القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر الاخبار

Ch75 بانغوان

Ch75 بانغوان


{ تشو شو ؟؟؟

بو نينغ ؟؟؟ }


لم يخطر ببال وين شي ولو للحظة أن يكون هناك أي ارتباط بين الاثنين ، 

مع أنّ هناك الكثير من السمات المشتركة بين تشو شو وبو نينغ


كلاهما يمتلك طبيعة استشرافية بالفطرة ؛ فكلمة عابرة قد 

ينطقان بها من غير قصد تكون أدق أحياناً من نتيجة 

يستخلصها غيرهما بعد عناء طويل في العرافة


أرواحهما أيضاً متزعزعة ، يسهل تضليلها والسيطرة عليها ، 

ولذلك فخطر وجودهما داخل أي قفص يفوق بمراحل خطر 

أي شخص عادي


لهذا السبب بالذات تخصّص بو نينغ في المصفوفات ، 

ولعلّه أيضاً السبب الذي جعل تشانغ بيلينغ لا تسمح لابنها 

تشو شو بدخول أي قفص


فعندما يخرج الناس العاديون من القفص ، تتحوّل كل 

تجاربهم فيه إلى مجرد حلم ، 

ولن يستطيعوا استرجاعها أبداً ،

أحياناً فقط تراودهم لمحة من شعور غريب يشبه الـ ' ديجا فو ' ولا أكثر


لكن تشو شو كان يتذكّر كل ما يحدث داخل القفص بوضوح تام


منذ أن خرج وين شي من بوابة النسيان ، لم يخلُو أي قفص 

دخله من وجود تشو شو فيه ، 

باستثناء قفص شين تشياو 


وكأنّ هناك قوة عليا غامضة تدفعهم دفعاً ليلتقوا دائماً


لكن وين شي كان لا يزال يجد صعوبة في التصديق ، 

لأن تشو شو وبو نينغ مختلفان إلى حدّ بعيد…


قال في ذهول :

“ هذا هو… بو نينغ ?”


غمرت مشاعره أمواج متشابكة ، فأدار رأسه بدهشة ، يبحث بشكل لا واعٍ عن الجواب

 من الشخص الواقف بجواره


بدا له أنّ إيماءة واحدة من ذلك الشخص كفيلة بأن تحسم كل شيء


لكن ما إن خرج السؤال بعفوية من فمه حتى أدرك أمراً ما: 

كان يتصرّف وكأن الأمر طبيعي للغاية بالنسبة له


و نتيجةً لذلك ، واجه نظرات الصدمة العارمة من لاو ماو


وبينما طائر الدابنغ ذو الجناح الذهبي يحدّق مدهوشاً ، 

كاد أن يخفق بجناحيه من شدّة الصدمة


ظل لاو ماو يحدّق في وين شي فترة طويلة ثم نظر نحو شيه وون

فتح فمه وأغلقه مراراً حتى تمكّن أخيراً من عصر سؤال واهن من حلقه:

“ يبدو وكأنّه… اكتشف الأمر منذ وقت طويل ؟ "


كان لاو ماو يتوقّع أن يرى دهشة مماثلة على وجه شيه وون، 

لكنّ الآخر اكتفى بالنظر إلى وين شي دون أن ينبس بكلمة


لم يكن يفصل بين الاثنين سوى خطوة واحدة ، وتصادمت نظراتهما في الصمت ، 

فانبعث من ذلك جوّ غامض مليء بتعقيدات يصعب سبر أغوارها


وبعد لحظة ، ردّ شيه وون على لاو ماو بهمهمة قصيرة :

“ همم”


ازدادت الأجواء غرابة ، والواقفون راكعين على الأرض لم 

يملكوا إلّا أن ينظروا إلى الثلاثة بنظرات حائرة


لم يفهموا ما يجري ، كان لاو ماو على وشك أن يفقد صوابه


لأن هناك ما هو أغرب في موقف شيه وون نفسه ……


لاو ماو : “ كنتَ تعلم مسبقاً ؟؟؟؟؟ "

