القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر الاخبار

Ch44 احتراق القلب

Ch44 احتراق القلب




أن يشعر المرء بالضيق والانكسار أمام مثل هذا الموقف أمر طبيعي تمامًا ،

لكن القول إن فو نان آن سيتحطم بسبب بضع كلمات ، 

فذلك ضربٌ من السخرية ، 


فو نان آن لم يفقد بصره البارحة ، ولم تكن هذه المرة 

الأولى التي يُقال له فيها أنه غير مناسب ،


بعد أن تعثر طويلًا في طريق الحياة ، تعلّم أن يتصالح مع نفسه


وفوق ذلك ، فإن تشي تشاو انتظره طويلًا ، وأعاد مرارًا 

وتكرارًا إعلان حبه له، فقط ليُثبت له أن الحب لا يتغير 

بسبب أمور

 خارجية

فكيف له أن يصدق الآخرين ويُكذّب حبيبه ؟


صحيح أن فو نان آن القديم قد تراجع ذات يوم بسبب عينيه ،

لكن تشي تشاو كان شخصًا شجاعًا وثابتًا إلى أقصى حد ،

و قلب فو نان آن كله قد اشتعل به وتوهّج منذ زمن ،

وكان يؤمن بأن مشاعرهما لا يمكن أن تضعف ،


رد فو نان آن بعد لحظة قصيرة من الصمت ، 

بنبرة هادئة وثابتة : “ ما قلته صحيح أنني لا أستطيع فعله ...”


أصابعه تمسك بالعصا بقوة ، وثيابه ملطخة بغبار الطريق من سقوطه ،

ورغم أن رؤيته ضبابية ، فإن ملامحه بقيت ساكنة وحازمة


: “ لا أستطيع أن أضع الدواء لتشي تشاو ، 

ولا أن أسانده حين يمشي ، 

أشعر بالندم والعجز ، صحيح ...

لا أستطيع أن أقدّم له كثيرًا من الرعاية الجسدية ، وهذا في 

الحقيقة نقص فيّ ،

لكن هذا لا يعني أن حبنا أصبح أقل .

لا حبّي له، ولا حبّه لي ...”


الحبيب يعتني بمن يحب لأنه يحبه ،

لكن الحب ليس مجرد رعاية جسدية ،

ولا يعني العجز عن تقديمها أن الحب ناقص ، 

فلو كان المطلوب هو العناية المهنية ، لكان من السهل استئجار ممرّضة

لكننا نبحث عن الحب لأن ما نريده ليس الخدمة ،

بل تلك المرافقة الروحية ،


الحب هو موطن الضعف ودرع الحماية في نفس الوقت ،

وفو نان آن — لأنه أحبّ تشي تشاو ، فقد اندفع نحوه رغم 

كل ' ما لا يستطيع ' فعله ،

يتعثر ، ويسقط ، وينهض من جديد ،

كان يعرف أن ما يمكنه تقديمه محدود ،

لكنّه مع ذلك أراد أن يمدّ لتشي تشاو يده —

يد دافئة ، ثابتة ، حين يحتاج إليها


وقد مدّها ،

وتشي تشاو هو من أرادها


بعد أن انتهى من حديثه مع مايك ، دفع فو نان آن الباب ودخل الغرفة


فالحب شأن بين شخصين ،

ولم يكن مستعدًا لأن يضيع ثانية واحدة في تفسيره لغريب


ناداه بهدوء :

“ تشي تشاو ”


وفي اللحظة نفسها ، لمعت عينا تشي تشاو:

“ أستاذ !”


