقول إن الصور تسلب أرواح الناس ،
وإن عليها أن تُبقي ' شموع الخلود ' مشتعلة كي تضمن
طول أعمار الجميع وسلامتهم
لكن بعد ذلك بوقت قصير ، تحولت أمه إلى شبح قصير العمر
ومع ذلك —-رفضت الجدّة إطفاء الشموع
وقالت إنها مضطرة لتلاوة البركات من أجل أمه لأنها وُلدت
تحت نجمٍ مشؤوم ؛ وبهذا الشكل ، ربما يسهل عليها العبور
إلى العالم الآخر
وكانت تجرّه أحياناً إلى الغرفة وتُجبره على الصلاة معها
لكن كل ذلك لم يكن سوى جهد سطحي ، لأن أمه قد ماتت بالفعل
لهذا السبب كان يمقت سكان منزل شين حقاً ، كل واحد منهم
فما من يومٍ واحد قضاه هنا شعر فيه بالسعادة ؛ و كل ما
شعر به هو الضيق والاختناق
ذلك الخيط المشدود داخله دوماً انقطع في ذكرى وفاة أمه
وإن كان لا بد أن يُلقى باللوم على أحد ، فسيكون على شين
مانيي وحدها لأنها لم تحسن التصرّف ،
ولأنها اختارت ذلك اليوم بالذات لتجرّه إلى اللعب معها ،
ولأنها صنعت وجوهاً مضحكة لم تكن مضحكة أبداً ،
ولأنها ملأت البيت كله بضحكاتها المجلجلة ،
كان يريد منها أن تصمت ، أن تكون أكثر هدوءاً ،
أن تكفّ عن الضحك ، لكنه لم يحسن ضبط قوته
وهكذا تجري بعض الأمور ؛ ما إن يبدأ المرء شيئاً منها حتى
يصير من المستحيل إيقافه
لقد أخفى شين مانيي، تلك التي لن تكون مزعجة أبداً بعد الآن
فهذه الفتاة كانت من النوع الذي يتخذ القرارات في لحظة نزوة
في الماضي كانت أيضاً تحبس نفسها في غرفتها لعدة أيام
متتالية ، وتطلب وضع طعامها خارج الباب كي لا يُزعجها أحد
لكنّه ظلّ يخشى أن يجد صعوبة لاحقاً في تبرير نفسه ،
لذا قلّد خط شين مانشينغ وكتب مذكرات يومية ثم أخفى الدفتر
وكان من السهل جداً عليه أن يزوّر تلك اليوميات ، لأن شين
مانشينغ كان في الأصل يقلّده ويتسلى بذلك
ومع مرور الوقت — حتى لو أراد مانشينغ أن يعود إلى خطه
الحقيقي ، لن يستطيع
لا بد أن هذا هو القصاص
في الأصل، كان من المفترض أن ينتهي كل شيء عند ذلك الحد،
لكن السيد لي أصرّ على أن يتجاوز حدوده ويدفعه إلى زاوية لا مفر منها
وما فعله مرة ، كان من السهل أن يفعله ثانية
و بعد ذلك ، زوّر آ جون جزء آخر في المذكرات
لقد كان مدركاً تماماً لظلم هذا العالم
و لم يكن هناك أدنى شك في أن الحادث نفسه كان
سيُفضي إلى نتيجة مختلفة كلياً لو أن الفاعل هو شين مانشينغ وليس هو
فأخت نصف بلهاء ، ومُعلّم متواضع لا قيمة لهما مقارنة بابن العائلة الشابة
ولكن —- سرعان ما اكتشف أنه أغفل شيئاً ما عن غير قصد—
إذ كتب العام في المذكرات على أنه 1913 —-
وقد استغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى يكتشف خطأه
{ اتضح أن شين مانيي قد حاصرتني في ذلك العام معها ،
وجعلتني عاجز عن التحرر …
عاجز عن التحرر … }
وفي ذلك اليوم راودته فجأة فكرة
{ ما أبشع هذه الحياة المملة …. كان عليّ دوماً طلب رضا
الآخرين وأنفّذ أوامرهم؛
أن أتظاهر وأخبئ مشاعري ... }
وهكذا —— تسلّل إلى الغرفة الصغيرة حيث أبقت الجدّة
شموع الخلود مشتعلة
ثم أغلق الباب وجلس أمام الشموع طوال الليل
لم يكن يعرف لماذا جلس هناك
لكن بعد أن حدّق طويلاً في الشموع ، بدأ اسمه يبدو غريباً،
غير ملائم ، ومتنافراً تماماً مع اسم الشاب السيد شين مانشينغ
وقد عُلّق وسط أسماء ما يُسمّى بأفراد عائلة شين
لقد أراد أن يمحو اللوحة التي تحمل اسمه ، لكنه أسقط
الشمعة عن غير قصد
{ لا بد أن هذا هو القدر …
أو ربما لم يكن الأمر غير مقصود كلياً …
فببساطة ، لا أريد أن أستمر في هذا بعد الآن
والموت يُنهي كل المتاعب }
بينما جلده ولحمه يحترقان ويتقلصان تذكر فجأة عيني شين مانيي الواسعتين قبل موتها
كانتا ممتلئة بالحزن والضغينة من شعورها بالظلم تحدّقان
فيه دون أن ترمش
فمها مفتوح ، لكنها لم تستطع أن تُصدر أي صوت
لقد عرف ما أرادت أن تقوله
كانت تريد أن تخبره ' إنه يؤلمني '
في الحقيقة ،،، الألم حينما اجتاحت النيران جلده شديد أيضاً ،
أشد من كسر العنق
لم يكن لحظياً بل عذاباً ممتداً لا فكاك منه
و فكّر { لقد عاملتُ شين مانيي معاملة جيدة بقتلها بسرعة }
قال آ جون للفتاة اليافعة أمامه :
“ انظري … لقد جعلتُ الجميع يبقون ليرافقوك
نحن جميعاً مثلك الآن، متجمدون في تلك السنة ،
غير قادرين على أن نكبر .”
