Ch21 الخطاف الخلفي
مهما طالت الولائم ، لا بد أن تنتهي ….
بعد إجازة دامت أسبوعين ، حان وقت عودة لانغ فنغ إلى أمستردام ،
حتى الليلة السابقة لسفره ، لم يسمح تشو تشيتشن لنفسه
بالتفكير جديًّا في مسألة الفراق ،
فالوقت الذي قضياه معًا كان ممتلئًا على نحوٍ لم يترك
فراغًا للتفكير — سواءً في ترتيب الأيام أو في إحساسه
الداخلي — إذ كان عالمه كله مملوءًا بهذا الرجل الذي أمامه ،
وربما أيضًا لأنه ، في قرارة نفسه ، لم يكن يريد أن يتخيّل ما
سيحدث حين يعود لانغ فنغ إلى بلاده ،
ورغم أن حركته ما زالت محدودة بعد العملية ،
فإن لانغ فنغ حرص على أن يملأ يومهما منذ لحظة
استيقاظهما حتى المساء
كان ينهض أولًا ليُعدّ الإفطار ،
ثم يساعده على أداء تمارين التعافي التي أوصى بها الطبيب ،
و يتنقّلان في أرجاء الشقة بخطًى بطيئة ومنتظمة ،
وأحيانًا في الصباح الباكر ، كانا يخرجان إلى الأسفل يتمشيان قليلًا
يسكن تشو في مجمّع قريب من المطار ، قليل السكان ،
وفي الليل لا تُرى الأنوار إلا في ثلث الشقق تقريبًا ،
وفي الصباح ، لا يُرى سوى مَن يخرج لتمشية كلبه بين الحين والآخر
كان تشو يلفّ نفسه بمعطفه السميك ويمشي بخطوات ثابتة ،
بينما لانغ فنغ يمسك بيده متظاهرًا أنه يسانده ،
مع أن يده لا تبذل جهدًا كبيرًا ، بل تتمسك بيده بصلابة ودفء
وفي أكثر من مرة ، كان تشو هو من يسحب يده أولًا ،
وحين يسأله لانغ فنغ عن السبب ، كان يجيب بأنّه ربما
سيلتقي بأحد معارفه من الجيران أو الزملاء ،
لكن حين فكّر في الأمر لاحقًا، أدرك أنّه لم يكن معتادًا على هذا القرب الحميمي
كأنّ الحياة التي كافح طويلًا ليحصل عليها — حياة الحرية
والاتساع والنور — جاءت إليه فجأة عبر طريق مختصر ،
حتى بدت له هذه السعادة كأنها سعادة سُرقت ،
لو سُئل تشو تشيتشن قبل هذا الوقت عن معنى حياة
التعافي بعد العملية ، لأجاب دون تردد بأنها مملة وفارغة
فهو بطبعه رجل اجتماعي ، يحبّ اللقاءات والأصدقاء
والمطاعم والضوضاء الخفيفة للحياة اليومية
لكن هذه المرّة ، كان الأمر مختلفًا تمامًا عمّا عاشه قبل ثلاث سنوات
ففي هذا الأسبوع ، تكفّل لانغ فنغ بكل ما يحتاج إلى جهد أو حركة ،
حتى أنه جلب حقيبة كبيرة من فندق يوي غو فيها بعض أغراضهما ،
وفي بضعة أيام قصيرة ، أضفى على حياتهما المشتركة
طابعًا من الدفء ،
كأنها حياة مرتّبة بعناية ، ذات طقوس صغيرة جميلة
كان هو صاحب الفكرة ، لقد قطع نصف بكين ليطلب دجاج
بكين المشوي من مطعم 1949 الشهير ،
قائلاً إنه يريد أن يستعيدا أجواء لقائهما الأول ،
كما طلب مجدداً وجبة ألمانية ، لكنها لم تكن لذيذة كثيرًا
أما زجاجات البيرة الستة التي أحضرهـا لانغ فنغ يوم زار
المستشفى ، فلم تُفتح منها سوى واحدة في تلك الليلة ،
إذ كان اهتمامهما آنذاك في مكان آخر تمامًا ،
والزجاجات الخمس الباقية وُضعت في ثلاجة تشو تشيتشن،
ثم شرب منها على مهل خلال الأيام التالية
حين يشربان ، كانا يشاهدان فيلمًا كوميديًا ، فيمدّ تشو