حاول أن يخفض صوته قدر المستطاع ، لكنّه لم يستطع 

إخفاء نبرة الارتجاف التي ظهرت في كلمة ' تعلم '

لقد صُدم لدرجة أنه نسي أن ينادي شيه وون بلقب “ الرئيس ”

{ هو اكتشف من تكون ، ولم يقل شيئ

وأنت تعلم أنه اكتشف ، ولم تقل شيئاً أيضاً }


كاد عقل لاو ماو أن ينعقد على نفسه وهو يحاول فهم المسألة


ورغم حيرته، استطاع أن يلتقط أن وراء ذلك ما هو أعمق


لكن في النهاية ، لم يكن سوى دمية


لا يمكنه أن يدرك حقاً المشاعر والرغبات التي تشكّل جوهر حياة البشر


صحيح أنّه أكثر حدّة وذكاء من غيره من الدمى ، وأكثر شبهًا بالبشر ، 

وأقوى بعض الشيء ، لكنه مع ذلك لم يستطع أن يفهم من 

أين تنبع تلك الـ ' زيادة ' الغامضة


كل ما استطاع فعله هو وضع يديه على خصره والتحديق في 

سيّده محاولاً التوغّل في أعماق روحه


شيه وون لم يعد يلتفت إليه ، بل التفت وأشار إلى التمثال 

الحجري وتشو شو —- وكلاهما جالس القرفصاء متقابلين 

على جانبي رمز الـ ' يين-يانغ ' وسأل وين شي:

“ ما الذي يبدو لك هذا ؟ "


كان لا يزال محاطاً بهالة الماضي : شعر طويل ، ورداء أحمر ، 

وياقة بيضاء كالثلج ، ومع كلامه ، رسمت خطوط فكه 

المحددة صورة بديعة وحادّة


و للحظة تجمّد وين شي مأخوذاً بمظهره ، لكنّه سرعان ما 

استعاد وعيه حين أشار الآخر نحو تشو شو — فسارع بتحويل نظره


وهذه المرة، أخيراً التقط الجزء غير المألوف في المشهد—


كان التمثال الحجري وتشو شو يجلسان متقابلين ، الظهر بالظهر ، في وضعية اللوتس ، 

ورؤوسهما للاسفل ، يثبّتان مركز المصفوفة 


كان ذلك أشبه بحرف ' 北 ' مع بعض التعديل ، 

وهو نفسه الرمز الذي استخدمه بو نينغ قبل سنوات طويلة


تذكّر وين شي ما قاله بو نينغ له وقتها : 


( اخر مشهد ماضي ذُكر لهم — لما كان بونينغ يختار بين 

الاحجار إلي جابها تشونغ سي وينقش على واحد منها ) 


بونينغ : “ هذا الرمز ليس الحرف الذي يعني الشمال . 

إنه رمز ابتكرته بنفسي ، وسيكون له توافق معي في المستقبل "


حينها كان تشونغ سي متكئاً على الطاولة الحجرية يرمي 

حبات الصنوبر التي سرقها من مكان ما ويلتقطها باستهتار، 

بينما تشوانغ يي يعيد لفّ الأحجار المتبقية التي لم يختارها أحد


كان يقول إن بعضها يحمل بالفعل روحانية معيّنة ، وينبغي 

إعطاؤها للتلاميذ الخارجيين


أما وين شي فقد أنهى استرخائه على غصن الشجرة ، وقفز 

من هذه الشجرة العتيقة وأسند يده إلى أحد فروعها

و في تلك اللحظة انطلق طائر الدابنغ ذو الجناح الذهبي من 

على كتفه ليحلق بين أشجار الصنوبر



بعد أن وضع بو نينغ الحجارة المستديرة المنقوشة بالرموز 

في كيس قماشي وأخفاه داخل كمّه ، 

ظلّ يحدّق في جبل سونغيون المغمور بهدوء فترة ما بعد 

الظهيرة ، غارقاً في شروده لوقت طويل


رفع وين شي يده التي كان طائر الدابنغ يستقرّ عليها، وبينما 

مرّ بجانب بو نينغ ربّت على كتفه وسأله:

