Ch7 احتراق القلب
{ هل سمعني ؟
أم لم يسمع ؟ }
تجمّد تشي تشاو في مكانه ، لا يعرف ما الذي ينبغي قوله
{ لابدّ أنه سمع ….
ومن تعبير وجهه ، بدا أنّه يقف هنا منذ مدّة }
قال فو نان آن بهدوئه المعتاد :
“ هل خرجت لتشتري شيئ ؟”
“… نعم " أومأ تشي تشاو بفراغ ،
فو نان آن:
“ لنذهب معًا "
نزلا الدرج في صمت ، و بينما تشي تشاو يحاول تنظيم
أنفاسه ، وقلبه يموج بعاصفة من المشاعر ،
لم يكن يدري كيف يتصرّف ، إذ لم يحدّث أحدًا عن ماضيه
من تلقاء نفسه قط، سوى تشي تشي
حين كان صغير ، كانت ملفّاته محفوظة لدى السلطات ،
لذا عامله أساتذته وزملاؤه معاملة ' الحالة الخاصة '
حتى أنّ معلّم صفّه في المرحلة المتوسطة نظّم حملة
تبرّعات علنية من أجله د
كان يدرك أنّهم فعلوا ذلك بدافع اللطف ، لكنه كان يعلم
أيضًا أنّ اللطف الزائد قد يُؤلم ،
لم يكن يحبّ تلك النظرات التي تراه على نحوٍ مختلف
عندما وصل إلى دار الأيتام أول مرة ، كان المتطوّعون
يزورونه كثيرًا ،
كانوا يربّتون على رأسه بلطف ، وتغمر أعينهم الشفقة ،
كأنه حيوان صغير يستحق الرثاء ،
لكنه لم يرغب الشفقة أبدًا ،
لم يكن بحاجة إلى التعاطف ،
كلّ ما أراده هو أن يُعامَل كأي إنسان عادي ، لا أكثر
قال بخجل وهو يبتسم ابتسامة مصطنعة :
“ بروفيسور فو … هل… سمعتَ ما كنتُ أقوله قبل قليل ؟”
وقبل أن يتمكّن فو نان آن من الرد، تابع تشي تشاو بسرعة :
“ في الحقيقة كان ذلك منذ زمن بعيد ،، كلّ ذلك مضى الآن .
أنا بخير جدًا الآن .
أحصل على منحةٍ دراسية كل عام ، أنا… أنا…”
توقّف فجأة ، وقد فرغ ذهنه تمامًا
همهم فو نان آن بهمهمة خافتة تشجّعه على الاستمرار ،
فالتقط تشي تشاو أنفاسه بعمق ، ثم زفر ببطء قائلاً :
“…ما أعنيه هو .. لا داعي لأن تشفق عليّ "
{ لقد بذلتُ كل جهدي لأعيش حياةً جيدة ...
فلا تعاملني كما لو كنتُ مختلف ….
لستُ بحاجة إلى شفقة أو تعاطف …..
كلّ ما أريده هو أن أعيش بكرامة وانفتاح … }
ابتسم فو نان آن برفق :
“ أعلم "
أعلم —
قال فو نان آن إنّه يفهم ذلك الإحساس ——
وكيف لا يفهمه ؟
فهو لا يدركه بصفته أستاذ في علم النفس فحسب ،
بل لأنّه هو أيضاً قد سلك طريقًا مشابهًا
حين سقط ذلك النابغة الواعد من عليائه ، أبدى الجميع أسفهم
تنهّدوا متحسّرين لأنه فقد بصره ،
واضطرّ إلى التخلّي عن مهنته الطبيّة التي أحبّها كثيرًا ،
لكن حين يصبح الماضي ماضي ، وتغدو الحقائق غير قابلة
للتغيير ،
لا يبقى أمام المرء سوى المضيّ قدمًا
في هذا اليوم ، تحدّثا عن أشياء كثيرة — عن الماضي ،
والحاضر ، والمستقبل ، بل وعن أمورٍ غريبة لا رابط بينها
وحين عادا إلى الغرفة ، كان تشي تشي قد أوشك على النوم
رفع جسده بصعوبة عندما رآهما وقال بتذمّر :
“ لماذا تأخرتما هكذا ؟”
ابتسم تشي تشاو بابتسامة محرجة وسلّمه حلوى القطن الذي اشتراه له قائلًا:
“ تحدّثتُ أنا وعمّك فو قليلًا .”
