Ch1 | DSYOM
كان وين دي مستأجرًا غير قانوني في مجمع 'هتشينغ غاردن'
للوهلة الأولى ، لم تكن هتشينغ غاردن تختلف عن غيرها
من الأحياء القديمة المتهالكة في بكين
الأسلاك الكهربائية تخرج من الجدران متشابكة ومتدلية
تحت الشرفات،
والطلاء الباهت جعل المباني تبدو رمادية كئيبة
البناية مكوّنة من ستة طوابق، دون مصعد ،
وأبواب الوحدات السكنية التي غُطيت بالإعلانات الصغيرة كان قد أصابها الصدأ
الدرجات غير متساوية الارتفاع ،
وأضواء الاستشعار غير حساسة ،
وفي الشتاء ، حتى لو دُست بقدمك فلن تضيء ،
مما يجعل الممرات تغرق في ظلام دامس
ما يميز هذا المجمع السكني أنه مخصص لأعضاء هيئة
التدريس في جامعة T
بإمكان المعلمين السكن هنا بإيجار منخفض نسبيًا ،
مع خصومات كبيرة على شراء الشقق
مئات من الأساتذة كانوا يعيشون في هذه البناية ذات
المظهر غير الجذاب
كبار السن الذين يمارسون الرياضة بجانب المساحات
الخضراء في الحي، ربما كانوا أول دفعة من الأكاديميين في
البلاد، ومؤسسي تخصصات علمية
وين دي كان يعيش في هذا المجتمع المليء بالتنانين
المختبئة والنمور الكامنة¹
ومع ذلك، لم يكن أستاذ ، ولا من عائلة أحدهم
كان مجرد طالب دكتوراه بائس في العلوم الإنسانية ،
يبلغ من العمر ستة وعشرين عامًا
في الفصل الدراسي الماضي ، أحد زملائه الكبار في
الجامعة ، وكان يعمل بالتدريس ، تلقى دعوة ليكون باحثًا
زائرًا في الخارج لمدة عام
وكان يسكن في المبنى رقم 2، الشقة 302 من مجمع
هتشينغ غاردن، تطل على الجنوب، محاطة بالمساحات
الخضراء، بعيدة عن الشارع، هادئة، وفي طابق لا هو مرتفع
جدًا ولا منخفض جدًا، مما يجعله في مأمن من الحشرات،
وفي الوقت نفسه لا تسبب ضيق التنفس من صعود الدرج
موقع ممتاز كهذا ، لم يكن يرغب في إنهاء عقد الإيجار ،
فدفع أجر سنة كاملة مقدمًا ليحافظ على الشقة أثناء سفره
في الوقت نفسه ، كان وين دي قد تشاجر مع زميله في
السكن وأراد الخروج للإيجار ،
لكن ميزانيته ضئيلة
و سرعان ما توصّلا إلى اتفاق شفهي على تأجير غير قانوني
كان وين دي يرسل الإيجار شهريًا للأستاذ ، مقابل الإقامة لعام كامل
{ شقة في ' ووداوكو ' بسعر في منطقة نائية مثل منتوغو² —
أين لي أن أجد مكانًا أرخص من هذا ؟ }
بعد ذلك بفترة قصيرة ، جاءت صديقته القديمة يو جينغيي، للعمل في بكين
دعاهـا وين دي لتشاركه السكن ، فانخفض الإيجار إلى مستوى بلدة موهيي ³
حمل وين دي حقيبته بفرح وانتقل إلى السكن الجديد ،
على أمل أن تلهمه الأجواء الأكاديمية في الحي
لكن، ويا للأسف ، سرعان ما صبّ القدر عليه دلْوًا من الماء
البارد : كانت مجرد أوهام
فخلال أقل من شهر على انتقاله ، تلقى وين دي ملاحظات
الجولة الثانية من مراجعة محرر مجلة ' دراسات الأدب الأجنبي '
ودراسات الأدب الأجنبي هي مجلة أكاديمية مرموقة في
مجال الأدب الإنجليزي والأمريكي
في النصف الأول من العام ، تم رفض بحث وين دي من قِبل
المراجعين ، ومعه أربع صفحات من الملاحظات المقترحة
كان المراجع صبورًا بشكل مدهش ، ينتقد الاستشهادات
والأفكار صفحةً صفحة ،
ويشكك في التسلسل المنطقي للحجج ،
وفي النهاية يوجّه ضربة قاضية — أفكار الورقة غير مبتكرة إطلاقًا…