“ ما الأمر ؟”


عندها فقط استفاق بو نينغ من شروده


وقف باستقامة وضمّ يديه في كمّيه ، وبعد لحظة صمت 

طويلة هزّ رأسه بابتسامة وقال:

“ فقط… أشعر أن وقتنا الذي نقضيه على الجبل رائع إلى حد لا يصدّق .”


كان لا يزال صغير السن حينها ، لكنّه يتصرّف كثيراً بأسلوب 

يكسوه الحزن والوقار


كان أكثر تحفظاً وهدوءاً من معظم من في عمره ، بل بشكل مبالغ فيه


وأحياناً كان تشونغ سي يثرثر بلا ملل ، فيلازمه بالسخرية 

ويناديه بلا انقطاع “ أيها العجوز”، حتى يستفز بو نينغ إلى 

درجة يرفع فيها رداءه ليضربه بركلة


عندها فقط يتراجع تشونغ سي وهو يقول :

“ هذه المرة الوحيدة التي تتصرّف فيها كشاب .”


لذلك ، بمجرّد أن تكلّم بو نينغ ، أدرك وين شي والبقية ما الأمر


قال تشوانغ يي:

“ ماذا رأيت هذه المرّة ؟”


توقّف وين شي عن السير وألقى نظرة نحو قمّة الجبل :

“ هل للأمر علاقة بجبل سونغيون؟”


كان الاستثناء هو تشونغ سي، إذ مدّ ذراعيه ليحيط بهما كتفي رفيقيه وقال:

“ ومن يهتمّ بكل هذا ؟ ألا تتذكّرون ما قاله الشيفو سابقاً ؟ 

كيف ستعيشون إن ظللتم تفكّرون دوماً في حال المستقبل

— أهو خير أم شر ، سعادة أم حزن ؟”

ثم التفت إلى وين شي قائلاً:

“ هيا .. هيا هذا الشيشونغ سيعزمك على بعض الخمر —آه، لا، أقصد بعض الشاي . 

زلّ لساني فقط.  

لا تخبروا الشيفو بما قلت .”

بعدها غمز لتشوانغ يي وتابع :

“ شيشونغ الأكبر ، الحساب عليك ...”

ثم التفت إلى بو نينغ :

“ أيها الخالد العظيم ، ما رأيك أن تتكهّن لنا هذه المرّة : 

أي دار شاي عند سفح الجبل سيوفّر لنا أكبر قدر من المال اليوم ؟”


وسط جلبة من التوبيخ والممازحة ، ضحك بو نينغ ولم يذكر شيئاً آخر


……


وين شي —- نظر إلى تشو شو الجالس متربعاً في وسط المصفوفة ، 

وفجأة اجتاحه شوق لرؤية ذلك الشيشيونغ 

الذي كان كثير الشجن ؛ ليتساءل هل توقّع منذ زمن بعيد شيئاً كهذا ، 

وهل تنبّأ بالمشهد الذي يتكشّف الآن أمامه …..


وما إن خطرت هذه الفكرة في ذهنه ، حتى هبّت الرياح 

لتذرّي الرماد بجانب قدمي تشو شو نحو أخاديد رمز الـ يين-يانغ

و انبثق نور ذهبي يخترق الأخاديد كجداول ماء ، 

كأن أحدهم يرسم الخطوط بفرشاة


وحين وصل النور إلى نهايته ، تحرّك تشو شو— الذي ظل 

رأسه للاسفل طوال الوقت —


انحنى إلى الأمام ، يفرك عينيه بكفّيه كأنه استيقظ لتوّه من سبات طويل


ربما حدث ذلك بعد أن احترقت اللفافة المصوّرة وتحولت إلى رماد : إذ غشيه انعكاس من الماضي


