Ch50 احتراق القلب
حين يتذكران تلك اللحظة فيما بعد ، وجداها طريفة للغاية ،
فو نان آن — وكعادته ، ظل متماسكًا هادئًا ، رغم أنه جعل
خدّ تشي تشاو يحمرّ من شدّة ما فركه
أما تشي تشاو ، فقد فقد اتزانه تمامًا ——
لقد مضى على عمله ثلاث سنوات ، و لم يعد ذلك الطالب
الشاب المتردد ، بل رجل واجه الكثير من المواقف الكبيرة والصغيرة ،
ومع ذلك ، في تلك اللحظة، وبينما الممرضة لا تزال واقفة
في الغرفة ، لم يستطع كبح مشاعره ، وألقى بنفسه في أحضان فو نان آن
ولحسن الحظ كانت الممرضة معتادة على مثل هذه
المشاهد و أنهت إزالة الغُرز بهدوء ،
دفعت عربتها إلى الخارج ، وتركت الغرفة لهما
فالمستشفيات ، في النهاية ، هي أماكن تشهد طيف
المشاعر البشرية كلها ، ولا أحد يسخر من صدقٍ كهذا
“ أستاذ ! أستاذ !”
ما زال تشي تشاو تحت وطأة مشاعره الغامرة ، لم يلحظ حتى مغادرة الممرضة
و كل تركيزه منصبًّا على فو نان آن
منذ اللحظة التي تأكد فيها أنه أصبح قادرًا على الرؤية ،
انهارت كل مقاومته ،
و ظل يناديه مرارًا :
“ أستاذ فو! أيمكنك حقًا أن ترى ؟”
عيناه متورمتين من البكاء ، وقلبه يضيق بشدة كأن أحدهم يعتصره
ابتسم فو نان آن بهدوء وقال بصوت هادئ :
“ أستطيع أن أرى . نعم، أستطيع أن أرى "
لكن تشي تشاو لم يجرؤ على تصديق الأمر بعد
و رفع أصابعه أمام وجه فو نان آن وسأله :
“ حقًا ترى ؟ إذًا قل لي، كم هذا ؟”
كانت أصابع تشي تشاو النحيلة مشدودة من التوتر ، فابتسم فو نان آن مجيبًا :
“ اثنان "
غيّر تشي تشاو الإشارة وسأله مرة أخرى :
“ وهذا ؟”
قال فو نان آن: “ خمسة "
ثم غيّرها ،
فو نان آن: “ ثلاثة "
كانت لعبة يتجاوزها حتى أطفال الروضة ، ومع ذلك أصرّ
تشي تشاو بعناد أن يجيب فو نان آن في كل مرة
كان ذلك مفهومًا تمامًا ؛ فقد انتظرا هذه اللحظة زمنًا طويلًا ،
وتشي تشاو تحديدًا قد بذل فيها جهدًا لا يُقدَّر بثمن ،
والمشاعر أكبر من أن تُكبح
فسنوات الانتظار تحولت أخيرًا إلى حقيقة ملموسة
ورغم ذلك ظل تشي تشاو متماسكًا قدر استطاعته ،
فاكتفى بأن دفن رأسه في صدر فو نان آن، ينادي اسمه
بهمسٍ متكرر، يؤكّد لنفسه مرة بعد أخرى أن ' “ الأستاذ فو يرى حقًا " '
سأل تشي تشاو ، وكان فو نان آن يجيبه برضا،
يذكر الرقم الذي يشير إليه في كل مرة
بعد عدد لا يُحصى من الأرقام ، بدأ ذراع تشي تشاو يؤلمه
من طول ما رفعه
و هذه المرة ، لم يُجب فو نان آن — بل مدّ يده وأحاط بكفّ
تشي تشاو برفق
قال بصوت خافت :
“ أستطيع أن أرى "
كانت حرارة جسد فو نان آن أقل قليلًا من حرارة جسد تشي تشاو ،
لكنّ تشي تشاو ، وهو ممسوك على هذا النحو ، شعر وكأن
جسده كله يشتعل دفئًا ،
و هذه اليد الكبيرة الهادئة أحاطت بيده تمامًا ،
وصوت فو نان آن كان هادئاً خافتاً إلى حد يذيب القلب :
“ أيًّا كان الرقم الذي ترفعه ، أراه "
{ حقًا ، أصبح الأستاذ فو قادرًا على الرؤية }
احتاج تشي تشاو وقتًا طويلًا ليصدق ذلك تمامًا
بعد إزالة الضماد مباشرة ، كانت الرؤية لا تزال ضبابية
ومشوشة ، لكنها بدأت تتضح تدريجيًا