كان ذلك مهينًا لدرجة لا تُطاق
{ أما كان يمكنهم استخدام ظرف تخفيف⁴ ؟
ألا يمكن القول إن ' الفكرة ليست مبتكرة كثيرًا ' ؟! }
بعد أن تم نسف البحث كله ، تعلّم وين دي من التجربة
المؤلمة ، وقضى الليالي يُراجعها بجهد ،
ثم أعاد إرسالها من جديد
انتظر بعدها أكثر من شهرين حتى جاءه الرد
ارتجف حين فتح البريد الإلكتروني ، وبدأ في التمرير بحذر، حتى قرأ:
[ نأسف لإبلاغكم أن… ]
فرمى هاتفه على الطاولة بحدة ، ثم ضرب رأسه حافة المكتب
بصراحة —— مستواه كان دائمًا يدور حول المجلات المتوسطة ومؤتمرات الأبحاث ،
لذا إرسال بحث إلى مجلة “دراسات الأدب الأجنبي” كان خطوة جريئة
لكن مشرفه أصرّ على تقديمها إلى مجلة من فئة C⁵
فشل قاد إلى محاولةٍ أخرى ،
ومضى الآن ما يقارب نصف عام، ولم يُقبل أي بحث بعد
مشرفه لم يكن بحاجة إلى أوراق بحثية إضافية تُنسب له
بل كان يحتاج فقط إلى مقالات منشورة في مجلات C
وبغض النظر عن مستوى الطالب ، كان يطلب منهم
المحاولة أولًا مع مجلات C
ففي النهاية، لم يكن هو من يضيع وقته ،
بل كان الأمر صفقة بلا خسائر بالنسبة له
أما الطلاب الذين علقوا في هذا المسار ، فكانوا يعانون بحق
إذا تأخر التحكيم ، فهذا يعني شهورًا مهدورة بلا فائدة
وكان وين دي يعلم جيدًا أن قدراته محدودة ،
ولم يكن يحلم بأن يصبح علمًا من أعلام الساحة الأكاديمية
كل ما أراده هو أن يُشفق عليه مشرفه ،
وألا يُهدر وقته في أوهام لا طائل منها
وإذا أدى هذا إلى تأخر في التخرج ،
فكل الدماء التي سالت من ضرب رأسه على المكتب ستكون بلا قيمة
فجأة، بدأ تطبيق WeChat يهتز بشكل متواصل
ألقى وين دي نظرة على الشاشة ،
ثم أغلق الهاتف بعنف مجدداً
ما إن ذُكر الشيطان، حتى جاء على هيئة رسالة من مشرفه
كان مشرف وين دي يُدعى ليو هاو ،
ويبلغ من العمر خمسة وأربعين عامًا
وفقًا لمقاييس الأساتذة ، لم يكن يُعتبر كبيرًا في السن،
لكنه كان يهوى التصرّف كـ العجائز ،
لذا كان الجميع في القسم يطلقون عليه سرًا لقب “ العجوز ليو” ( لاو ليو ) ووين دي حفظ رقمه على هاتفه بهذا الاسم فعلًا
العجوز ليو :
[ جهّز مواد التقديم للبروفيسور الكبير ،
وأرسلها لي قبل اليوم الثالث ]
' البروفيسور الكبير ' هو لقب أكاديمي لم يكن موجودًا إلا
في السنوات الأخيرة
فالنظام الصيني للأكاديميين يشمل فقط مجالات العلوم
والتكنولوجيا والطب ،
دون وجود ألقاب معادلة في العلوم الإنسانية والاجتماعية. لذا ، أطلقت وزارة التعليم خطة لتأسيس مناصب “بروفيسور كبير” تُمنح معاملة تعادل مستوى الأكاديميين
وبموجب هذه المبادرة الوطنية ،
تذكرت جامعة T أخيرًا أنها جامعة شاملة ،
وأقرت سياسات لدعم التخصصات الإنسانية والاجتماعية
تنهد وين دي
{ يبدو أن تطلعات العجوز ليو لنفسه لا تقل خيالًا عن تطلعاتي له …
فعدد المناصب المتاحة لهذا اللقب محدود للغاية ،
وخلال العامين الماضية ، لم يُرقَّ إلا رؤساء الأقسام
والعمداء
فكيف لأستاذ عادي —- دون إنجازات أكاديمية أو إدارية بارزة ، أن يحصل على فرصة ؟
كانت تمامًا كفكرة تقديم بحثي لمجلة من فئة C منذ
البداية— جهد ضائع من الأساس ،
وطبعًا، الجهد كله يقع عليّ أنا !