و الان يرتدي رداء سماوي طويل ، وشعره الطويل مرفوع 

بدعامة غصن مكسور من أحد أشجار الجبل


انسدل طرف شعره للأسفل ، وبسبب انحناء جسده انتشر 

كالحبر فوق كتفيه النحيفين


حتى ملامح وجهه تغيّرت بعض الشيء



الدهشة شلّت تشانغ لان وتشانغ يالين—اللذين ما زالا ساجدين على الأرض


ناداه من غير وعي:

“ شياو شو!”


فأدار الجالس في مركز التشكيلة نظره نحوهما


لم يكن قد استيقظ تماماً بعد ، ولم يألف الضوء المتسلّل 

من مدخل الكهف ، لذا كانت عيناه نصف مغمضتين ، 

وعلى وجهه لمحة من الارتباك والتوهان


لكن حتى في تلك الحالة ، لم يستطع إخفاء طبيعته الهادئة المسالمة بالفطرة


فمجرد نظرة منه كانت كافية لبث هالة مغايرة تماماً


وربما لم يكونوا مستعدين لتصديق ذلك من قبل ، لأنهم 

لطالما رأوا المراهق الذي كبر أمام أعينهم مختلفاً كلياً عن 

لاوزو المصفوفات بو نينغ ، وظنّوا أن لا رابط بينهما


لكن الآن ، حتى هم بدؤوا يصدّقون… ولو قليلاً


فإنّ تشو شو الحالي كان… مختلفاً تماماً


أشبه بناسك جبلي انقطع عن العالم منذ زمن بعيد ؛ 

غارق في سبات ألف عام ، ثم نهض من أحلامه في هذه اللحظة بالذات


وفي النهاية —-وين شي وشيه وون هما من أخرجا 

الأخوين تشانغ من ذهولهما


تشو شو… أو بالأحرى ، بو نينغ رفع بصره نحو وين شي وشيه وون


لمحة من الدهشة عبرت عينيه ، لكن سرعان ما تبدلت بتيار عميق من المشاعر


في هذه اللحظة ، كان في عينيه أكثر مما يُحتمل ، 

حتى غدت مليئة بالدموع ، و تشعّان بضوء الشمس المتسلل إلى الكهف


عبس بحاجبيه وأرجع رأسه إلى الخلف وهو يرمش بعنف عدة مرات


ثم ضحك ضحكة خفيفة جداً


لكن تلك الضحكة بدت أشبه بتنهيدة —تنهيدة تحمل ثِقَل ألف عام


اعتدل واقفاً ؛ حتى قامته بدت أطول بفعل الانعكاس


ثم توجّه نحو شيه وون، وانحنى أمامه بعمق، يديه 

مقبوضتان باحترام، وقال بصوت مبحوح :

“ شيفو…”


كان صوته مبحوح للغاية


من جانب، بدا شبيهاً بتشو شو


ومن جانب آخر، كان أشبه بصوت شخص لم يتكلّم منذ زمن طويل، 


فاختنقت حنجرته بكمٍّ هائل من الكلمات التي لم يعرف من أين يبدأ بها


توقف يفكر طويلاً ، ثم اختصر مشاعره ببساطة قائلاً:

“ ألف عام… ليست سوى حلم ”


تأمّل وين شي هيئته ، وإذا به يفقد القدرة على النطق للحظة

وبعد صمت طويل ، سأل بصوت خافت :

“ هل كان هناك من يراقب هذا المكان طوال الوقت ؟”


بو نينغ لم يستقيم من انحناءه بعد ، وصوته جاء مكتوماً بعض الشيء


لكن وين شي فهم السبب : ذلك الشيشيونغ شديد 

الحساسية لم يجرؤ على الوقوف باستقامة لأن عينيه قد احمرّت بالفعل


مضى وقت طويل حتى أجاب بو نينغ:

“ ليس كذلك . كنا هنا طوال الوقت .”