و بعد فترة طويلة من انقطاع التحفيز البصري ، كان من
الصعب على فو نان آن في البداية أن يربط بين ما يراه وما
اعتاد لمسه أو سماعه
لكن بمرور الوقت ، بدأ ذلك الشعور بالغرابة يتلاشى تدريجيًا
و أصبح الأستاذ فو الآن قادرًا على التمييز بين الأشياء
والتعرف على الأشخاص بفضل الشبكية الاصطناعية
حين دخل المستشفى ، كان فو نان آن يسير متكئًا على عصًا
للمكفوفين ، يخطو بحذر في كل خطوة
أما عند خروجه ، فالوضع كان مختلف
و العصا التي كانت ضرورية أصبحت الآن شيئًا زائدًا ،
ثقيلة ومزعجة سواء أمسكها بيده أم وضعها في حقيبته
—————
وفي الليلة التي سبقت عودتهما إلى الصين ، وبينما يحزمان
أمتعتهما معًا ،
كان تشي تشاو منكفئًا فوق الحقيبة ، يحاول عبثًا أن يجد
مكانًا لتلك العصا ،
قال مبتسمًا بعد أن تعب من المحاولة :
“ عجيب… لماذا لم أنتبه من قبل كم كانت تأخذ مساحة كبيرة ؟”
كانت العصا قابلة للطي ، خفيفة الوزن وسهلة الحمل ،
لكن لأنها لم تعد ضرورية ، بدا وكأن أصغر الأشياء المرتبطة
بها تحتل مساحة لا تُحتمل
تابع بنبرة تجمع بين الضيق والملل ، وهو يحاول عبثًا أن
يجد مكانًا للعصا :
“ ربما علينا أن نرميها فحسب .”
ثم وضعها على الأرض —- انساب صوت واضح
وما إن دوّى الصوت حتى شعر تشي تشاو بوخزة ندم فورية
— فبغضّ النظر عن أي شيء ، كانت هذه العصا باهظة
الثمن ، مزوّدة بعدة وظائف ضرورية للمكفوفين
هزّ رأسه بيأس :
“ لا بأس ، لا بأس ، سأحاول مجددًا .”
ومدّ يده ليلتقط العصا ،
لكن قبل أن تلامس أصابعه مقبضها ، كان فو نان آن قد انحنى والتقطها أولًا
قال بهدوءٍ تام :
“ لا تحزمها "
تشي تشاو اتسعت عيناه دهشة:
“ لا نحزمها ؟ أتعني أنك ستأخذها معك عبر التفتيش الأمني ؟”
أجاب فو نان آن ببساطة:
“ ولماذا أحملها معي ؟ ألا يمكننا فقط ألّا نأخذها معنا ؟”
في البداية لم يستوعب تشي تشاو المعنى
حدّق فيه للحظة ، على وشك أن يسأله ' لماذا '
وقد وصلت الكلمة إلى طرف لسانه… ثم أدرك فجأة ، فضحك
قال مبتسمًا وهو يربت على جبينه :
“ صحيح… لما نأخذها أصلًا ؟”
{ مهما كانت باهظة الثمن ، لسنا بحاجة إليها
الأستاذ فو لم يعد بحاجة إليها ! }
ظلّت هذه الفكرة تُبهج تشي تشاو أيامًا عدّة
وفي النهاية ، قدّما العصا معًا لأحد المرضى في قسم
العيون كان في حاجة إليها
فالأمراض التي تُصيب العينين كثيرة ، ولا يمكن لشبكية
اصطناعية واحدة أن تحلّها جميعًا
وبسبب حدود التقنية ، لم يستعيد فو نان آن الرؤية إلى
حالتها الكاملة قبل المرض ؛
لا يستطيع استخدام عينيه لفترات طويلة ،
ولا أداء الأعمال الدقيقة كإدخال الخيط في الإبرة ،
لكن ذلك كان كافيًا
فلم يعد فو نان آن يواجه الشكّ بسبب مرض عينيه ،
ولا الندم على عدم قدرته على رؤية تشي تشاو ،
الطبّ يواصل التقدّم ، وهما ما زالا في رحلة مستمرة —
رحلة من نور بعد ظلام —-
بعد أن قضيا ما يُقارب من نصف شهر في الخارج ،
وبحلول وقت عودتهما ،
أصبح الجميع على علم برؤية فو نان آن التي استعادت وضوحها
لا حاجة للحديث عن زملائه في القسم، فقد كانوا قد سألوا