وما زاد الطين بلة … }
وين دي يسحق هاتفه بيده
{ عندما يتعلق الأمر بمراجعة الأبحاث ،
يصبح هذا الأستاذ مثل قريب غريب مدين لك،
يختفي لأيام أو حتى أسابيع
أما حين يحتاج إلى مساعدة في تقديم أوراق ترقيته ،
فجأة ينبض بالحياة
كتابة مواد التقديم أمر شائع ،
لكن ألا يمكنه مراعاة التوقيت ؟!
لا يزال أمامي كومة من المراجع والقراءات ،
والموعد النهائي بهذا الاستعجال ،
وكأنه يريد منعي من النوم تمامًا !
كان من المفترض أن تكون العطلة الوطنية المقبلة فرصة للراحة ، إجازة رسمية !
لكنه حتى لم يمنحني فرصة لالتقاط أنفاسي ! }
أخذ وين دي عدة أنفاس عميقة،
محاولًا كبت غضبه، ثم ردّ بتواضع :
[ أستاذ ، قد يكون الوقت ضيقًا قليلاً بالنسبة ليوم 3 ،
هل يمكنني الإرسال في اليوم الخامس ؟ ]
جاء رد العجوز ليو سريعًا :
[ سأنشغل بعد اليوم الخامس ، فأرسله مبكرًا كي أراجعه .]
حدّق وين دي في الشاشة لثوانٍ، ثم كتب ببساطة:
[ حسنًا 👌🏻 ]
{ أصلاً أنا مجرد شاب يبلغ من العمر ستة وعشرين عامًا ،
يعاني من صحة شبه متدهورة — من قال أنني بحاجة إلى النوم أصلًا ؟ }
استغل وجود المشرف ، وسارع بالسؤال:
[ أستاذ ما رأيك في تقديم الورقة عن التكييف الثقافي
في أعمال شكسبير إلى مجلة جامعة S؟]
رد العجوز ليو بسرعة أيضًا:
[ توقّف عن التركيز على المجلات الضعيفة كل يوم؛
طالب من جامعة T يجب أن تكون لديه بعض الطموحات .
راجعها جيدًا ، وفي المرة القادمة جرّب تقديمها إلى “مراجعات الأدب الأجنبي”.]
أخذ وين دي نفسًا عميقًا— { أنا لا أستسلم ، بل أنا واقعي !
كم عدد مجلات فئة C في مجال الأدب الإنجليزي في الصين؟
وكم عدد الأبحاث التي يمكن نشرها في السنة؟
لم أسمع حتى عن أي طالب سابق نجح في ذلك !
دعوني أنشر ورقة واحدة فقط ، هذا كل ما أريده !!! }
وقبل أن ينتهي من شهيقه ، ظهرت رسالة جديدة من مكتب
شؤون الطلبة في كلية الآداب :
[ الطالب ، حان وقت تحديث الفيديو التعريفي
المعروض على الشاشة الإلكترونية في مبنى الكلية .]
ثم تبعتها رسالة أخرى:
[ الدفاع عن منحة التفوق سيكون في اليوم الثامن ؛
الرجاء الترتيب له بأسرع وقت .]
ثم واحدة أخرى :
[ هل أنهيت تجهيز المواد الخاصة بمقابلة الطلاب المرشحين للتوصية ؟]
فرك وين دي جبهته التي قد بدأت بالتورّم من كثرة الضربات
{ لم أعد أستطيع تحمّل ضربة أخرى }
تنهد وين دي وبدأ يكتب كلمةً كلمة :
[ الفيديو الترويجي من اتحاد الطلبة تم تصويره للتو ،
سأذهب لاستبداله فورًا .
بالنسبة للمنحة ، فهناك قروب دردشة مخصصة ،
ونجمع المواد حاليًا .]