وبينما يتحدث ، انزلقت طبقة من جلده الشاحب المرعب
وسقط على الأرض مثل قطعة لباس واسعة
تاركاً وراءه جسداً متيبساً متفحم
اتسعت عينا شين مانيي
حدّقت فيه بلا رمش ، تماماً كما فعلت قبل موتها ،
سواءً بدافع الحزن ، أو الغضب ، أو عدم التصديق
التفت ببطء على السيّد لي والكتلة الزاحفة من الأجساد المحترقة
مشوشة مضطربة الذهن ، ولم يتضح لها إلا الآن من هم هؤلاء
ذلك الوحش الغارق في البلل والمكسوّ بالطحلب — كان
المعلّم الذي علّمها القراءة ، وأشرف على دراستها ،
وقال لها ألا تقلق وأن تكبر على مهلها
وتلك الكومة المحترقة من الأغصان اليابسة — كانت الجدّة
التي تربط لها المريلة، و التي تطهو الطعام وتُطعمها
و ذاك كبير الخدم الذي رفعها على كتفيه حين كانت
صغيرة ، و الذي حذّرها من الركض بتهوّر وأوصاها أن تحذر
من الأشرار حين تكبر
أيضاً أختاها الصغيرتان اللتان تبعتاها ذهاباً وإياباً كالبطّات
الصغيرة ، تلعبان معها الغمّيضة ، وتدعانها تلبسهما الثياب مثل العرائس
{ هؤلاء …. هم عائلتي }
وقفت شين مانيي للحظة مذهولة ،
وانسابت دموع دمويّة على وجهها ،
وشدّت قبضتيها وبدأت تصرخ
صرخت بجنون هستيري
تحطمت المرايا في الممر واحدة تلو الأخرى ،
وتناثرت شظايا الزجاج في كل مكان ،
حتى امتلأ الهواء بها
صراخها وانهيارها دفع الآخرين إلى التحرّك
السيّد لي ، كبير الخدم ، الطباخة ، شين مانشو ،
شين مانشان… اندفعت سحب سوداء كثيفة من كل واحد منهم
وكأن سدّاً ظلّ مغلقاً طويلاً قد فُتح بواباته دفعة واحدة ،
فانفجرت شكاواهم المكبوتة في أمواج هادرة
تعالت صرخات الفزع الجماعية و غرق الجميع تماماً في
ظلام دامس كثيف لا نهاية له
حتى دا دونغ، الذي ظلّ في حالة ذهول طوال الوقت،
استفاق فجأة من غيبوبته بسبب الألم الحاد
فقد بدا الأمر وكأن سكاكين رفيعة تشقّ الجلد كلما مرّ
ضباب أسود من شخصٍ واحد فقط
تاركاً وراءه جروحاً دقيقة لا تُحصى
فما بالك مع وجود هذا العدد الكبير من الأرواح الآن
لقد كانوا يُدفنون أحياء تحت جبلٍ من السكاكين
أما آ جون —- فلم يبدُ أنه ينوي إيقافهم ، لأنه كان أقوى سيّد أقفاص
نعم …. يوجد شين مانيي والسيّد لي، لكن كل الوجود داخل
القفص في النهاية هم رهن إشارته
فعلى سبيل المثال ، مهما بلغت شكاواهم ، غضبهم ،
أو ضغينتهم في تلك اللحظة ، لم يكونوا قادرين على إيذائه
كل هجماتهم كانت موجّهة نحو الغرباء
ومع ازدياد جنون أفراد عائلة شين ، صار من الأصعب
والأصعب على المتسللين إلى القفص أن يصدّوهم
انكمش تشو شو في الظلام ، ذلك الظلام الكثيف الذي لم
يكن ليرى فيه حتى لو مدّ يده أمام وجهه
مع أنه في الواقع لم يعد قادراً حتى على مدّ يده؛
فقد بدأ يشك في أنه لم يبقَ شبرٌ واحد من جسده سليم من التمزّق
و شعر أنه على وشك أن يُقطّع تمامًا إلى أشلاء
و مختنقًا داخل الضباب الأسود ، صرخ :
“ دا دونغ!”