: “ همم، أنا ”

تتبع فو نان آن صوته حتى وصل إليه ،

أسقط عصاه ، ومدّ كلتا يديه يتحسس جسده برفق


حين سمع الصوت المكتوم لارتطام تشي تشاو وهو يغمى 

عليه ، كاد قلب فو نان آن يتوقف من الرعب


أما الآن ، وهو يتحسس كل جزءٍ من جسده ، 

و يشعر بحرارته الحيّة تحت كفّيه ، ويصغي إلى النبض 

القوي يتدفق في عروقه ، ما زال الخوف العالق في صدره يضرب بقوة


“… من الجيد أنك بخير "

تمتم فو نان آن بصوتٍ منخفض ، 

وأصابعه ترتجف بلا توقف


غصّة حادّة ارتفعت في أنف تشي تشاو ، فمدّ ذراعيه ليعانق فو نان آن بشدّة


“ أنا بخير ، أستاذ… بخير الآن ”


قالها مرارًا يطمئنه ،

لم يجرؤ أن يتخيل كيف تمكّن فو نان آن من الوصول إليه


كان مغطّى بغبار الطريق، وعلى جبهته كدمات متفرقة


“ لحظة ، ملابسي ما زال عليها غبار…”


تذكّر فو نان آن فجأة ، وحاول أن يحرّر نفسه قليلًا ،

لكن تشي تشاو رفض أن يتركه ،

بل عانقه بقوة أكبر ، وأخفى رأسه في صدره قائلاً بصوت مبحوح مكتوم :

“ لا بأس يا أستاذ ، دعني أُعانقك قليلًا فقط ”


و دفن رأسه في حضنه ، 

وصوته يرتجف قليلاً :

“ أنا بخير الآن… أريد فقط أن أُعانقك "


تشي تشاو لا يزال ضعيفًا بعد مرضه ،

ونبرته الخافتة امتدت مثل خطافٍ صغير لا يُقاوم ،

وفو نان آن لم يرغب أن يقاوم ،

فمن ذا الذي يمكنه أن يرفض معانقة من اشتاق إليه حتى الألم ؟


خلع فو نان آن معطفه المغبرّ بسرعة ورماه جانبًا ،

ثم أحاط تشي تشاو بذراعيه ، و يداعب شعره قائلاً:

“ ممم عانقني كما تشاء… أنا هنا معك .”


تشي تشاو بصوت خافت :

“ وأريدك أن تقبّلني ”


ضحك فو نان آن بهدوء ،

ثم مال في اللحظة نفسها ،

وقبّل أعلى رأسه دون أدنى تردّد


كانت تصرّفاتهما حميمية إلى حدٍّ بدا وكأن العالم كله اختفى ،

حتى الجو في الغرفة غدا ساكنًا وهادئًا


مايك — الذي كان قبل لحظات يصرخ ويثير الجدل ، 

بدا شخصًا مثيرًا للشفقة والسخرية ….

{ — وماذا لو كان لدى فو نان آن كل ذلك “العجز ”؟

ألا يزال تشي تشاو معجب بـ فو نان آن وليس أنا ؟ }


تجمّد مايك في مكانه ، لا يعرف ماذا يفعل


ولمّا رأى فو نان آن وتشي تشاو يتبادلان الحنان بهذا القرب ، 

سعل سعلتين على نحوٍ متصنع ومحرج


حينها فقط تذكّر الاثنان وجوده 


عبس تشي تشاو ورفع رأسه على مضض من حضن فو نان

 وكلّ ملامحه تنضح بالانزعاج

“ لماذا ما زلت هنا ؟ 

ألم أقل لك أن تغادر ؟ 

لماذا تُصرّ على إزعاجي أنا وحبيبي ؟”


في الحقيقة مايك لم يقدم أي مساعدة حين أُغمي على تشي تشاو

و الذي أسعفه كان المشرف بعدما رأى رسالة فو نان آن


أما مايك ، فقد وصل بعد أن استعاد تشي تشاو وعيه ، 

متقدّمًا على فو نان آن بدقائق معدودة فقط ——

وحين جاء فو نان آن ليطرق الباب ، كان تشي تشاو في 

خضمّ طرده لمايك ، فوقع لقاؤهما عند العتبة


و الآن وقد أصبحوا وجهاً لوجه ، بدا تشي تشاو بارد النبرة حادّ الملامح :

“ علاقتي بحبيبي ممتازة ، ولا تحتاج إلى قلقك ”