ذراعه ويعانق كتفي لانغ فنغ، ثم يميل الأخير عليه ويبادله
قبلة تحمل طعم البيرة ورائحة الألفة
وبعد أسبوع ، ذهب تشو تشيتشن للفحص الدوري —-
قاد لانغ فنغ سيارته الزرقاء الداكنة تسلا وأوصله إلى المستشفى ،
وحين وصلا ،
خطر في بال تشو سؤال لم يجد له جواب :
{ هل ينبغي أن يرافقني لانغ فنغ إلى داخل العيادة ؟ }
التفت إليه ليقول شيئ ، لكن لانغ فنغ تصرّف بطبيعته
المعتادة : أخذ الملف من المقعد ، ودار حول السيارة
ليفتح له الباب ، حركة سلسة متقنة لم تتخللها لحظة تردّد واحدة ،
ولم يُتح له المجال للكلام
فاستسلم تشو تشيتشن للأمر ، تاركًا له أن يرافقه —
{ ما دام قد قضى معي الليالي في المستشفى من قبل،
فليست زيارة الطبيب أمرًا يحتاج إلى إخفاء }
أما الممرضات، فكنّ على الأرجح قد استنتجن كل شيء من قبل
ولم يعد لديه، في النهاية، ما يرغب في إخفائه
كانت تلك الأيام كفيلة بأن تجعل تشو تشيتشن يركّز تمامًا
على الحاضر ،
وكأنّ العالم خارج هذا الشقة لم يعد يعنيه ،
لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها ، أنّ ما ينتظرهما هو
علاقة عن بُعد —— ، بل عابرة للحدود ،
و لقاءاتهما فيها لن تتجاوز — في أفضل الأحوال — أربعة أو
خمسة أيام في الشهر ——
هذا الواقع أشبه بسحابة مطر ثقيلة تظلّل رأسه ،
أو كمنبّهٍ مزعجٍ يرنّ في الخامسة صباحًا مذكّرًا إياه بما لا يريد سماعه …..
وفي الأيام السابقة ، ظلّ تشو يؤجل التفكير في هذا الأمر
كما يؤجل إيقاف المنبّه كل مرة ،
حتى جاء مساء اليوم السابق لرحيل لانغ فنغ ——-
تلك الليلة ، بسبب صعوبة تقلبه في السرير ، لم ينم جيدًا ،
ولم يستيقظ إلا بعد التاسعة صباحًا
لانغ فنغ قد استيقظ قبله ، وفي تلك اللحظة كان يجلس في
صالة المعيشة يوضّب حقائبه
لم يكن اليوم موعد رحلة عمل له، بل رحلة عودة إلى
أمستردام بصفته راكبًا عاديًا
وعند هذه اللحظة بالتحديد ، رنّ المنبّه الذي كان يؤجله في
داخله ، رنينًا واضح لا مهرب منه
قال تشو وهو يقف عند باب الغرفة ، لا يرتدي سوى شورت قصير ، متكئًا على الإطار الخشبي :
“ يبدو أننا بحاجة لأن نتحدث عمّا سيحدث بعد الآن "
رفع لانغ فنغ رأسه وابتسم له قائلًا:
“ صباح الخير ”
كان لانغ منشغلًا بشيء على اللابتوب ، وما إن انتهى حتى أشار له أن يقترب :
“ تعال وانظر ”
اقترب تشو ببطء ووقف خلفه ،
حدق في شاشة اللابتوب ،
رأى جدول مواعيد لانغ فنغ ،
وقبل أن يتمكن من قول شيء ، بدأ لانغ فنغ يشرح :
“ اتصلت بقسم الجداول في الشركة وسألتهم إن كان
بالإمكان تعديل المناوبة ، لكن هذا الشهر لا يمكن ،
لأن هناك اجتماع مهم مع بعض الرحلات ،
ولن أكون حرًّا قبل نهاية الشهر . آسف حقًا ….”
ثم أضاف بعد أن قلّب الصفحة :
“ أما الشهر القادم ، فسيكون لدي في بكين تسعة أيام إجمالًا ،
منها أربعة سأكون فيها مضطرًا للنوم والتعافي بين الرحلات ،
لكن الخمسة الأخرى يمكنني أن أكون معك فيها بالكامل .”