آماله معلّقة على أن يطلق دا دونغ انفجار آخر من قوته الكامنة ،
ويُخرج من جديد نصف طائر الدابنغ الذهبي الجناحين كما
فعل في المرة السابقة
لمح وهجًا ذهبيًا يلوح في المسافة ،
مثل لهب شمعة يتراقص وسط الرياح ،
لكنه لم يستمر أكثر من نصف ثانية و أنطفئ بسرعة
: “ لا أستطيع!” ظهر صوت دا دونغ وكأنه قريب جدًا ،
لكن في الوقت نفسه بدا كما لو يفصل بينهما إعصار هائج
: “ لا يوجد—لا يوجد أي احتمال أن أُخرج الدابنغ هنا !
علينا أن نتخلص من الضباب الأسود أولاً !”
صرخ تشو شو وهو على حافة الانهيار :
“ إذن تخلّص منه اللعنة!!!”
زاد ثِقَل صوت دا دونغ:
“ هذا ليس صادرًا عن شخص واحد ،،
عليك أن تُبطل كل الضباب في نفس الوقت
أتدرك ما معنى هذا ؟”
لم يكن تشو شو يريد أن يعرف ، لكن دا دونغ واصل كلامه رغم ذلك :
“ يوجد ثمانية أشخاص في قصر شين ، بما فيهم سيد القفص .
هذا يعادل تفكيك ثماني أقفاص دفعة واحدة ! .”
كان هذا وضعًا لم يختبره دا دونغ في حياته من قبل،
أما تشو شو فقد غرق مباشرة في اليأس عند سماع تلك الكلمات.ك
بالنسبة لبعض البانغوان، مجرد حلّ شكوى شخص واحد
يُعد مهمة بالغة الصعوبة والمشقة،
فما بالك بثمانية أشخاص
وإن سارت الأمور على نحو سيئ ولم تُحلّ بالكامل ،
سيتلوث البانغوان أنفسهم بدرجة شديدة ،
ومن تلك اللحظة فصاعدًا لن يتمكّنوا من حلّ أي قفص آخر ،
وسينتهي بهم الأمر في النهاية إلى شطب أسمائهم من السجل ،
صرخ تشو شو : “ ألا يمكنك على الأقل أن تجعلهم يتوقفون
عن استهدافنا ؟!”،
ثم خطرت له فجأة فكرة وسط ذعره —-
أشرق ذهنه وقال لدا دونغ:
“ أليس بإمكانك ربط خيط الدمية بشين مانيي؟!
اجعلهم جميعًا دمى تحت سيطرتك !
وجّههم إلى صفّنا أولاً !”
كاد دا دونغ أن ينهار بسببه أيضًا :
“ هي لم تكن قد جُنّت حينها ! وكل ما فعلتُه هو ربط خيط واحد بها ،
كان مجرد رمز ، لذا بالطبع استطعت أن أربطه بسهولة .
لكن الآن وهي في هذه الحالة ، سأحتاج إلى طاقة تعادل
تقريبًا طاقتي لإطلاق الدابنغ الذهبي كي أسيطر عليها .
ولو كان بإمكاني التحكم باثنين في آنٍ واحد ، هل تظن أنني
سأظل أعمل كأتباعٍ لشخص آخر ؟!”
لم يكن أحدهما يرى الآخر
وتحت وطأة الألم والعذاب الذي أنزله بهم الضباب الأسود
الملتف حولهم ، تحوّل جدالهما إلى نوع من التنفيس
اليائس ، لكنه لم يدم سوى ثوانٍ معدودة
و بعد لحظة ، اجتاحتهم موجة أعنف من طاقة الحقد ،
شعورًا وكأنها تمزّق لحمهم وتقتلع عظامهم
لم يتمكنوا من كبح صرخاتهم، فاندلعت من حناجرهم عويل مروّعة
وفي اللحظة التي خرجت فيها صرخاتهم ، سمعوا فجأة
صوت مخلوق ضخم يزحف بجوارهم
لقد كان الـ تينغشي الخاص بوين شي ——
مزّق ممرًا طويلاً في الضباب الأسود ، مُبعداً رائحة الدخان المحترق ،
ومعه عبقٌ معدني صدئ نتج عن ارتطام سلاسله العملاقة ببعضها
ومع صرير الرياح ، انثنى على نفسه في دائرة وسط الضباب الأسود
تحوّلت المنطقة التي اخترقها إلى دوامة تعصف نحو
السماء مثل عمود مائي
جُرف تشو شو والبقية إلى وسط الفضاء الخالي الذي فتحه،
مما حال دون تعرضهم لمزيد من الإصابات الجسدية
ترنّح الجميع وتجمعوا متقاربين داخل الدوامة ،
لكن لم يستطع أيٌّ منهم أن يطمئن بعد
فالضباب الأسود قادر على التسلل حتى من أضيق الفراغات
وظل يتربّص عند حواف أفعى تينغشي ، مهددًا بالتسرّب من بين فراغات التفافاته
وبينما تينغشي يحميهم ، لمح تشو شو بريقًا فضيًا يخترق
الظلام خارج الدوامة
بدا وكأنه سيف شقّ الهواء ، فتح صدع رفيع في كتلة السواد الكثيفة
لكن سرعان ما أدرك أنه لم يكن سيفًا على الإطلاق
لقد كان خيط دمية ———
انقضّ الخيط عبر الهواء مصحوبًا بصوت صفير حاد
فالتفّ عدة مراتٍ حول شيءٍ ما
ثم تبعه رنين خفيف كالرنين المعدني
و امتدّت سلاسل متلألئة بشررٍ متطاير من طرف الخيط،
وتشابكت بسرعة فوق بعضها،
لتقيّد الهدف كما يلتف الغصن والكرمات حول جذع شجرة
وبـ طَقّة حاسمة ، أعادت السلاسل إحكام القفل عند طرف الخيط
و فوراً ، تصدع ثقب واسع في الضباب الأسود
وتصلّبت الظلال المقيّدة بالسلاسل لتتخذ هيئة إنسان :
—- شين مانيي
وفي الجهة الأخرى من الخيط ، كان وين شي قابضًا عليها بإحكام
صرخ سون سي تشي باكيًا : “ ما الذي يحدث ؟!”