الجدران في الغرفة رقيقة العزل ، وقد سمع تشي تشاو حديثهما كله


لو لم يكن مقعدًا في السرير ، لخرج منذ البداية ليضع حدًّا لمايك بنفسه


فو نان آن ذو طبعٍ هادئٍ متسامح ، لكن تشي تشاو لم يكن مثله ؛

لم يستطع احتمال أن يُؤذى من يحبّه مجدداً


“ سواء كنا مناسبَين أم لا، ما شأنك أنت ؟ 

من تكون أصلًا بالنسبة لي؟”


ظلّت ذراعا تشي تشاو ملتفتَين حول خصر فو نان آن،

لكن كلماته جاءت قاسيةً لا رحمة فيها

و استدعى الممرضة مباشرةً ، وطلب منها أن تُخرج مايك 

من الغرفة لأنه يُزعج راحته


كان صوت مايك فعلًا مرتفع ومزعج ، وقد أثار تذمّر 

المرضى في الجناح منذ قليل


الممرضة التي كانت قد همّت بالدخول لتنبيههم بلطف،

ما إن سمعت طلب تشي تشاو حتى تغيّر وجهها،

وقالت بصرامة: “ سيدي ، هذه غرفة مريض ، وليست مكانًا للجدال . 

أنت تزعج المريض ، تفضّل بالخروج فورًا ”


قال مايك على عجل محاولًا التبرير :

“ أنا لست كذلك ، كنت فقط…”


مايك لا يزال يحاول التبرير ، لكن كلماته خرجت متقطعةً وغير مفهومة ،

و وجهه قد شحب بالفعل من شدّة التوتّر


وقبل أن يتمكّن من قول المزيد ، تدخّل حارسان ضخمان 

من أمن المستشفى ،


قال أحدهما بصوت صارم: “ كفى حديثًا . نحذّرك للمرة الأخيرة ،

إن عدت مجددًا ، سنستدعي الشرطة ونقدّم بلاغًا عن 

مضايقة المريض .”


كان الحارسان أطول قامة وأقوى بنية من مايك ،

وقد بدا عليه الخوف الحقيقي هذه المرة —


خوف من قبضتهما المحكمة ، وخوف أشد من فكرة أن 

يُبلّغ عنه بالتحرّش


و سُحب بقسوة من ذراعيه ، وتلاشى سريعًا في نهاية ممرّ 

المستشفى الطويل ،

مُخلِّفًا وراءه صدى خطواته البعيدة


غادرت الممرضة ،

فعاد الهدوء إلى الغرفة التي كانت تضجّ قبل لحظات بالجدال ،

ولم يبقَى فيها سوى تشي تشاو وفو نان آن


حين دخلت الممرضة قبل قليل ،

كان فو نان آن قد خفّف من عناقه قليلًا خشية أن يثير الانتباه


لكنّهما الآن وقد خلا لهما المكان من جديد،

لم يستطع تشي تشاو كبح مشاعره أكثر


في البداية، كان فرح اللقاء قد طغى على كلّ شيء،

أما الآن، فبمجرّد أن تذكّر الكلمات الجارحة التي تفوّه بها 

مايك ضد فو نان آن،

شعر بانقباضٍ مؤلمٍ في صدره، وحُرقة تسري في قلبه

قال بصوت خافت :

“ أستاذ… لا تبالي إلى ما قاله ذلك الشخص ...”

ثم رفع ذراعيه ليُعانق عنق فو نان ،

وقبّل شفتيه — قبلةً ناعمة مليئة بالامتنان والألم معًا


كرّرها أكثر من مرة، وكلّما فعل، ازداد نفسه اضطرابًا،

وقال بين قبلاته:

“ لا تهتم له … إن كنّا مناسبَين أم لا، فذلك ليس من شأنه ...

لا أحد يملك أن يحكم بيننا ، لا أحد… سوى أنا "

و همس بثقة صافية من أعماقه :

“ وأنا أقول إننا أنسب اثنين في هذا العالم .”