مرارًا وتكرارًا
أما ما فاجأ تشي تشاو أكثر ، فهو تشين كايجي
فعندما سمع أن حالة الأستاذ فو تحسنت ،
جمع تشين كايجي جميع زملائهم من أيام التدريب للاحتفال بفو نان آن
مرت خمس سنوات كلمح البصر —— خلال هذه
السنوات ، لم يحافظ تشي تشاو على تواصلٍ وثيق مع تشين كايجي
فقد كانا يتواصلان كثيرًا أثناء دراستهما العليا ، لكن بعد
بداية العمل ، أصبح كل منهما مشغولًا
أما تشو روياو فكانت من خارج المدينة ، وبعد تخرجها
استقرت وبنت حياتها المهنية في مسقط رأسها
وبما أنهم لم يعودوا في نفس المكان ، قلّ التواصل طبيعيًا
كانوا يكتفون بالمكالمات لتهنئة بعضهم خلال الأعياد ، دون أي تفاعل آخر
لكن السبب الذي يجعل الصديق صديقًا هو أنه مهما ابتعد
المسافة بين الأصدقاء ، يظل كل منهم محتفظًا بالآخر في قلبه
وعندما تزوج تشين كايجي وتشو روياو واشتريا منزلاً في
نهاية العام، لم يتردد تشي تشاو لحظة، وأخرج كل مدخراته
الشخصية للمساهمة
و الآن —- ، بعد أن استعاد فو نان آن بصره ، كان تشين
كايجي أكثر سعادة من أي شخص
قام بتنظيم هذا اللقاء ، بل شرب خلال الوجبة أكثر من تشي تشاو وفو نان آن معًا
بدأت تشو روياو تشعر بصعوبة المشاهدة وحاولت إقناعه:
“ ينبغي أن تشرب أقل قليلًا "
أجاب تشين كايجي فورًا بنبرة صاخبة :
“ مستحيل !!!! أنا سعيد اليوم !!!!”
وبدون أي كلمة أخرى ، شرب الكوب كله دفعة واحدة ،
موقفه كان حازمًا جدًا
لكن لا تنخدعوا بمظهر تشين كايجي الجاد —- فبعد فترة
قصيرة ، أصبح مخمورًا تمامًا ،
و تمسّك فورًا بذراع تشو روياو رافضًا التخلي عنها :
“ زوجتي ، رأسي يؤلمني ،
أحتاج قبلة لأتمكن من النهوض !”
من يعلم من أين أتى بهذه الجملة الرومانسية المضحكة
لم تكن تشو روياو مستعدة لتقبلها ، فقالت :
“ ماذا قلت لك للتو ؟
قلت لك أن تشرب أقل ، وأنت مستمر !”
ابتسم تشين كايجي بحزن طفولي ، وقال بصوت مليء
بالشفقة وكأنه طفل مظلوم :
“ كنت مخطئًا زوجتي! أعلم حقًا أنني كنت مخطئ "
ومع ذلك، أصر :
“ لكن الآن ، كل ما أريده هو أن تقبّليني "
أضحك حديثهما جميع الحاضرين على الطاولة،
وكان تشي تشاو الأكثر ضحكًا بينهم
في أيام الدراسة كان تشين كايجي دائمًا ذلك النوع البارد
المتعجرف ، يرتدي ملابس فاخرة من رأسه حتى قدميه،
و أي شخص يراه سيقول عنه أنه يملك مزاج الشاب المتدلل
لكن منذ أن ارتبط بتشو روياو، بدأ هذا الشاب المتعجرف
يتغير تدريجيًا ، والآن أصبح كلب ذهبي مروض و مخلص تمامًا
{ ربما … هذه هي قوة الحب } فكّر تشي تشاو وهو يضحك
وسط صوت كؤوس الشراب المتصادمة
و شعر أن الحب أمر غامض حقًا ، سواء لتشين كايجي أو لنفسه
لو أخبروه قبل فترة التدريب أن قلبه سيحب شخصًا بهذا القدر ،
لدرجة أن يضع كل شيء في هذا الحب ، لما صدّق ذلك أبدًا
الحب غامض للغاية
يتخطى الحدود بين الجنسين والعمر ،
ويتجاوز الشخصيات والماضي ،
في البداية ، كان تشي تشاو قلقًا من أن بعض الأشخاص قد
لا يقبلوا علاقته بفو نان آن،
وكان يحبس أنفاسه انتظارًا للرد
ومع ذلك ، طوال اللقاء بأكمله ، لم يثر أحد الموضوع