حدّق دا دونغ وتشـو شو بدهشة نحو اتجاه وين شي وقالا معًا :
“ قفل دمية .”
كان مصطلح أقفال الدمى يشير إلى السلاسل التي تُلفّ حول الدمى
وظيفتها هي كبح جماح الدمى في طور القتال ، ومنعها من
الإفلات من سيطرة سيّدها
وما إن تُغلق تلك الأقفال ، يصبح بإمكان السيّد التحكم حتى
بأشدّ الكائنات عصيانًا
وهذا بالضبط ما قال دا دونغ في وقتٍ سابق إنه غير قادر على فعله
لم يكن مفاجئًا كثيرًا أن يتمكن وين شي من إنجازه ،
فهو أقوى منه بكثير
لذا لم يبدُ دا دونغ مذهولًا بقدر ما كان تشو شو الذي أطلق
تنهيدة ارتياح، بينما ظلّ تعبير دا دونغ قاتمًا
دا دونغ:
“ حتى لو استطاع التحكم بواحدة فقط ، فلن ينفع ذلك بشيء !
فما زال هناك سبعة آخرون !”
اختفى النفس الذي سحبه تشو شو للتو —- وشعر وكأنه
يختنق من جديد
: “ ربما يستطيع هو—”
لكن قبل أن يُكمل جملته، قاطعه دا دونغ بحزم:
“ هذا مستحيل ! فكّر جيدًا ، كم عدد دمى القتال التي
يستطيع يالين-غا السيطرة عليها في وقت واحد ؟”
( تشانغ يالين )
اتسعت عينا تشو شو بصدمة : “ ستة…
انتظر ، حتى بهذا نكون ناقصين اثنين ؟!”
ثم سرعان ما أدرك شيئًا آخر:
“ لكن هذا في حال التحكم بها بشكل ثابت ،،
ناهيك أن تلك الدمى القتالية يمكنها التحول إلى هيئة بشرية ، وكانت أكثر انفلاتًا من السيطرة من الموجودين هنا.
الوضع ليس متكافئًا .”
ردّ دا دونغ :
“ صحيح ، لذا فهذا لن يشكّل مشكلة لـ يالين-غا
لكن ماذا عن الآخرين ؟” ثم تنهد تنهيدة ممزوجة بخيبة
وسخرية ذاتية: “ توقّف عن الأحلام .”
ومع ذلك —- لم يكن مستعدًا للانتظار مكتوف الأيدي حتى يأتيه الموت
فانتهز الفرصة ، وأطلق خيط دميته ، فظهر الدابنغ الذهبي
مجددًا داخل الدوامة التي صنعها التنغشي
فرد الدابنغ جناحيه العريضين ، ووسّع نطاق الحماية على الفريق
وما إن استقرّ الدابنغ في مكانه ، حتى دوّى مجددًا ذلك الصفير المألوف ———
لمح تشو شو خيط الدمية الفضي مجدداً
لكن هذه المرة اندفع مباشرةً في اتجاه آخر ——
تشو شو : “ دا دونغ !! دا دونغ !! انظر هناك…” بدأ ينكزه
رفع الاثنان رأسيهما معًا وحدّقا بذهول
السلاسل تتوهّج بلهيبٍ أحمر قرمزي وسط الضباب الأسود ،
متشابكة ومُحكَمة الإغلاق على شخصٍ جديد ،
متطايرة بالشرر في كل مكان ،
تكوّنت الملامح تدريجيًا من تحت الضباب :
السيد لي —-
تمتم تشو شو : “ اللعنة ،،،، هذا القفل الثاني الآن "
: “ خطأ ، بل الثالث ! ….” أشار دا دونغ إلى الأفعى السوداء
العملاقة وقال : “ إنه يملك ثلاثة دمى بالفعل…”
لكن وين شي لم يتوقف ؛ أطلق خيط دمية آخر ،
ومع قعقعة السلاسل وهي ترتطم ببعضها ، سيطر بنجاح على دمية رابعة —- كبير الخدم
الخامس ، ثم السادس
وعندما تمكّن أخيرًا من السيطرة على الحذاء المطرّز ، فانكشفت امرأة ببطء من تحت قيود السلاسل ،
كان دا دونغ وتشو شو قد صُعقا تمامًا
حدّقا مذهولين في أصابع وين شي
خيوط القطن البيضاء متشابكة ومتوتّرة بشدّة ،
وفي نهاية كل خيط —- جسد مُقيّد بالسلاسل
استغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى استوعبا ما رأياه
لقد نجح هذا الشاب فعلًا في التحكم بجميع من في القفص…
باستثناء آ جون ——