في جامعة T، كان طلاب الدكتوراه يحصلون على ثلاث خيارات وظيفية :
• مساعد إداري
• مساعد باحث
• مساعد تدريس
يمكنهم اختيار أحدها ، و جميعها براتب شهري قدره 2700 يوان
مساعدو الباحثين : مسؤولين عن أعمال الدعم البحثي ،
ومساعدو التدريس عن الحصص الإرشادية وتصحيح الواجبات ،
أما المساعدون الإداريون فكانوا يتولّون كل ما يخص المهام
الأكاديمية والإدارية في القسم ،
مثل مقابلات طلاب الدكتوراه والطلاب الموصى بهم ،
تجميع بيانات الخريجين ،
جلسات الدفاع عن المنح الدراسية ، وحتى… الدعاية
الخاصة بالكلية ،
كالفيديوهات المعروضة على الشاشات في مباني التدريس ...
لم يكن يُهم كثيرًا ما إذا كانت الوظيفة من المستوى الأعلى
أو الأدنى، ففي النهاية، هناك راتب ما
لكن ما كان يزعج وين دي فعلًا هو أنه كان يتقاضى راتب
مساعد إداري، بينما يؤدي عمل الثلاث وظائف معًا —-
فإلى جانب المهام الإدارية ، كان عليه أيضًا أن يساعد
مشرفه في كتابة المؤلفات ،
والتقديم لمشاريع SRT⁵، وطلبات التمويل، وإرسال المواد،
وتنظيم الاجتماعات، وتحضير ملفات التدريس—
كلها من مهام مساعدي التدريس،
( ⁵ SRT = Student Research Training،
وهو برنامج تدريبي بحثي معروف في الجامعات الصينية. )
لكن بما أنه لا أحد يريد أن يكون مساعد التدريس للعجوز
ليو —- فقد سقطت كل هذه الأعمال على كاهله في النهاية
ومؤخرًا، أصبح العجوز ليو مهتمًا بالإعلام الذاتي ،
وأنشأ عدة مجموعات على غرار TED، واضطر وين دي إلى مساعدته في إدارتها
تنهد وين دي مرة أخرى ،
وبدأ يدوّن قائمة المهام التي عليه إنجازها في تطبيق الملاحظات
وبعد أن حدّق لفترة في الجدول المزدحم بالكلمات
الصغيرة والمتداخلة ،
قرّر أن يذهب اليوم إلى المكتبة ليبحث عن المواد،
ويُراجع بحثه ،
ثم يمر على مبنى الكلية ليحل مشكلة الفيديو أيضًا
حزم حقيبته ، وركب دراجته ،
وانطلق خارج المجمع السكني متجهًا نحو بوابة الجامعة
جامعة T قد طورت آلية الدخول مؤخرًا ،
وأضافت صفًا من البوابات عند المدخل ،
يحتاج فيها الطلاب إلى تمرير بطاقاتهم الجامعية للدخول
استند على ساق واحدة ، مرر بطاقته ، ثم انطلق كالسهم داخل الحرم الجامعي
و على طول الطريق ، أشجار الجنكو قد بدأت تميل إلى
الاصفرار قليلًا فوق خضرتها ، إيذانًا ببدء تساقط أوراقها
ركن دراجته عند مدخل مبنى الكلية ،
ثم دخل إلى الداخل ليرفع الفيديو الترويجي
وعندما وصل إلى الطابق الأول ، صادف موظف الشؤون الإدارية خارجًا
قال الموظف بإيماءة سريعة :
“ أوه، وصلت ”
كان النظام المستخدم في مبنى الكلية قديمًا جدًا،
ولا يمكنه تحميل الفيديوهات عبر الإنترنت مباشرةً
بل يحتاج إلى اتصال مباشر بالنظام الإلكتروني داخل مبنى التدريس لنقل الفيديو
أخرج وين دي وحدة تخزين USB، وسحب الفيديو
الترويجي الجديد الذي صوّره اتحاد الطلبة، ثم استبدل به الفيديو القديم
وقبل أن ينقل الفيديو الأصلي إلى سلة المهملات،
توقّف وين دي للحظة يتأمل الغلاف، يغشاه شعور بالحنين
— فقد كان ذلك الفيديو قد صوّرته الكلية عندما كان في
السنة الثانية من دراسته الجامعية
وكان بطلا الفيديو في ذلك الحين يُعتبران الثنائي المثالي