ابتسم فو نان آن وأجاب بابتسامة :

“ أعرف "


فالحبّ في النهاية أمر يخصّ اثنين فقط

لا يقبل التدخّل ، ولا يعترف بأحكام الآخرين


مهما حاول مايك أن يزرع الشكّ بينهما،

ظلّ قلبا فو نان آن وتشي تشاو متّصلين بخيطٍ خفيٍّ من الثقة واليقين


———-



في اليومين التاليين ، 

بقي فو نان آن في المستشفى إلى جانب تشي تشاو


جسد تشي لم يتعافَى بعد بالكامل ،

ويحتاج لما لا يقلّ عن نصف شهر من النقاهة ،

لكنّ الأطباء قالوا إنّ هذه النتيجة كانت أفضل ما يمكن توقعه


الطبيب :

“ لن تبقى أي آثار دائمة ،

وذلك بفضل شبابه وقوّته ،

وقبل ذلك — بفضل اتّصال البروفيسور فو السريع بالمشرف ،

الذي ساعد على إنقاذه في الوقت المناسب .”


فو نان آن : “ لا تفعل هذا مجدداً في المرة القادمة ، 

لقد كدتَ تُخرج قلبي من مكانه ”


قالها فو نان آن ل‍تشي تشاو أكثر من مرة في غرفة المستشفى ، 

وحتى الآن ، لا يزال يشعر بخوف عالق في صدره ، 

لم يرغب أبدًا في المرور بهذه التجربة مجددًا ،


تشي تشاو : “ أعرف يا أستاذ ، أعدك أني لن أفعل ”،


رد تشي تشاو وهو يدرك تمامًا ما شعر به فو نان آن —- 

لمجرد رؤيته الكدمات التي أصابت فو نان في طريقه إليه، 

ضاق صدره ألمًا، فكيف لو تخيّل ما شعر به حين سمع أنه أغمي عليه؟


رفع تشي تشاو يده كأنه يؤدي قسمًا أمام فو نان آن، وقال:

“ بعد خروجي من المستشفى ، سأبدأ بالاعتناء بصحتي ! 

ما رأيك لو أضع توت الغوجي في ترمس وأشربه أمامك في 

مكالمات الفيديو ؟”


ضحك فو نان آن : “ اتفقنا ، سأنتظر هذا "


كانت كل لحظة يقضيانها معًا مفعمةً بالحنان ، 

لكن لحظة الفراق لا بد أن تأتي مهما طالت الألفة ،


مكث فو نان آن ثلاثة أيام ، لقد جاء على عجل دون أن يقدّم 

طلب إجازة رسمي ،

و كان هناك مرضى ينتظرونه في المستشفى ، 

ولم يكن بوسعه تجاهلهم كليًّا ،


وفي يوم رحيله ، كان تشي تشاو قد بدأ يتماثل للشفاء ، 

وتمكّن أخيرًا من الوقوف على قدميه ،


رافق فو نان آن حتى مدخل المستشفى، ووعده قائلاً:

“ حين يحلّ عيد الربيع ، سأعود إليك بكامل صحتي ،

أريد أن أعود إلى الوطن لقضاء العيد "


ربّت فو نان آن على شعره برفق : “ اتفقنا "


كان يفصل بينهما وبين العيد شهر واحد ، وقد خطط تشي 

تشاو منذ البداية للعودة إلى الوطن وقتها ، 



———


وبعد نصف شهر ، تماثل تشي تشاو للشفاء وغادر المستشفى ، 

وكان ذلك اليوم يصادف بداية الربيع حسب التقويم الشمسي ،


أرسل له فو نان آن رسالة :

[ لقد أخضرّت الضفة الجنوبية للنهر بنسيم الربيع ، 

فمتى يضيء البدر عودتي ؟ ]