شعر تشو شو وكأنه يفقد عقله :“ كيف يكون هذا ممكنًا…”
: “ سبعة… يا للجحيم…” كان دا دونغ على وشك الجنون هو الآخر
حينها أدرك فجأة أنه كان قد استهان على الأرجح بأكبر أبناء
عائلة شين من جديد
بل إنه من المحتمل جدًا أن حتى معلمه لم يكن قادرًا على
إنجاز مهمةٍ كهذه
السيطرة على سبع دمى دفعة واحدة ، في لحظة اندفاع طاقتها المنفلتة
سبع دمى دفعة واحدة ——؟
لكن قبل أن يستفيق من صدمته، وقع مشهد أعظم دهشة—
لف وين شي معصميه بقوة و شد أصابعه للداخل ، فجعل
الدمى السبعة تحت سيطرته تتحرك جميعًا في آن واحد
و فجأة ، انتفخت أجساد شين مانيي، السيد لي، والآخرين،
ثم استداروا ليحاصروا آ جون—الوحيد الذي لم يخضع بعد
لسيطرته —
اندفع الضباب الأسود بعنف من جديد ،
كما لو أنّ سدوده فُتحت على مصراعيها
لكن هذه المرة لم يعد يؤذي الفريق ، بل اندفع كلّه ليخنق آ جون
محاصراً جسده بالكامل في لحظة
و تحوّلت صدمة دا دونغ إلى ذهول
كان يظن أن وين شي قد بلغ أقصى حدود قدرته بمجرد
تثبيت سبع دمى معًا ومنعها مؤقتًا من أي فعل آخر
لم يتوقّع أن يخطو هذا الشاب خطوة أبعد—
فلم يقتصر وين شي على تثبيتهم فحسب ، بل سيطر عليهم بحق
سبع دمى دفعة واحدة…
وهذه المرة ، سيد القفص نفسه هو من يصرخ من شدّة الألم
لم يخطر ببال آ جون أن يحدث انقلاب بهذا القدر من
الجذرية والغرابة في أرضه الخاصة وفي غمضة عين
كل أولئك الذين سكنوا هذا المكان ،
كل الذين سمح لهم بكرمه أن يوجدوا فيه —
تحوّلوا جميعًا إلى ' غرباء ' —- وصبّوا غضبهم نحوه
سابقاً لم يكونوا قادرين على لمسه بسوء مهما بلغ بهم
الغضب أو الانكسار أو الحزن
إن بكوا، أو صرخوا، أو تمزّقوا من الداخل، لم يكن بوسعهم أن يؤذوه
لكن في هذه اللحظة ، شعر فعلًا بالألم
ألمٌ حادّ ، أشدّ حتى من النار التي أحرقت جسده حيًّا
وكأن مناشير صدئة غير حادة ، تمزّق جلده ببطء جيئةً وذهابًا دون رحمة
عذابه صار لا يُحتمل ، حتى إن عقله نفسه بدأ يذوي تحت وطأته
تردّدت في أذنيه أصواتٌ لا حصر لها
بعضها من زمن حياتهم ، وبعضها من بعد موتهم
منها ما كان واضح ، ومنها ما كان غامض
أصوات ضاحكة ، وأخرى باكية
أصوات كثيرة جدًا ، ومع ذلك لم ينتبه إليها يومًا من قبل
فجأة خُيّل إليه أن الألم لم يعد بهذا السوء
لقد كان الأمر أشبه بسداد دين
وما إن يفرغوا من تفريغ مشاعرهم ، سيكون قادرًا هو أيضًا
على أن يتحرر ، كليًا ونهائيًا ، من كل هذا
بل بدأ يتمنى أن يكونوا أكثر قسوة في ثوارنهم ،
أعلى في بكائهم ،
أشرس في صرخاتهم — حتى يستطيع هو أيضًا أن يغادر هذا
العالم بأسرع وقت ممكن
لم يفهم بنفسه ما هذا الشعور الغريب
لكنه في هذه اللحظة ، بدأ يصدّق أن السيد لي كان مُحقًا
في شيء واحد
أنّه فعلًا شاب سيئ التقدير ، لأن حتى نفسه لم يستطع أن يفهمها
وبينما آ جون واقف وسط الضباب الأسود المتغلغل من حوله ، شاردًا في وجوده نفسه،
انبثق فجأة صوت بارد عديم الانفعال ، شقّ الضباب واخترق
أذنيه مباشرةً —-
: “ أنت نادم "
انقبض صدر آ جون وردّ بتلقائية:
“ لستُ نادم .”
لم يأتِه جواب
ولكن اشتد اضطرابه أكثر فأكثر
“ لستُ نادمًا ! علام أندم ؟
كل شيء جرى كما ينبغي أن يجري !”