' الفتى الذهبي والفتاة اليشمية ' لكنهما انفصلا منذ زمن ،
وبلغت علاقتهما نقطة اللاعودة
{ آهههخ .. مضت أيام الشباب… }
بعد أن خزّن وحدة الـUSB، خرج من مبنى الكلية،
فرأى مبنى التدريس الثالث أمامه
نظر إلى الساعة ، لم يتبقَّى سوى خمس دقائق على بداية الحصة الثانية
الطلاب كانوا ينزلون على عجل من دراجاتهم ويدخلون إلى المبنى مهرولين
وسط الزحام، لفت انتباهه شخص طويل القامة
يرتدي بدلة رمادية فاتحة ،
تبرز كتفيه العريضتين وخصره النحيف ،
مما جعله بارزًا جدًا بين الحشد
يمشي ببطء مقارنة بمن حوله ،
والطلاب يتجاوزونه من الجانبين بسرعة ،
وكأنهم يشقون له طريقًا وسط الزحام ،
فتكوّنت له مساحة خالية تميّزت بالرمادي الذي يرتديه
كان وين دي يراقبه من بعيد، وقلبه يغمره شعور بالمرارة ونبضٌ غريب
وتذكّر حينها أول يوم دراسي في هذا الفصل ———-
المكتبة ممتلئة تمامًا ، لذا توجه إلى قاعة دراسية فارغة في
مبنى التدريس الثالث ليجمع بعض المواد لمشرفه
الفصل قد تغيّر للتو ، والجو متقلب ، وكان وين دي كغيره عرضة لنزلات البرد
ارتدى كمامة ليكتم سعاله ، وكتب بضع كلمات ،
ثم أخذته غفوة ثقيلة ، رأسه مستند على الطاولة
لكن حتى نومه لم يكن هادئًا ،
فقد كانت أفكاره تتزاحم ، ووعيه كأمواج البحر ،
يتمايل صعودًا وهبوطًا
وبعد ما بدا وكأنه زمن طويل ،
وفي غمرة ضبابية من النعاس ،
ساد الصمت المكان ، وسمع صوتًا عميقًا ، مغناطيسيًا يقول :
“ في معظم التخصصات ، ما يستكشفه البشر هو في
أحسن الأحوال اقترابٌ غير نهائي من مثالٍ مثالي،
يتغير باستمرار مع الزمن ….
جيلٌ قد يطيح بإنجازات الجيل الذي سبقه ،
والبناء الأكاديمي الذي يشيده أحدهم ، سيهدمه من يأتي بعده ...
الرياضيات وحدها ، تضيف طابقًا جديدًا فوق الهيكل
القديم ، جيلًا بعد جيل.”
فتح وين دي عينيه ، ورفع رأسه —-
و دون أن يدرك ، كانت المقاعد من حوله قد امتلأت
بالطلاب ، وجميعهم يحدّقون بانتباه نحو المقدمة
أدار نظره نحو المنصة ، فرأى رجلًا طويل القامة واقفًا هناك
وبالرغم من كونه أستاذ ، إلا أنه بدا شابًا بشكل مفاجئ
أنفه بارز ، وأشعة الشمس أضاءت نصف وجهه ،
تاركةً النصف الآخر في الظل
فكّه حاد، وصدره المنتفخ كان واضحًا حتى من تحت بدلته
الأنيقة—بدا أقرب إلى ملاكم منه إلى أستاذ رياضيات
لكن صوته كان ثابتًا ، مفعمًا بالقوة ،
ويحمل في نبرته لمسة من الرقي الأكاديمي
تابع الاستاذ : “ آمل أن يشعر الجميع بهذه القوة
المستمرة في هذه المادة ”
تابع وين دي التحديق فيه وهو يستدير ليدوّن المعادلات على السبورة
أكمام قميصه الأبيض مرفوعة حتى المرفقين ،
كاشفًا عن عضلات ساعديه الصلبة
أصابعه طويلة ونحيلة ،
وعندما قبض على الطبشور ، بدت الأوردة على ظهر يده كأنها ترسم قوسًا أنيقًا
أسلوب تدريسه كان حادًا وأنيقًا تمامًا مثل مظهره الخارجي
ورغم أن المحاضرة بدت لوين دي كما لو كانت مكتوبة
بلغة من عالم آخر ، إلا أنه لم يشعر بالملل أبدًا
و بينما يستمع إلى النبرة الهادئة لذلك الرجل على المنصة ،
ويتأمل عينيه العميقتين ،
اشتعل فجأة في قلب وين دي ذلك “الدماغ العاشق” الذي
ظل ساكنًا لوقتٍ طويل ….