كان بيت شعريّ شهير لوَانغ آنشي، وقد أدرج فو نان آن فيه 

اسميهما بذكاء 


والبيت في أصله يعبّر عن شوقٍ لعودة الحبيب في أقرب وقت


لكن لم يكن في الحسبان أن ظرفًا طارئًا سيحول دون 

عودته ، إذ واجه مشروعه مشكلة غير متوقعة


ففريق تشي تشاو كان يعمل على مشروع ' الشبكية 

الصناعية ' وبعد نجاح تطوير ' القرنية الصناعية ' مؤخرًا ، 

انبثقت لديهم أفكار جديدة جعلت المشروع الذي تعثر 

طويلاً يشهد فجأة نقطة تحوّل كبيرة ———


كان ذلك في الأصل خبرًا سارًا ، لكنه يعني أيضًا أنهم 

سيضطرون للعمل لساعات إضافية  

الأجانب لا يحتفلون بعطلة عيد الربيع ، فهي ليست عطلة رسمية لديهم


قال تشي تشاو عبر الهاتف معتذرًا مرارًا :

“ آسف يا أستاذ ، آسف حقًا ... لم أتوقع أن يحدث هذا 

التطور المفاجئ في المشروع ، 

لقد حجزت تذكرتي حتى ، وكنت أعدّ الأيام يوماً بيوم…”


فأجابه فو نان آن بنبرة هادئة مطمئنة :

“ لا بأس ، إنه مجرد عيد ربيع ، ليس أمرًا كبيرًا "


تشي تشاو : " ولكن .. "


قاطعه فو نان آن بنبرة حازمة : “ لا أعذار”


لم يكن فو نان آن رجلاً غير متفهم ، كان يعلم أن لتشي تشاو 

دراسته وطموحاته التي يسعى لتحقيقها ، 

وكان يحترم ذلك ويدعمه بكل صدق ، 

و قال له بجدية :

“ ركّز على مشروعك أولاً ، ستأتي فرص اللقاء لاحقًا ، 

فالعمر أمامنا .”


تحركت شفتا تشي تشاو ببطء ، كأنه يريد قول شيء ، 

لكنه في النهاية اكتفى بصوت خافت :

“ ممم "


بعد ذلك ، انشغل تشي تشاو تمامًا ——


كان فريق المشروع بأكمله يعملون لساعات إضافية ، 

وأحيانًا تمتد التجارب لأكثر من عشر ساعات متواصلة


ومع هذا الجدول المضغوط ، أصبح من المستحيل إيجاد وقت فراغ


و دون أن يشعرا ، أخذ الوقت الذي يقضيانه في الحديث 

يتضاءل شيئًا فشيئًا ….


فو نان آن لا يزال قلق على صحته بعد خروجه من 

المستشفى ، وغالبًا يرسل له رسائل يسأله عن حاله ، 

لكن تشي تشاو كان يتأخر في الرد عشر ساعات أو أكثر ، 

وحين تأتي رسالته أخيرًا ، لا تكون سوى بضع كلمات 

مختصرة ، تصل في منتصف الليل بتوقيت الصين


كان هذا الحال مرهقًا لكليهما


كلاهما أراد أن يجد طريقة للتوفيق بين العمل والتواصل، 

لكن الوقت لم يمهلهما


و مضى أسبوعان بسرعة خاطفة


أصبح فو نان آن لا يفارق هاتفه ، ينتظر رسالة ربما لن تأتي، 

ولا يحصل في النهاية إلا على بضع كلمات عابرة


قال له تشو آنهي ممازحًا وفي صوته شيء من الشفقة:

“ لقد أصبحتَ حبيبًا منسيًّا في الوطن ~ !”


رفع فو نان آن حاجبه وأجاب بثقة ظاهرة:

“ وما المشكلة ؟ طالما أنا راضٍ بذلك .”


لكن في أعماقه ، لم يكن قادرًا على إخفاء شعور بالعجز والشوق


مرّ الوقت حتى حلّ اليوم التاسع والعشرون من الشهر 

القمري الثاني عشر — اليوم الذي كان من المفترض أن يلتقيا فيه ——


في مثل هذا اليوم من العام الماضي ، كان تشي تشاو قد أتى 

إليه و معه عبوة من الزلابية الساخنة ، 

أما هذا العام ، فلم يبقَى إلا فو نان آن وحده ….