لقد أزعجته شين مانيي، ألحّت عليه، ودفعته إلى الحافة
لم يكن أمامه خيار سوى أن يفعل شيئًا لإسكاتها
أما شين مانشنغ، فقد تظاهر بأنه يعامله بإنصاف،
لكنه لم يفعل ذلك إلا رياءً
وإلا فلماذا كان يقلّد خطه عمدًا ؟
في جوهره، لم يكن سوى يسخر منه ويزدريه
والسيد لي؟ لم يعرف يومًا أن يعامل الجميع بإنصاف
كان دائم الانتقاد لـ أخطاء آ جون ،
وكأنه أدنى درجة من الآخرين لمجرد أنه لم يكن سيد شاب عائلة
و كان محتومًا أن يلقى السيد لي ذلك المصير
وأما كبير الخدم والطباخة والفتاتان الصغيرتان، فلم يرتكبوا ذنبًا كبيرًا
لكن حين اندلعت النيران، لم يعد يملك حتى الرغبة في
إنقاذ نفسه فكيف بالآخرين ؟
لم يكن سوى حظهم العاثر أنهم وجدوا في المنزل وقتها
هذا هو القدر
حتى أمه نفسها ، التي ربّت أبناء عائلة أخرى كما لو أنهم
أبناءها ، كانت بلا عمود فقري
من أجل أمر تافه ، أنهت حياتها بيديها
وبسببها ، اضطر هو أن يعيش متطفلًا على عطف الآخرين بمفرده
وذلك أيضًا كان يستحقّه
لقد كرههم
و كان لكل كراهيته سبب
لقد كان له الحق في بغض كل فردٍ من عائلة شين
لكن، رغم أن كراهيته لها مبررات، بدا كأن أحدهم قد لمس
عصبًا مكشوفًا بداخله
و ظلّ يصرّ بإلحاح :
“ لستُ نادمًا ! لستُ نادمًا !
لو اضطررتُ لإعادة كل شيء من جديد ، لاتخذتُ نفس القرارات بالضبط !”
توقف قليلًا ثم صحّح:
“ لا… لو اضطررتُ لإعادة كل شيء من جديد ، لما أردتُ أن
أظهر في عائلة شين من الأساس .”
كانت كلماته تلك قوية وثقيلة ، تردّدت أصداؤها في الردهة الفوضوية
فجأة — توقّف الصراخ و العويل وأنين الموتى جميعه
غرق الممر في صمت طويل
اختفى الألم الحادّ الذي كان يمزّق جسده فجأة
فارتبك آ جون ورفع رأسه
لم تعد شين مانيي والبقية يبكون
ظلّ الضباب الأسود يلتفّ حولهم بعنف مدمّر ، لكن هجومه عليه توقّف
كل ما فعلوه أنهم نظروا إليه بصمت، تتبدّل ملامحهم من
سخط إلى حزن،
ثم تخبو حتى عاد إلى الهدوء
نظروا إليه ببرود لا مبالٍ ، وكأنهم ينظرون إلى غريبٍ تمامًا
شعر آ جون فجأة بانزعاج شديد
كان يفضّل أن يواصلوا هجومهم الكاسح عليه بالضباب الأسود
أما طريقتهم الحالية فقد جعلته يشعر أنه عالق في حالة
من الغموض ، وكأن عظم سمكة انغرس في حلقه
كان الأمر أشبه بكيس ملأه بأشياء كان سيقوم بإعادتها إليهم
لكن حين مدّ يده ليسلّمه لهم ، قرروا فجأة أنهم لم يعودوا يريدونه
وربما لأن المكان كان هادئًا جدًا في هذه اللحظة ،
تذكّر آ جون بلا سبب عبارة قالها له شين مانشنغ منذ زمن بعيد:
“ جون-غا إذا كان هناك ما يضايقك ، لا تكتمه بداخلك .
أفراد العائلة من حقهم أن يتجادلوا .”
لكن آ جون لم يتجادل معهم أبدًا في الماضي
والآن… لم يعد هناك أحد ليتجادل معه بعد
نظر إلى شين مانيي وهي تمسح عينيها، ثم استدارت فجأة عنه وأعطته ظهرها
لم تبدُو سلاسل الحديد الملفوفة حولها عائقًا ،
و مشت بخفة ، وكأنها لا تحمل أي ثقل
تقدّمت نحو وين شي ورفعت رأسها :
“ غاغا ، أريد أن أغادر الآن .”
تفاجأ وين شي قليلًا من طريقة مناداتها له
وبعد لحظة ، أومأ بخفة وقال بصوت منخفض :
“ حسنًا .”
ثم مد يده ولمس منتصف جبين الفتاة
في تلك اللحظة ، انتقل كل ضبابها الأسود إليه
و تحوّل من تهديد مخيف إلى تيار مضطرب ،
ثم تلاشى بهدوء حول وين شي، متسرّبًا تدريجيًا إلى جسده
: “ ماذا سأصبح في المستقبل؟” سألت شين مانيي بهمسٍ خافت، بينما بدأت ملامحها تتلاشى
وين شي: “ لا أعلم .”
: “ فراشة ؟” سألت من جديد، كأنها ما تزال تلك الطفلة
التي تعشق الخيال وإن كانت لا تفهم شيئ : “ مثل هذه .”