ومنذ ذلك الحين ، كلما مرّ من أمام مبنى التدريس الثالث،
كان يتوقّف للحظات ليتأمله
وإذا كان لديه وقت فراغ ، كان يرتدي كمامة ويتسلل إلى
قسم الرياضيات ، ليجلس في المقاعد الخلفية مستمعًا
بصمت إلى المحاضرات
ومع ذلك —- لم يتعدَّى الأمر حتى الآن مجرد إشباع فضول
فلم يتبادل مع ذلك الأستاذ كلمة واحدة
كان قلبه يخفق منذ أسابيع ، بينما الأستاذ لم يلقِ عليه حتى نظرة واحدة
عندما فكّر في ذلك ، امتلأ صدر وين دي بغيومٍ من الكآبة
{ لا تقدّم أكاديمي ،
مشرف مزعج ،
وأعمال متفرقة لا تنتهي ،
والعلاقات العاطفية لا وجود لها من الأساس ….
لقد دخلت في سنته الرابعة من الدكتوراه…
فهل ستنتهي حياتي الأكاديمية بهذه المأساوية ؟ }
تعالى صوت نعيق الغربان على طريق الجامعة ،
وكأنها تضيف لمشهد الكآبة لمسة سوداوية أخرى ~~~
اهتز هاتفه من جديد ،
وظهرت رسائل متتالية على الشاشة
جمع وين دي أغراضه — { لا يوجد فائدة من الاستسلام
للمشاعر ، من الأفضل أن أُركّز على العمل أولًا }
ظل يعمل على تعديل بحثه في المكتبة القديمة حتى العاشرة مساءً ،
ثم عاد إلى المنزل بعد إغلاق المكتبة
استمر في جمع المواد حتى الساعات الأولى من الصباح
وفي لحظةٍ ما، غلبه النعاس على مكتبه
كان ذلك أشبه بنوم شخص أُنهك حتى الإغماء—نوم بلا شوائب، بلا أحلام
ثم، وسط الظلام، دوّى صوت صرير حاد مفاجئ
استفاق وين دي دفعة واحدة
كان الصوت حادًا وباردًا،
أشبه بشخصٍ يحكّ معدنًا بأظافره
اقشعر جلده وقفز من مقعده مذعورًا
وقبل أن يلتقط أنفاسه، انهمر عليه صريرٌ تلو الآخر كلكمات متتالية،
جعلت جسده يرتجف بأكمله،
ورأسه ينبض بالألم كما لو أن أحدهم حفر فيه بأسلاك كهربائية
انهار وين دي على السرير يمسك رأسه محاولًا استيعاب ما يحدث
{ كان ذلك …. صوت كمان 🎻 … قريب جدًا…
على الأرجح من الشقة المجاورة
في صباح اليوم الوطني من هذا الذي يُجبر طفلًا على العزف على الكمان ؟! }
لقد امتلأ الغيظ والحزن قلبه منذ فترة ، فأخرج هاتفه
حين استأجر الشقة ، ومن أجل الحصول على معلومات
الكهرباء والماء في الوقت المناسب،
أضافه زميله الكبير إلى مجموعة WeChat الخاصة بالبناية
باستخدام حسابه الثاني
فتح المجموعة ، ووجد الحساب الذي يحمل ملاحظة (شقة رقم 301)، ثم أضافه للمحادثة الخاصة
استمر صوت الكمان في تعذيبه لخمس دقائق أخرى حتى توقف
ألقى وين دي نظرة على هاتفه ،
فرأى أن الطرف الآخر قد قبِل طلب الإضافة
فأرسل له رسالة :
[ اليوم عطلة ، والجميع يحاول أن يستريح .