قال تشي تشي وهو ينفخ وجنتيه :
“ قليلًا ؟! يبدو أنّكما تبادلتما مئات الجمل !”
ومع ذلك أخذ قطعةً من الحلوى ،
: “ هل هي حلوة ؟”
أجاب تشي تشاو :
: “ حلوة جدًا ، حلوة زيادة عن اللزوم ! "
{ أحلى قطعة حلوى ذقتها في حياتي }
———
غادر والدا تشي تشي في النهاية ، دون أن يصحباه معهما
وبعد محاولة الانتحار تلك ، تولّى فو نان آن جلسات نفسيّة له
ليضمن ألّا يُقدِم مجددًا على فعلٍ مماثل
استأجر والداه مربية فاخرة للعناية به، لكنه رفض قائلًا إنه
يريد الذهاب إلى المدرسة
كانت رغبةً بسيطة في ظاهرها ، لكنها معقّدة في واقعها
فحالته الجسديّة لم تكن تسمح بسهولة بالدراسة ،
لكن بعد إصراره الطويل ، وافق والداه أخيرًا على تسجيله
في مدرسة داخليّة خاصّة ، تقبّلوا استقباله إذا استقرّت حالته
في يوم رحيل والديه ، لم يذهب لتوديعهما
و اكتفى بالجلوس قرب النافذة ، يحدّق في العصافير المغرّدة ،
وفي طائرة تشقّ السماء تاركةً خلفها خطَّين طويلين من الدخان الأبيض
جلس تشي تشاو إلى جواره ، يربّت على رأسه بلطف وسأله:
“ لماذا لم تذهب لتودّعهما؟”
قال تشي تشي بهدوء وأهدابه الطويلة تلقي ظلالًا على عينيه :
“ كانا سيرحلان على أيّ حال .
لو ذهبتُ لرؤيتهما، لزاد الأمر ألماً .”
لقد تعافى تقريبًا — عينيه ، مشاعره ، وكلّ شيء
لكن روابط العائلة لا تنقطع بسهولة
تنفّس تشي تشاو ببطء وتنهد تنهيدة خفيفة
{ يا له من طفل يبعث على الأسى… }
لكن تشي تشي رفع رأسه فجأة، وقال بجدّية :
“ لا تتنهّد ، التنهيدة تجعلك قبيح "
تشي تشاو: “…”
{ حسنًا، يبدو أنه ليس مؤلمًا إلى هذا الحد بعد الآن }
ومع ذلك ، ظلّ تشي تشاو قلقًا على تشي تشي ،
الأطفال يشفَون بسرعة ، والجُرح في معصمه التأم بالفعل ،
ولم يبقَى منه سوى أثر باهت على جلده ،
لكن الجراح النفسيّة لا تُرى بالعين ،
والألم الناتج عن فقدان البصر قد يلازمه زمنًا طويلًا
تنفّس تشي تشاو بعمق ، وأصابعه تعبث بشعر الصبيّ الناعم ،
فعبس تشي تشي وقال بضيق :
“ قلت لك لا تتنهّد !”
ضحك تشي تشاو ممازحًا :
“ ما بالك ؟
أأصبحتَ تسيء معاملة غاغا الآن بعد أن هممتَ بالرحيل؟”
نفخ تشي تشي وجنتيه قائلًا:
“ لا، فقط… لا أحبّ أن أراك حزينًا .”
ابتسم تشي تشاو وهمَّ بأن يربّت على رأسه ليواسيه ،
لكن تشي تشي فاجأه حين نهض من سريره ،
وقلّد حركته واضعًا كفّه الصغير على رأس تشي تشاو
و قال بجدّيةٍ طفوليّة وهو يمسح شعره بخفّة :
“ ها قد ربّتُّ عليك يا غاغا ، لا تتنهّد بعد الآن .”
و بنبرة متكلّفة فيها ازدراء لطيف :
“ لقد قرّرتُ أن أصبح مثلك ، فلا تخرّب صورتي عنك ، مفهوم ؟”
من الطبيعي أن يشعر بالحزن ، فذلك أمر لا ينجو منه أحد
نشأ تشي تشي بين والديه ، وكان من الصعب عليه التكيّف
مع غيابهما المفاجئ
لكنّهما رحلا، والحياة تمضي
وبطريقته الخاصة ، كان تشي تشي يخبر تشي تشاو أنّه تجاوز
الأمر ، وأنه سيواصل العيش ويحاول أن يكون بخير
نظر تشي تشاو إلى ملامحه المتجهّمة فابتسم قائلًا :
“ إذًا أنا مهمّ إلى هذا الحد ؟ هل أصبحتُ قدوتك الآن ؟”
أمال تشي تشي رأسه قليلًا وقال بعد تردّد :
“ ربّما… لكن إن تنفّستَ بحزنٍ مجدداً ، فلست كذلك !”