و خفضت رأسها وجذبت الشريطة المربوط
وما إن اختفى الضباب الأسود تمامًا، حتى صار جسدها نقيًا،
واختفى كل آثار التآكل
تحوّل فستانها إلى أصفر مشرق ، بلون زهرة تفتح للتو في حديقة القصر
شدّ وين شي شفتيه قليلًا وبعد ثانية قال:
“ ربما "
أجابها فبدا عليها بعض الفرح ،، أمسكت بطرف فستانها
الجميل وابتسمت له، ثم التفتت لتلوّح بيدها نحو شيخ وون…
ودّعت الشخصين اللذين أحبّتهما كثيرًا
وحتى آخر لحظة قبل أن تتلاشى ، لم تلتفت خلفها ولو مرة واحدة
الشخص الثاني الذي استدار كان كبير الخدم
بعده جاءت الطباخة —
ثم الأختان الصغيرتان من آل شين —
راقب آ جون بلا حول ولا قوة الأشخاص الذين عاش معهم
من قبل أبعدوا أنظارهم عنه واحدًا تلو الآخر ،
واستداروا إلى وين شي
و اختفوا ببطء دون أن يلتفتوا مرةً واحدة إلى الوراء
حتى الأم التي أنجبته لم تقل له شيئ ؛
اكتفت بالنظر إليه طويلاً بعينين محمرّة ،
ثم تنهدت بعمق وغادرت أيضاً
المفاجأة كانت في أن آخر من غادر كان السيد لي ——
بدى أن لدى السيد لي شيئًا يريد قوله له
لكن بعد تردد طويل، اكتفى بهز رأسه فقط
حمل الصندوق النحاسي الصغير بين ذراعيه ،
واستدار مثل الجميع وتوجه نحو وين شي ،
تاركًا ظهره لآ جون
و سقط القفل على الأرض بينما جمع وين شي
الضباب الأسود منه تدريجيًا
جفّ رداءه الطويل ليصبح أزرق سماوي فاتح
و تلاشت الطحالب والعفن المتناثر تدريجيًا ،
كاشفاً عن مظهره الأصلي ، شاب طويل القامة وأنيق
و أخيرًا استطاع التحدث مجددًا
في البداية ظن آ جون أن السيد لي سيختفي من هذا العالم
مثل الآخرين من دون أن ينطق بكلمة ،
لكن المفاجأة أن السيد لي ألقى نظرة سريعة إليه
نظر السيد لي لآ جون بنظرة بعيدة وتوقف ،
كما لو أن الكلمات كانت معلقة على طرف لسانه
وفي النهاية، سأل سؤالًا واحدًا فقط:
“ هل تعرف لماذا قرر السيد الشاب مانشنغ تقليد خطك؟”
تجهم آ جون
لم يفهم سبب إشارة السيد لي إلى هذا الأمر ، و أجاب :
“ لأنني بدأت تعلم القراءة والكتابة بعد بقية الأطفال ، فكنت أدنى منهم .
فعل ذلك ليسخر مني .”
هز السيد لي رأسه
و بعد لحظة ، قال :
“ كان يعلم أن لديك مزاجًا حساسًا وتميل إلى مقارنة نفسك بالآخرين .
و في كل مرة تُسلم لي واجبك الكتابي ، تتردد طويلًا .
لهذا وضع نفسه على نفس مستواك ، حتى يكون لك رفيق
وتشعر براحة أكبر .
حتى لو كنت سأوجه النقد ، سيكون لابد أن أنقدكما معًا ،
وهذا أيضًا يجعل التحسن الذي أحرزته يبدو أكبر .
لذا توقفت في النهاية عن محاولة تصحيحه ...” و بعد تأمل
قصير، تابع : “ اللوم عليّ "
غالبًا تأتي أفكار الأطفال بطريقة يفهمها الكبار بصعوبة ،
لكنها مليئة بلطفٍ أخرق
اعتقد السيد لي أن كونهما في نفس العمر وعرفا بعضهما
منذ زمن طويل، فسوف يحل كل شيء في النهاية
{ لكن … يا للأسف… }
تجمد آ جون في مكانه
وبعد صدمة طويلة ، عبس وقال :
“ هذا مستحيل .”
نظر إليه السيد لي بصمت
لم يكن لديه أي نية للتفسير أكثر من ذلك
من كان مقدرًا له أن يفهم ، سيفهم دائمًا
أما من لم يفهم —فذلك يعني ببساطة أن مصائرهم
مختلفة في هذه الحياة ، وأن لا قدر يجمعهم
بعد أن أنهى كلامه ، توقف السيد لي عن الانتباه للشاب المرتبك و استدار وقال لوين شي:
“ لدي طلب جرئ إلى حد ما إذا سمحت لي بذلك .”
وين شي: “ تفضل "
خفض السيد لي بصره وقال:
“ ما زلت أرغب في رؤية منزلي مرةً أخيرة .”
{ لقد انتظرت سنوات طويلة جدًا …
من أجل هذه … ' المرة الأخيرة ' }
صمت للحظة قصيرة ، رد وين شي:
“ أستطيع مساعدتك على البقاء قسرًا لعدة أيام ، لكن
سيكون من الصعب جدًا عليك مغادرة هذا المكان بعد ذلك .”