في مساء اليوم ، وأثناء خروجه من العمل ، تعثّر فو نان آن على الدرج ،،

و ارتطمت عصاه بقوة في مرفقه ، وانفجر ألمٌ حاد انتشر في ذراعه ،،


استغرق وقتًا طويلاً حتى تمكّن من النهوض مجددًا


كان الألم شديد ، و لا شك أن كدمةً كبيرة ستظهر لاحقًا


في تلك اللحظة ، خطر بباله تشي تشاو ، وكيف كان يعتني 

بجروحه بعناية 


اشتاق لتلك اليدين الدافئة بشدّة

لكنه في النهاية لم يخبره بما حدث — فما الفائدة ؟ 


تشي تشاو لم يكن بجانبه


أجواء العيد قد ملأت الشوارع ؛ الأضواء تلمع ، 

والأصوات تتعالى من بعيد


وبعد أن استراح قليلاً ، خرج فو نان آن ليشتري كيسين من الزلابية 


الطرق شبه خالية ، والبيوت ساكنة


سار بخطوات بطيئة نحو منزله ، محاطًا بصمت يشبه السلام


لكن — ، حين اقترب من بابه ، سمع فجأة صرخة حادة تمزّق الهدوء 


“ لِماذا ! 

فقط أخبريني لِماذا لا تعودين ! إنه العيد !”


من الصوت ، بدا أنه شاب في العشرينات يتحدث في 

الهاتف مع أحدهم


لا أحد يعرف من كان في الجهة الأخرى من الخط، 

لكن كان واضح أن الشاب مكسور القلب


و صوته مبحوح تختنقه الدموع ، وهو يقول بحرقة :

“ ثلاث سنوات ! أنتِ دائمًا تقولين إنك مشغولة ،

أعلم أنك مشغولة ، لكن ألا تستطيعين العودة حتى في رأس السنة ؟ 

أليس لديكِ وقت ولو قليل ؟”


قال الشخص في الطرف الآخر شيئًا، فارتفع صوت الشاب فجأة وهو يصرخ :

“ شوانشوان!”


“… شوانشوان .. "


ناداها مجدداً ، وصوته هذه المرة كان منخفض 

“ لماذا أغلقتِ الخط ؟ 

أحقًا الحديث معي مزعج إلى هذا الحد ؟”


بدا أنه كان يتشاجر مع حبيبته ، 

و تمتم ببضع كلمات ثم انفجر بالبكاء ، بكاءً عميق من القلب


الشجار مع الحبيب في وقت العيد لا يمكن أن يكون أمرًا سارًّا ، 

والبكاء بهذا الشكل وسط الأجواء الاحتفالية يزيد المشهد حزنًا ،


تنهد فو نان آن بهدوء ، وتقدّم نحوه ، ثم مدّ له منديل


“… شكرًا لك "


رفع الشاب رأسه ونظر إلى فو نان آن، ثم أخذ المنديل


سأله فو نان آن بنبرة لطيفة :

“ هل تشاجرت مع حبيبتك ؟”


تنفس الشاب بارتباك ، وصوته لا يزال مبحوح :

“ آسف، لا بد أنك تظنني سخيف "


رأس السنة وقت لاجتماع العائلات ، لكنه أيضًا يوقظ 

المشاعر المكبوتة ، ويكشف ما تراكم في الصدور 


تحدث فو نان آن مع الشاب لبعض الوقت


كان الشاب في حاجة إلى من يُصغي إليه ، 

لذا أفرغ ما في قلبه ، 

أخبره أن حبيبته سافرت إلى المملكة المتحدة منذ ثلاث سنوات ، 

و قد وعدته بالعودة العام الماضي ، لكن موعد العودة تأجل مرارًا ،


قال وهو يمسح دموعه:

“ لم تكن هكذا في البداية …. سافرت بعد أن ارتبطنا مباشرةً ، 

لكننا كنا متعلّقين ببعض كثيرًا ، 

كل أصدقائنا قالوا إننا الثنائي المثالي ، وأنا كنت أصدق أننا 

سنكمل الطريق معًا ،

ما الذي يمكن أن يفرّق بين حبيبين ؟ 

لكن… لا أعلم متى بدأ كل شيء يبرد .."