ضحك تشي تشاو بخفّة وسحب من جيب معطفه قطعة
حلوى بالحليب وقال :
“ إذن اتفقنا ، لن نتنهّد مجددًا !!!! "
كانت الحلوى الصغيرة تستقرّ براحة يده ، حوافّها الطريّة
وورقها الملفوف يشبهان جناحين صغيرين
قال لتشي تشي وهو يقدّمها له:
“ بعد أن تأكلها ، لا مزيد من التنهيدات…
يجب أن تواصل الطيران للأعلى دائمًا .”
————
في اليوم الذي خرج فيه تشي تشي من المستشفى ،
أنهى تشي تشاو أيضًا فترة تدريبه في قسم العيون ،
وانتقل إلى قسم علم النفس ،
وعلى خلاف بعض المستشفيات التي تضع علم النفس
تحت قسم الأعصاب ، كان في المستشفى الخامس قسم
مستقلّ لعلم النفس
و مشاركة طلاب الطبّ في التدريب الإكلينيكي ضمن هذا
القسم إضافة جديدة هذا العام ،
لم تكن موجودة في الخطط السابقة للتدريب —
هذا التغيير أثار ردود فعلٍ متباينة —-
كان تشي تشاو متحمّسًا جدًا لتخصّص علم النفس ،
خاصةً بعد كلّ ما حدث مع تشي تشي ——
لكن في طريق عودتهما من الاجتماع ، بدا وجه تشونغ
يانغتشيو متجهّمًا وهو يتمتم بضجر :
“ لماذا علينا دراسة علم النفس أيضًا ؟”
سأله تشي تشاو باستغراب :
“ ما الأمر ؟ لا ترغب في ذلك ؟”
ردّ بسرعة ، وهو يومأ برأسه بقوة :
“ بالطبع لا ،،، أنا أنوي العمل في الطبّ السريري ، فما فائدة
علم النفس لي؟
كنت أفضل أن أستغل هذا الوقت في التحضير لامتحان الدراسات العليا "
أما تشي تشاو — فكان متحمّسًا بصدق
“ لكن يمكننا أن نتعلّم الكثير من خلاله .
خذ تشي تشي مثلًا—لو لم يكن البروفيسور فو قد نبّهنا في
الوقت المناسب ، لكانت العاقبة وخيمة .”
تنهد تشونغ يانغتشيو باستسلام :
“ ربما معك حق، لكن أمنيتي الوحيدة الآن هي ألا أُعيَّن في
فريق البروفيسور فو "
: “ هاااااه ؟ ولماذا ؟” رفع تشي تشاو حاجبيه بدهشة
هو نفسه كان سيسعد لو تمّ تعيينه في فريق فو نان آن
و في الواقع ، يُدرك أن جزء من اهتمامه بعلم النفس سببه
البروفيسور فو بالذات
ابتسم تشونغ يانغتشيو بمرارة وقال بصوت خافت:
“ الإعجاب بشخص من بعيد شيء ، والعمل تحت إمرته
شيء آخر تمامًا !
البروفيسور فو مذهل فعلًا ، لكنّه صارم إلى درجة مخيفة .
أصدقائي في قسم علم النفس مرعوبون منه ،
بعضهم بكى حرفيًا بسبب انتقاداته !”
كان فو نان آن من ذلك النوع النادر من الناس :
لطيف وهادئ ، لكنّ صرامته في العمل لا تُقارن ~ ——
لا يغضب لأمور تافهة ، لكنه في القضايا المهنيّة لا يتهاون مطلقًا ——
تشونغ يانغتشيو شبك يديه 🙏🏼 يتوسّل وقال في صوت خافت :
“ أرجوك يا الهي ، أتوسل إليّك بكل جوارحي ،
لا تجعلمي في فريق البروفيسور فو…”
وفي تلك اللحظة ، اهتزّ هاتفا الاثنين معًا ——
وصلت رسالة جديدة في قروب التدريب الإكلينيكي —-
كتب في الإشعار :
[ تم إصدار قوائم التعيين ]
فتح تشي تشاو هاتفه بتوتّر مفاجئ ، وتصفّح القائمة وهو يتمتم :
“ في الحقيقة ، أنا حقًا أتمنى أن أُعيَّن مع البروفيسور فو ،،
أنا—!!!”