أومأ السيد لي برأسه و قال: “ أفهم ذلك ، لكني ما زلت
أرغب في رؤية منزلي مجدداً ،،
اعتبر هذا طلبي الأخير المتواضع .”
أومأ وين شي أيضًا ثم ربت على الصندوق النحاسي و قال:
“ ادخل هنا .”
وهكذا ، في لمح البصر ، خلت الصالة الضخمة لعائلة شين تمامًا
و بقي آ جون واقفًا في منتصف الممر ، وحيدًا تمامًا
وعندما نظر إلى يديه وجسده، اكتشف أنه بدأ يتلاشى ؛
بدا وكأنه لن يحصل على فرصة ليصبح نظيفًا أو متحررًا مثلهم
تمتم آ جون بصوت عالٍ : “ لماذا أنا… مختلف عن الآخرين ؟”
{ لماذا لم يكن لديّ أي ضباب أسود ،
ولماذا أشعر وكأن كل شيء يتم سحبه مني بينما الآخرون يغادرون ؟
من الواضح أن هذا هو منطقتي —
ومن الواضح أنني السبب الوحيد في بقاء هؤلاء الناس هنا حتى الآن …. }
وين شي: “ لأن الشيء الوحيد الذي لا يمكنك التخلي عنه هو نفسك .”
لكل شخص رغبات لم تتحقق ؛
لدى الجميع تعلقات تربطهم بالعالم الدنيوي ؛
لدى كل واحد منهم أشياء لا يستطيع التخلي عنها أو الابتعاد عنها ؛
لكن آ جون لم يكن كذلك
بمعنى آخر، بقي هنا لمصلحته الخاصة فقط
لم يكن مستعدًا للمغادرة ، ولذلك بقي
شعر بقليل من الندم فجرّ الجميع معه
ربما، في مرحلة ما من الماضي، كان يتخيل أن هؤلاء الناس
سيستطيعون أن يغفروا له
لكنه لم يعتذر أبداً
كان فقط يفكر { أنا أحفر بعضًا من منطقتي لتبقون فيها
أنتم جميعًا ، تمامًا كما كنت أعيش في منزلكم حينها
يجب أن يكون هذا كافيًا }
وبالتالي، عندما غادر هؤلاء الناس بلا تردد، أصبح وجوده بلا معنى
و بعد دوامة طويلة من الالتواءات ، تبين أن ليس هم من
كانوا يحاصروه ويقيدونه، بل هو نفسه لم يستطع تركهم
لقد دمرهم —- ، كلهم —- ، من أجل تحرير نفسه
و في النهاية ؟ —- ، لم يستطع حتى أن يحصل على التحرر
{ لابد أن هذا هو ما يُسمى بالجزاء أو الجزاء المستحق }
تشقق جسده المحترق ببطء ، وبدأت صالة معيشة شين
بأكملها تهتز بلا توقف
وبينما لا يزال بعيدًا قليلًا ، مدّ وين شي يده نحو آ جون
و انسابت خيوط دمى من أصابعه بأطوال مختلفة ،
مثل الروابط الغامضة والغير قابلة للوصف التي تربط بين الناس
شعر آ جون بضغط غير مرئي يغطي قمة رأسه
كان شيء ما يُسحب من جسده ، أو بدقة أكثر ،
يُستخرج من روحه ومن القفص نفسه
ظهر الشيء المُستخرج كقطعة صغيرة من شيء ما
نقي تمامًا ، ويحمل معه رائحة خفيفة من زهرة البرقوق الأبيض
مع الألم الحاد ، احتضن آ جون رأسه وأغلق عينيه بإحكام
وبينما جسده يخف تدريجيًا ، سأل فجأة: “ هل ما زال شين مانشنغ حي ؟”
وين شي : “ لا أعلم . لكن هذا لم يعد يعنيك بعد الآن .”
كل هذا بقايا من الماضي ، أصدقاء قدامى لن يلتقوا مجدداً
في هذه الحياة الدنيوية
بعد أن قال ذلك، قام بحركة دفع في الهواء بيده
و تفتت جسد آ جون المحترق إلى رماد ودخان،
وبدأ القفص بأكمله ينهار تحت أطراف أصابعه
تحولت ديكورات صالة شين العتيقة ، والحطام المبعثر على
الأرض ، وضوء القمر البارد والبعيد — كلها — إلى بياض ساطع أعمى
دخل الجزء المفقود منذ زمن طويل من روحه جسده من مركز جبينه
كان باردًا بشكل صادم
انحنى برأسه بينما ذهنه أصبح فارغًا
وبشكل لا إرادي تراجع خطوة للخلف ، لكن شعر بـ يدين تدعمه
و في اللحظة التي انهار فيها القفص ، ركع وين شي نصف
ركوع على الأرض بسبب الألم المشتعِل من جبينه
و انسابت قطرات من العرق البارد على بشرته ،
وشعر بشخص يضغط بيده على جبينه، بينما سمع صوتًا
منخفضًا وغير واضح في أذنه:
“ لا تشد أصابعك بشدة . لنذهب إلى المنزل .”
يتبع
الكاتبة مو سولي باختصار :
تعليقات: (0) إضافة تعليق