فالجميع يعلم أن ذكر ذلك سيكون بلا فائدة —-
فكيف يمكن لشخصين ، بعد أن اجتازا كل هذه العواصف
على مرّ السنين ، أن تهزهما كلمات الآخرين ؟
الحياة يعيشها المرء لنفسه ؛ حلاوتها ومرارتها ودفئها
يعرفها فقط من عايشها
علاوة على ذلك ، شفاء تشي تشاو لعيني فو نان آن جعلهما
بالفعل مثال يُحتذى به للعشاق في محيطهما ،
وكان الجميع يظن بصدق أنهما مذهلان ، ومتناسبان تمامًا
الكثير من زملائهما في الطاولة لم يروا بعضهم منذ خمس
سنوات ، لكن عند لقاءهم مجدداً ، شعروا بالقرب المألوف
كما السابق
و تحدث الجميع عن الماضي والمستقبل ، ومع كل حديث،
عاد كل منهم ليكون نسخة من نفسه في ذكرياته —
أجمل أيام شبابهم ، المحفوظة في الذاكرة ، بدت لا تزال
تتلألأ عند استرجاعها
وحتى في طريق العودة بعد انتهاء اللقاء ، كانت عينا تشي
تشاو ما تزال مشرقة ومتألقة
لقد شرب قليلًا أيضًا ، وبدت وجنتاه محمرّتين قليلًا
تحدث مع فو نان آن عن أيام فترة التدريب المشتركة
بينهما ، مستعيدًا الذكريات بكل حنين وفرح
تحدث عن فترة التدريب ، وتحدث أيضًا عن ما تلاها :
السفر للخارج ، العودة إلى الصين ، وعلاج عينيه ،
كانت هناك ذكريات كثيرة للغاية ، حلوة ومرّة وحامضة وقابضة
وبينما تشي تشاو يتحدث ، كان فو نان آن يستمع بهدوء
ربما كانت تلك الذكريات جميلة جدًا ، فبينما كان تشي
تشاو يرويها ، اندلعت فجأة الألعاب النارية في السماء
خلفهما ، لتكتمل اللحظة بأبهى صورة
تفتحت ألوانها واحدة تلو الأخرى ——
انفجرت الألعاب النارية في الهواء ،
وجذبت انتباه تشي تشاو على الفور ،
سحب فو نان آن إلى جانب الطريق ليشاهدها
تبعه فو نان آن، لكنه لم ينظر إلى الأعلى —- ، بل مال برأسه
نحو تشي تشاو —- ، ينظر إليه بهدوء —- ،
منذ أن استعاد بصره —- ، أحب فو نان آن أن ينظر إلى
تشي تشاو هكذا ، كما لو أنه لن يشبع أبدًا ،
وكأنه يحاول تعويض كل السنوات الضائعة —- ،
فو نان آن لا يعبر بمشاعره مثل تشي تشاو —- فبينما
استعاد تشي تشاو الذكريات ، كان هو يستمع بصمت
لكنه يعتز بكل تلك الذكريات ، فهي جزء مشرق من ذاكرته الخاصة
تشي تشاو :
“ أستاذ ، انظر ، الألعاب النارية !”
سرعان ما لاحظ تشي تشاو أن فو نان آن ينظر إليه
وعندما تذكر كم كافح فو نان آن ليستعيد بصره ، شعر تشي
تشاو دائمًا برغبة في أن يهديه كل ما هو جميل ، كأنها كنوز يشاركها معه
جذب تشي تشاو كم فو نان آن، حاثًا إياه على النظر للأعلى:
“ انظر بسرعة ! انظر ! إذا لم تفعل ، ستفوتك !”
كانت الألعاب النارية جميلة حقًا، لكن بدا أنها لا تكفي
لتجسيد كل الجمال
أضاءت ألوانها المتلألئة وجه تشي تشاو ، تتلألأ وتخفّ
فجأة ، ضحك فو نان آن ضحكة خافتة
قال فو نان آن بصوت هادئ، وهو ما يزال يحدّق في جانب تشي تشاو:
“ لن أفوتها . أجمل المناظر موجودة بالفعل أمام عيني "
— الــ 💕🍭 ـنـهـايــة —
✒️زاوية الكاتبة :
【 لا يوجد ألم لا يُمكن شفاؤه ، ولا يأس لا يُمكن إنهاؤه .
كل ما فقدناه سيعود في شكل آخر — جون شولز 】
تعليقات: (0) إضافة تعليق