هل يمكنك التدرب على الكمان في مكانٍ آخر ؟]
شعر وين دي أن نبرته كانت لطيفة جدًا ،
وفيها احترام الرجل المتحضّر قبل أن يكون صارمًا
لكن من كان يتوقّع أن يأتي الرد بهذه السرعة :
[ هذه مساحة خاصة بي،
سواء عزفت الكمان أم لا فهذا من حريتي الشخصية.]
عبس وين دي حاجبيه
{ أي نوع من الوقاحة هذا ؟ }
فكتب له مجددًا:
[ حتى في المساحات الخاصة ، يجب مراعاة الذوق العام ، أليس كذلك ؟
البناية ليست ملكًا لشخص واحد ، وإذا سبّبت
ضوضاء كهذه ، فالجميع سيتضرر .]
رد الطرف الآخر مرةً أخرى:
[ ضوضاء ؟
كيف تطلق على موسيقى الآخرين صفة “الضوضاء”
بهذه البساطة ؟]
شعر وين دي بغضبٍ مفاجئٍ يتصاعد في صدره
{ أي موسيقى هذه ؟ هل يملك أذنين أصلًا ؟! }
وقبل أن يتمكن من الرد ،
أرسل صاحب الشقة 301 رسالة في قروب المبنى :
[ هل سمع أحد الضوضاء القادمة من الطابق الثالث ؟]
حدّق وين دي في الشاشة بدهشة
{ لماذا يحفر هذا الشخص قبره بيده ؟! }
لكن سكان الطابق الثاني والرابع ردوا الواحد تلو الآخر :
[ لا ]
[ أي صوت ؟ ]
وقف وين دي مذهولًا { هااه !!! …
هل فقد الآخرون سمعهم ؟! }
ثم وصلته رسالة خاصة من الجار المجاور :
[ لا أحد سمع أي ضوضاء ، من الأفضل أن تبحث عن
السبب في نفسك .]
انفجر وين دي من الغيظ وكتب:
[ نعم، هذا ليس مجرد ضوضاء ، بل إزعاج صريح !
إذا عزفت مجددًا ، سأبلغ الشرطة !]
سادت لحظة من الصمت ،
لا رسائل من الطرف الآخر ،
حتى صوت “نشر الخشب” توقف فجأة
تنفس وين دي الصعداء ، ظنًّا أن الكارثة قد انتهت
لكن فجأة، ظهرت رسالة من الطرف الآخر، تحتوي على رابط من موقع تاوباو ( علي بابا )
فتح وين دي الرابط بفضول، فظهرت صورة جهاز قياس الضوضاء
ثم ظهرت رسالة تحت الصورة تقول :
[ الضوضاء تُعتبر إزعاجًا فقط إذا تجاوزت 55 ديسيبل خلال النهار ،
لا تنسَى قياس مستوى الصوت قبل الاتصال بالشرطة .]
يتبع
زاوية الكاتبة :
1. شو لديه حبيب سابق ، شخص كان يشعر تجاهه بمشاعر حقيقية
الحبيب السابق شخص حقير ، لكن الغرض الرئيسي من
ظهوره هو إضفاء جو من الفكاهة .
2. الدراسة للحصول على درجة الدكتوراه في الآداب
والعلوم (أو الدراسة مع مستشارين مختلفين) قد تكون مختلفة
تجربة وين دي تحتوي على عنصر من الإبداع الفني.
¹ تعبير صيني شائع (卧虎藏龙) يشير إلى مكان يضم أشخاصًا موهوبين مخفيين.
² منطقة سكنية راقية قرب الجامعات، في حين أن “منتوغو” منطقة نائية رخيصة.
³ موهيي : أبرد مدينة في الصين، رمز للمناطق منخفضة التكلفة والمعيشة القاسية.
⁴ “ظرف التخفيف” هنا يقصد به استعمال صيغة أخف للكلمات.
⁵ المجلات الصينية تُصنف إلى A وB وC حسب مستوى الأهمية والتأثير الأكاديمي.
A و B مجلات الهندسة والعلمية
C : تشمل بشكل عام المجلات الوطنية والمحلية .
المجلة؛ CSSCI (مؤشر الاستشهادات في العلوم الاجتماعية الصينية)، والتي يشار إليها غالبًا باسم "مجلة C"، هي المجلة الأساسية الأكثر موثوقية في مجال العلوم الاجتماعية وتعتبر أعلى مستوى من المجلات الأساسية في هذه الرواية .
تعليقات: (0) إضافة تعليق