بصوت مبحوح :

“ صارت مشغولة فجأة ،،، لا ترد على رسائلي ولا على مكالماتي ،، 

وكلما تحدثنا، كانت تقول إنها مشغولة ،، 

لم أرغب أن أتشاجر معها ، حتى حين مرضت ، لم أخبرها كي لا أقلقها ، 

كنت فقط أريد أن أستمر معها… لكن هل يمكن أن يكون لنا 

مستقبل بهذا الشكل ؟ 

لو لم أتصل بها اليوم ، لكانت تجاهلتني ثلاثة أيام أخرى !”


ارتجف صوته وانهار بالبكاء مجدداً ، ثم رفع رأسه نحو فو نان وسأله بحرقة:

“ هل تظن أنها ما زالت تحبني ؟ 

هل تعتقد أن لنا مستقبلًا بعد كل هذا ؟”


لم يكن هذا أمرًا يمكن حسمه من طرفٍ واحد ، لذا لم يقل فو نان آن سوى:

“ آسف ….” بصوت خافت:

“ أتمنى أن تتمكنا من الوصول إلى النهاية معًا .”


الأمل دائمًا جميل ، لكن الواقع كثيرًا ما يُخلف الخيبة


ظل فو نان آن يواسي الشاب طويلاً، حتى استعاد الأخير 

بعض هدوئه وقال بترددٍ فيه بصيص من الرجاء:

“ نحن ما زال لدينا فرصة ، أليس كذلك؟”


لكن قبل أن يجيب فو نان آن، توقّف الشاب فجأة، وانخفض 

صوته كأنه انطفأ من الداخل


قال بسرحان شاحب : “ فات الأوان …لقد انفصلت عني الآن .”


المشاعر لا يمكن فرضها بالإصرار أو بالأمل وحده


فكل علاقة تمرّ بعقبات وصعوبات، لكن ما دام القلبان 

متمسكَين، يمكن تجاوزها


أما إن تغيّر أحد القلوب، فلا عودة بعدها


جلس الشاب يبكي طويلًا من جديد


كان يسألها “لماذا؟” ويتوسل إليها ألا تتركه ، لكن الفتاة ، شوانشوان لم تقل سوى جملة :

“ آسفة .”

و أضافت بصوت خافت متعب :

“ آسفة، لم أعد أشعر بشيء تجاهك .”


لم يكن في صوتها غضب أو قسوة ، بل مجرد تعب عميق 

قالت:

“ كنت أحبك حقًا في السابق ، ولم يظهر أي شخصٍ آخر بيننا ، 

لا أعرف كيف حدث ذلك… أحببتك كثيرًا ، لكن مشاعري 

تلاشت ببطء مع الوقت .”