: “ كنا ؟” قال وين شي بدهشة ، ملقياً نظرة خاطفة على شيه وون و سأل :

“ ماذا تعني بـ’كنا’؟ هل تقصد…”


بو نينغ:

“يوجد أيضاً تشونغ سي وتشوانغ يي. كلاهما هنا. 

عندما أنشأت هذه المصفوفة قبل سنوات طويلة ، فعلت 

ذلك بدافع شعور غامض راودني ، أنّه ربما سيأتي يوم نلتقي 

فيه مجدداً بعد ألف عام …. 

لم أتوقّع…”


{ لم أتوقّع أن يحدث الأمر تحت هذه الظروف—أفَيُعتبر هذا شؤماً أم بركة ؟ }


في أيام شبابه الجاهل ، كان يشعر بفخر عظيم بموهبته 

الفطرية في التنبؤ 


اعتقد أنّها هبة من السماء ، 

تعني أنّه شخص متفرّد بين بحر البشر ؛ 

تعني أنّه قادر على إنجاز عظائم الأمور ، وحمل أعباء جسام ، 

وترك بصمته في سجلات التاريخ


لكن بمرور الزمن أدرك أن الأمر لم يكن هبة في الحقيقة


أو على الأقل… لم يكن هبة خالصة


فالكلّ يقول إن جميع الكائنات عرضة للفناء ، 

وإن جميع الكائنات تمرّ بالمعاناة ، 

لكن قلة قليلة اختبرت تلك الحقيقة أبكر وأعمق منه


في طفولته ، قبل أن يتعلم كيف يُغلق مساراته الروحية ، 

كان يرى مصير الهلاك يلوح أمامه بمجرد حديثه مع أحدهم


أحياناً كان بصره يمتلئ بالدماء


وأحياناً أخرى كانت تطارده صور للموت


لم يستطع أن يميّز ما هو حقيقي وما هو وهم ، 

فكان يرتاع كثيراً ويصرخ فجأة حالما تتراءى له تلك المشاهد

ومع تكرار الحوادث ، صار كثيرون يلقبونه بـ”المجنون”—

فقد ينقلب جنونه عليهم في أي لحظة


غرق وقتاً طويلاً في دوامة من الضباب والتوهان


وكأنّه صار مجنوناً بالفعل، لمجرّد أنّ الجميع ظلّوا يردّدون ذلك


و لكي لا يثير كل ذلك النفور منه ، علّم نفسه كيف ' يتماشى ' 

فإذا قال الأطفال الآخرون عن شيء إنه شبح ، قال مثلهم؛ 

وإذا قالوا إنه خالد ، قال مثلهم


حتى لو رأى بعينيه ما يخالفهم تماماً ، فإنه يصمت


وبالتدريج ، كبَت قدراته في أعماقه ليذوب وسط الجموع


إلى أن أُرسل إلى جبل سونغيون



كان يرى شيفو الخاص به كخالدٍ سماوي ، 

وإذا كان قادراً على أن يُصبح تلميذ لخالد ، 

فهذا يعني أنّه لم يكن بذلك القبح بعد كل شيء 


في البداية ، ظل متمسكاً بالسلوكيات التي اعتادها قبل أن يصل إلى الجبل ، 

يسير مغمض العينين مع ما يقوله الآخرون بلا تفكير

حتى قال له تشين بوداو ذات يوم :

“ إن كنت حقاً هكذا… فلماذا جئت إلى هنا أصلاً ؟”


بعد ذلك، تعلّم كيف يتعايش بانسجام مع بنيته الروحية


بدأ يدرس بجدّ فنون العِرافة و المصفوفات ،،،

وبذل قصارى جهده في استخدام مواهبه بطريقة صحيحة، 

حتى لم يعد مجرّد مجنونٍ يفزع من كل صغيرة وكبيرة


صار لطيفاً ، مهذب ، متواضع ومتسامح


صار قادراً على التنبؤ بما إذا كان حدث ما سيكون مباركاً أو مشؤوماً ، 

بل إنّه مرّ بوقتٍ اعتقد فيه أنه قادر على إدراك ' قانون السماء '