توقّف فجأة عن الكلام
سأله تشونغ يانغتشيو بقلق:
“ ما بك؟”
ابتسم تشي تشاو وعيناه تتّسعان بدهشة:
“ يا لها من مصادفة غريبة…”
أسرع تشونغ يانغتشيو بفتح القائمة على هاتفه ، وما إن رآها حتى شهق قائلاً:
“— اللعععععنننننة ! لقد تم تعيينك فعلًا في الجناح
الأول… مع البروفيسور فو نان آن؟!”
ضحك تشي تشاو وأطلق زفرة طويلة وكأنه أخيرًا تنفّس الصعداء
“ تحقّق الحلم !!! "
حدّق تشونغ يانغتشيو به غير مصدّق: “ أأنت جادّ ؟
فعلاً تريد العمل مع البروفيسور فو؟”
: “ أكيييييد ….” ابتسم تشي تشاو وهو يربّت على كتفه
بخفّة : “ هياااا ، العشاء عليّ الليلة .”
———-
مستشفى المقاطعة الخامس الأكبر في الإقليم ،
وكل قسم فيه مقسوم إلى عدّة أقسام ،
لذا أن يُعيَّن أحدهم في فريق فو نان آن كان أمرًا يستحقّ
الاحتفال حقًّا
أما تشونغ يانغتشيو —- فقد وُضع في القسم الثالث ،
حتى إنه لم يكن في نفس الطابق مع تشي تشاو —-
وفعلًا ، أوفى تشي تشاو بوعده ، ودعاه للعشاء الليلة
وبينما كانا عائدَين إلى السكن ، مرّا ببائع حلوى القطن ،
فاشترى تشي تشاو عودين منها
قال تشونغ يانغتشيو وهو يلتقط قطعة صغيرة منها ليذيبها
في فمه ضاحكًا : “ إلى الآن تحب هالأشياء؟
أليس من المفترض فقط الأطفال يأكلونها ؟”
أجاب تشي تشاو ببساطة ، دون أن يفسّر أكثر :
“ تعجبني . طعمها حلو .”
كانت الحلوى حلوة فعلًا ، لدرجة أنها أذابت بعضًا من قسوة قلبه
وحين عاد إلى السكن ، غسل العصا الخشبية القصيرة
بعناية ووضعها في درج مكتبه
في الدرج يوجد عدّة عيدان أخرى ،
مصطفّة بعناية في الخلف ،
أخرجها واحدة تلو الأخرى ، مسحها بلطف ،
ثم أعادها إلى مكانها ، كما لو أنها كنوز صغيرة يحتفظ بها في الخفاء ،
لم يُخبر تشونغ يانغتشيو، ولا أيّ أحد آخر ، أنّه في اليوم
الذي اشترى فيه غزل البنات لتشي تشي ، كان فو نان آن قد
أعطاه أيضًا عودًا منها
—— ،،
“ لا بروفيسور فو .. صدقني ، لا أحتاجها ...” كان تشي تشاو
قد رفضها بغريزة الطفل الذي كبر قبل أوانه : “ أنا كبرت
، لم تعد تهمني هذه الأشياء "
ذلك الطفل الذي كان يرتجف في مهبّ الرياح الباردة ،
متمنّيًا قطعة حلوى صغيرة ، قد كبر أخيرًا ،
ربما سار ببطء ، وتعثر في الطريق ، لكنه لم يعد بحاجة إلى شفقة أحد
ابتسم فو نان آن يومها وقال له بهدوء :
“ أعرف . لهذا أريد أن أعطيك هذه الحلوى.”
لم تكن صدقة أو شفقة ، بل احترام ، وتفهّم ، وقبول ،
إيماءة تُعبّر عن إيمانه بصلابة الحياة
نظرت عيناه الرمادية الهادئة إلى تشي تشاو برقة وهو يقول:
“ لقد تعبتَ كثيرًا ”
{ لقد تعبتَ كثيرًا حتى كبرت … }
يتبع
الفصل التالي الفصل السابق
تعليقات: (0) إضافة تعليق