كلاهما كان يدرس في الخارج ، وكلاهما كان يظن أن حبهما 

صلب كالذهب


لكن ربما ، مثل كثيرين غيرهما ، قدّما وعودًا مخلصة في 

البداية ، ثم انهزما في النهاية أمام مرور الزمن


لم يقل فو نان آن شيئ أكثر ، لكنه شعر بأسفٍ ثقيلٍ في 

قلبه ، وشيءٍ من الحزن لا يدري لمن بالضبط—للشاب ، أم لنفسه


ظل يواسي الشاب قليلًا بعد ذلك ، حتى عاد أخيرًا إلى منزله



الساعة قد تجاوزت العاشرة ليلًا ، وكان ألم كوعه يزداد 

حِدّة ، ينبض بحرارة تؤلمه حتى صار لا يُحتمل


لم يعد لديه رغبة في تناول الزلابية التي اشتراها


جلس على الأريكة وأمسك بهاتفه واتصل بتشي تشاو


لم يُجب —-


انتظر قليلاً ، ثم أعاد الاتصال


ولا إجابة أيضًا


لم يتصل امرة ثالثة


الألم في كوعه ازداد حتى صار مزعجًا للغاية ، 

وأصوات بكاء الشاب قبل قليل لا تزال تتردد في ذهنه ، 

تُثير فيه قلقًا غامضًا ووجعًا داخليًا


جلس فو نان آن للحظة يحتضن ذراعه ، ثم قرر أن يجرب 

الاتصال مجدداً 


لكنه قبل أن يجد هاتفه ، دوّى فجأة صوت طرق على الباب


حين سمع فو نان آن الصوت يقول من وراء الباب :

“ أستااااذ ؟ هل أنت في المنزل ؟ أنا تشي تشاو !”


توقّف تنفّسه للحظة كأنّه سمع نداء من حلم بعيد


نهض فجأة ، لكن الصوت انقطع في اللحظة نفسها —-


{ هل كان وهماً سمعيّاً ؟ }


لم يتكرّر النداء


بدأ قلب فو نان آن يغرق ببطء ، شيئاً فشيئاً ، في رمال القلق المتحركة


{ تشي تشاو مشغول هذه الأيام ، فكيف يمكن أن يظهر فجأة هنا ؟ }

هزّ رأسه بابتسامة مريرة ، 


{ لم أكن أتوقع أنني سأصل لمرحلة سماع هلوسات ! }


ولم يكن لومه لنفسه بلا مبرّر —- فقد قلّ تواصلهما في 

الآونة الأخيرة ، 

و تشي تشاو لم يُجب على رسائله منذ أكثر من عشر ساعات ،

كان فو نان آن يعلم أنّه مشغول ، لكنّ غياب الردّ كل هذا 

الوقت جعله قلقاً على غير عادته ،


اتكأ على الأريكة ، وبدأت مخاوفه تهاجمه بلا استئذان


قلِق من أن يكون قد حدث شيء لتشي تشاو ، 

وقلِق أكثر من أن يخفت ما بينهما شيئاً فشيئاً حتى يذوب 

تحت وطأة الزمن


حين تتأجّج المشاعر ، يصعب السيطرة على الأفكار


ذلك البكاء الموجع الذي سمعه من الشاب  لا يزال يرنّ في أذنه


مدّ يده نحو الهاتف ، عازماً على الاتصال به، غير راغب في الانتظار أكثر


لكن قبل أن يفعل ، رنّ هاتف فو نان فجأة — 


رد — 


: “ أستاذ هل أنت في المنزل ؟”


ظهر صوت تشي تشاو من الطرف الآخر 


بدا متعباً ، لكن نبرته واضحة تماماً


: “ أنا عند بابك ، هل يمكنك أن تفتح لي؟”


كان لدى فو نان مخاوف ، و انزعاج بسبب عدد الرد —- لكن —- 

لم يتخيّل حتى في أحلامه الجامحة —- أن سبب عدم 

اتصال تشي تشاو به لأكثر من عشر ساعات هو في الواقع هذا - أنه عاد إليه ——


لم يستطع فو نان تصديق هذا —- شد أصابعه ثم أرخاها 


نهض ليفتح الباب 


وما إن فتحه حتى اندفع إليه جسد دافئ ، يعانقه بقوة


“ أستااااااذ !” 


جاء الصوت يلهث قرب أذنه ، والذراعان تحاصرانه بإحكام


“ لقد عدت "



يتبع 


[ لقد أخضرّت الضفة الجنوبية للنهر بنسيم الربيع ، 

فمتى يضيء البدر عودتي ؟ ]


الضفة الجنوبية = نان آن ( 南岸 ) 


تشاو ( )  في "照我还" ( يُضيء ) 

  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
Fojo team

عدد المقالات:

شاهد ايضا × +
إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق

X
ستحذف المقالات المحفوظة في المفضلة ، إذا تم تنظيف ذاكرة التخزين المؤقت للمتصفح أو إذا دخلت من متصفح آخر أو في وضع التصفح المتخفي