لكنّه أدرك لاحقاً أن قانون السماء متقلّب بطبيعته


فمجرد أنّه يستطيع أن يتوقع حدثاً ما، لا يعني أنّه سيتمكّن 

من معرفة ما يليه


ومجرد أنّه يستطيع منع واقعةٍ ما، لا يعني أنّه لن يُشعل 

سلسلة من الأحداث الأخرى، أشد تعقيداً وألماً


ومع مرور الوقت ، صار رفقاؤه يلقّبونه على سبيل المزاح بـ” المتشائم ”


وكان بالفعل كثير التشاؤم


فالذين وُهبوا بصيرة نافذة كانوا يعانون كثيراً —-

 إذ يتنبأ لهم المستقبل قبل الأوان


لا وليمة تبقى للأبد مهما علت أصوات الضحك فيها ، 

ولا برج يبقى مزدهراً إلى الأبد — فالخراب محتوم ،

كل شيء يدور في دورة ، وكل شيء يصل إلى نهايته ،


لذا ، كان يتألّم دوماً ….


أحياناً ، وأثناء حديثه مع رفقائه ، كان يغشاه حزن لا مبرر له


رغم أنّه يراهم كل يوم ، كانت تكتسحه فجأةً موجة من الشوق


وكان يعلم حينها : ربما نهاياتهم لن تكون رحيمة …..


لقد رأى أرواحاً وحيدةً وعظاماً يابسة ، لكنّه لم يعرف لمن تعود


في صغره ، كان دائماً يحاول أن يخبر وين شي والبقية كلما تنبأ بكارثة ، ويحاول أن يدفعهم لتجنّب شخصٍ ما 

أو حدث أو طريق معيّن


لكن الطرق في الدنيا كثيرة ، والبشر أكثر ——-

وتجنّب طريقٍ ما قد يعني الاندفاع مباشرةً نحو ما هو أسوأ


ولم يكن في وسعه أن يعرف ما إذا كان أسوأ ما يمكن أن 

يحدث هو بالذات نتيجة ذلك التجنّب …..


تعلّم هذا الدرس بالطريقة القاسية ، بعدما كاد يتسبب في 

جرّ رفقائه إلى عدة مآزق خطيرة


ومنذ ذلك الوقت ، توقف عن إخبارهم ———


بدلاً من ذلك ، صار يخفي الأمر في قلبه ، ويهضم مرارة 

الرؤى بمفرده ، ثم يُعِدّ سراً بعض الخطط الاحتياطية …..


في أحد الأعوام ، أثناء الشتاء ، حلّت ليلة قارسة البرودة على الجبل


جلس هو وتشونغ سي حول موقد طيني صغير ، يغليان 

الثلج المذاب ليصنعوا به الشاي


الحطب يتفرقع محترقاً في الموقد، 

بينما الماء المذاب يغلي ويتصاعد بخاره الأبيض الكثيف من ثقب الغطاء


اقترب هو من الموقد ليدفئ يديه ، بينما تشونغ سي يقول 

شيئاً ما، ثم ضحك بأعلى صوته


صادف أن كان وين شي مارّاً ، فمدّ رجله ليسند تشونغ سي 

قليلاً ، لكنه انتهى به المطاف ساقطاً أرضاً


وسط تلك الأجواء المفعمة بالحياة ، رأى بو نينغ فجأة رؤيا


سمع صوتاً يقول ——- :

“ في زمن بعيد ، كان هناك جبل يُدعى سونغيون ،  

وقد سكنه أفراد من رجالات الماضي ،

لكن أولئك الأشخاص غدوا أسماء بالكاد تُذكر في الكتب ، 

وذلك الجبل لم يعد له أثر ”