جدول لانغ فنغ مكتوب بالإنجليزية ، ملوّن بعناية :
الأزرق لرحلات الطيران التي تحمل أرقام الرحلات ،
والبنفسجي لأيام الراحة الإلزامية ،
والأحمر للاجتماعات والمهام الرسمية ،
أما البرتقالي فهو الوقت الذي خصّصه لبكين — وبه
ملاحظة صغيرة كتب عليها : [ Personal Time ]
أي وقت شخصي
لم تكن هناك كلمة حبّ واحدة في تلك الخانة ،
لكن تلك العبارة القصيرة كانت أثقل وقعًا من أي اعتراف ،
' وقتك الشخصي ' يعني جعلتني جزءًا من حياتك دون تردد
— في اليوم العاشر فقط من علاقتهما ، كان لانغ فنغ قد
أفسح له مكانًا حقيقيًا في جدول حياته
تذكّر تشو في الأيام الماضية أنه سمع لانغ يتحدث
بالهولندية عبر الهاتف، أو يكتب على اللابتوب ، لكنه لم
يسأله يومًا عمّا يفعل
أما الآن ، فقد فهم — كل ذلك كان استعدادًا لهذه اللحظة ،
كان لانغ فنغ صادقًا مئة في المئة ، عمليًّا مئة في المئة ،
يخطط للأيام القادمة بعناية واهتمام لا يتركان مجالًا للشك
عندها أدرك تشو تشيتشن أن خطأه لم يكن في قلقه ،
بل في أنه تأخر كثيرًا في طرح السؤال ،
كان يفترض أن يتحدث معه منذ البداية ، بدل أن يعيش
أيام من التوتر بلا داعٍ
لقد كان لانغ فنغ على حقّ حين قال له في المستشفى :
“ أنا دائمًا سأفاجئك بإجابات لا تتوقعها "
وحين لاحظ صمت تشو ، التفت إليه لانغ فنغ وسأله بنبرة
جادة ، كأنه في اجتماع عمل ينتظر رأي الحضور :
“ هل لديك أي اقتراح ؟”
كان ينظر إليه بعينيه الواسعة المليئة بالرجاء والاهتمام ،
وكأنّ مصير العلاقة برمّتها يتوقف على الإجابة القادمة ،
ابتسم تشو تشيتشن ، ثم انحنى قليلًا ،
و عانق رأس لانغ فنغ وكتفيه من الخلف قائلاً :
“ ليس لدي أي اقتراح ، الأمر رائع ، مئة من مئة .”
لانغ فنغ: “ أعلم أن هذا الترتيب ليس مثالياً تماماً ،
لكنه حلّ مؤقت .
و خلال الأشهر الثلاثة القادمة سنحاول أن نقضي أكبر قدر
من الوقت معاً ، وبعد أن تبدأ عملك وتنشغل ،
سنجد طريقة أخرى .”
أومأ تشو تشيتشن برأسه :
“ تلك الأيام الأربعة التي ستكون للنوم ، تعال ونم عندي .
لنُلغِ حجز غرفة فندق يوي غو ”
ابتسم لانغ فنغ : “ الإقامة على نفقة الشركة ، فلنتركها كما هي ،،،
متى رغبت بالمجيء ، ستكون الغرفة بانتظارك ”
تذكّر تشو تشيتشن عندها الأيام التي قضياها في الفندق،
وشعر ببعض الحنين، ثم قال مبتسمًا :
“ ما زلتَ مدينًا لي بأربع مرات !! ”
لانغ فنغ: “ بل مرتين فقط ”
ردّ تشو تشيتشن: “ اههخ مرتين حسناً
ومتى ستسدّ الدين إذن ؟”
أنزل لانغ فنغ نظره إلى شاشة اللابتوب ، وتفقّد جدوله
سطرًا سطرًا ، ثم رفع رأسه وقال:
“ أقرب وقت ممكن هو الثالث من الشهر القا—”
لكن تشو تشيتشن لم يدعه يُكمل ،
فقد دفع اللابتوب جانبًا بيده ،
ووضع كفَّه على كتف لانغ فنغ ، ثم انحنى ليقبّله ~~~
يتبع
تعليقات: (0) إضافة تعليق