تلك كانت تقلّبات الحياة —الماضي يتبدّد كدخان


غمره الحزن وهو يشهد حتمية التغيّر


ثم رأى جبل سونغيون، لكن مظهره اختلف عمّا كان عليه


لسببٍ مجهول ، غطّى ضباب أسود بحيرة تشينغشين التي تتربّع في حضن الجبل


بدت أشبه بمستنقع موحل، وفي داخل الضباب ترقد عدّة 

جثث شاحبة الملامح


لم يستطع تمييز هويّاتهم ، ومع ذلك اجتاح قلبه برد شديد


ورأى أيضاً كهف في الجهة البعيدة من الجبل ، الكهف الذي اعتاد التأمل والتفكر فيه


كان جالساً فيه متربع الساقين ، كما يفعل دائماً —- و على 

الجدار ، معلّقة خمس لوحات، لكل تلميذ و الشيفو ،

تحلّقت حوله أرواح تشكيل لم يسبق له أن رآها من قبل ، 

وكانت تشلّ حركته بالكامل …


كأنّه عالق في ذلك المكان ، غير قادر على الفكاك


لكن ذات يوم ، أضاء مدخل الكهف فجأة ، كما لو أنّ شخصاً 

أبعد النباتات المتشابكة التي تغلق مدخله


بعد ذلك، انحنى شخصٌ ما ودخل الكهف


حين أزيحت تلك النباتات المتدلية ، هبّت نسمة رياح من الخارج


وما إن شعر بتلك الحيوية المنتظرة طويلاً ، حتى فتح عينيه فجأة


وفي تلك اللحظة ، أدرك بطريقة ما أنّ ألف عام قد مرّت ، 

وأنّه على وشك لقاء وشيك وُلد من فراقٍ طويل وزوال الحياة ——-


بعد أن شهد تلك الرؤيا ، أنشأ مصفوفة في الكهف


كان يأمل ألا يُستخدم المصفوفة أبداً ، لكن السماء اعتادت أن تعبث به، 

وجميع أسوأ الاحتمالات تحققت بالفعل


وفي يوم موته الوشيك، بدأت المصفوفة تعمل تدريجياً


لم يعد يذكر أي يوم كان، ولا أي شهر أو عام


كل ما بقي في ذاكرته هو جبل سونغيون، والغيوم السوداء 

التي غطّت قمته، والنباتات الذابلة، كأنّه صار مكاناً للأشباح


وبصوتٍ عاصف ، أقامت المصفوفة حاجزاً وأخفت المكان 

الذي كان يوماً ما بيتهم


اثنا عشر روحاً جبليّاً للتشكيل جلسوا ليشكلوا دائرة تحرس المنطقة المخبأة


أما هو —— في الكهف الذي لم يعد يرى فيه سماءً مرصّعة بالنجوم ، جلس برأس مطأطأ ، وقسّم روحه إلى نصفين


نصفٌ أُرسل إلى دورة التناسخ


والنصف الآخر تُرك وراءه ليدعم المصفوفة العظيمة


كل شيء كان كما تنبأ به في الرؤيا


لم يبقَ سوى اختلاف واحد : لم يكن يعلم حقاً إن كان 

صديق قديم سيزيح الستار عن تلك النباتات المتدلية بعد 

ألف عام ، ويجعل الكهف يرى النور مجدداً


قامر على الحياة والموت ، و وضع رهانه الكبير


راهن أنّه سيتمكّن من الجلوس في ذلك الكهف المظلم بلا حراك ،

بينما تمرّ أمامه سنوات لا تُحصى، و…


ينتظر وصول الرياح ….


يتبع

  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
Fojo team

عدد المقالات:

شاهد ايضا × +
إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق

X
ستحذف المقالات المحفوظة في المفضلة ، إذا تم تنظيف ذاكرة التخزين المؤقت للمتصفح أو إذا دخلت من متصفح آخر أو في وضع التصفح المتخفي