Ch19 | DSYOM
[ وأنا أبحث عن ألمك ، صادفت آلامي بعد عناء عسير ]
في الأسابيع التالية ، وربما بسبب انشغاله بالعمل ،
لم يتواصل البروفيسور مع وين دي
ومع ضغط المشرف وإرهاق أطروحة الدكتوراه ،
لم يعد لديه وقت للتفكير في الموعد المؤجَّل ،
فعاد إلى حياة باهتة يملؤها البحث العلمي —-
المكتبة الأحدث في الجامعة ، مكتبة العلوم الإنسانية ،
تضم طاولات كبيرة ومساحات رحبة ،
وديكور وإضاءة مريحة ، لكن المقاعد جميعها تُحجز قبل
العاشرة صباحًا
وجد وين دي مقعد في الطابق الثالث من الجناح الشرقي،
فتح جهازه اللابتوب ، ودخل إلى قاعدة بيانات المجلات
ليتصفّح العدد الأخير من المجلة الشكسبيرية الفصلية
توجد فيها أبرز الأبحاث وأكثر المقالات استشهادًا تدور
جميعها حول دراسات العِرق
أما موضوعه البحثي فكان دراسة مقارنة لثقافة المسرح
الصيني والإنجليزي ،
وهو مجال ابتعد عن التوجّه الأكاديمي الرائج في السنوات الأخيرة ،
ومن باب التعلّم من إخلاص كبار الباحثين في طلب المعرفة ،
ضغط وين دي على مقالة بعنوان : [ المغاربة : عطيل
وإعادة تشكيل مفهوم العِرق في عصر النهضة ]
تصفّحها سريعًا، وتنفس الصعداء
فحتى لو حاول أن يركب الموجة الدارجة ،
فلن يتمكّن من كتابة بحث متقن بهذا المستوى
أغلق موقع المجلة الشكسبيرية الفصلية،
وبدأ بالاطلاع على بعض المراجع في مجلة المسرح الآسيوي
لقد بدأ مؤخرًا في صياغة دراسة مقارنة عن التكييفات
العابرة للثقافات بين مسرحيات شكسبير وأعمال تانغ شيانزو
بعد الغداء ،
جلس على مقعد خشبي قاسٍ ، يرهق عقله ، ويكتب ببطء متقطع ،
فلم ينجز أكثر من خمسمائة كلمة طوال فترة بعد الظهيرة
وعند العشاء ، ظلّ يفكّر فيما كتبه ،
وكلّما أمعن التفكير وجد أن منطقه معيب ،
حتى انتهى به الأمر مساءً إلى حذف الخمسمائة كلمة جميعها
وبالنظر إلى الأيام الماضية ، كان معدّله لا يتجاوز الألف
كلمة يوميًا – باستثناء الحواشي – ونصفها تقريبًا كان يُعاد
تعديله وحذفه مرارًا
غرق في حالة نفسية سلبية بسبب بطء التقدّم ،
ومن فرط هذا الإحباط تباطأت خطاه أكثر
ومع أسلوب مشرفه المتنصّل، وجد نفسه متروكًا ليدبّر أمره وحده،
فشعر بحزن عميق، خصوصًا حين تذكّر طالب الدكتوراه من
قسم الكيمياء الذي قفز من سطح المبنى قبل أيام
تنفّس بعمق —- ، وقرّر أن يركض بضع لفّات حول ملعب
الرياضة ، آملاً أن يعيد النشاط الحياة إلى خلايا دماغه المتعبة
وما إن خرج من البوابة الرئيسية للمكتبة القديمة حتى
ارتجف ، وشدّ معطفه المحشوّ حول جسده ،
وبدأ يركض بخطى بطيئة نحو ملعب الرياضة بجانب البوابة الشمالية الشرقية
ربما بفضل متطلبات الجامعة الصارمة للياقة البدنية ، كان
هناك كثير من الطلاب يركضون ليلًا في الملعب، يضعون
سماعات في آذانهم وينفثون أنفاسًا بيضاء في البرد،
يركضون في مجموعات صغيرة من اثنين أو ثلاثة
وفي وسط الملعب ، على العشب الاصطناعي ،
جلس عشّاق متقاربون رغم الطقس القارس ،
ورغم أن بلورات الجليد تتدلّى على العشب ،
إلا أنهم ظلّوا في أماكنهم
وين دي نظر إلى تلك الوجوه الشابة التي لم يمضِ على
دخولها عالم البلوغ سوى وقت قصير، فغمره شعور بالغيرة
في سنوات دراسته الجامعية ،
ورغم أنه كان في علاقة عاطفية وقتها ،
إلا أنهما كانا في مكانين مختلفين دومًا ،
فلم تتح له فرصة أن يجلس على الملعب ليراقب النجوم مع أحد
والآن ، رغم أن في قلبه شخصًا يُعجَب به،
إلا أن مثل تلك الأوقات الخالية من الهموم باتت بعيدة المنال إلى الأبد
وضع حقيبته في خزانة عند زاوية ملعب الرياضة ،
وبدأ يركض على المسار الداخلي
لم يكن يمارس الرياضة كثيرًا ، لكن في المرات القليلة التي
يفعل فيها، كان يتصبب عرقًا قليلًا ،
فيشعر براحة وكأن مسارات جسده الداخلية قد انفتحت ظل
هواء الليل البارد ، مع اندفاع الدم ، أطلق شرارة في ذهنه فجأة ،
كأنه عثر أخيرًا على الخيط الصحيح داخل كومة متشابكة
أفكاره بدأت تنحلّ ، كخيط دودة قز يُسحب من شرنقته ،
حتى ظهرت له الرؤية بوضوح
وبينما ينظّم أفكاره بسعادة ، لمح فجأة هيئة مألوفة عند حافة المضمار
كان لا يزال بتلك الهيئة اللافتة للنظر — شَعر طويل يتدلّى
على الكتفين ، مصبوغ عشوائيًّا بلون من ألوان قوس قزح،
يلمع حتى في عتمة الليل
لا معطف سميك في درجة حرارة تحت الصفر ،
مجرد سترة وحذاء جلدي ،
و خواتم فضية براقة تلمع في أصابعه
في كل مرة يرى فيها وين دي هذا الشخص ،
يساوره الشك أنه يتمنى أن يتحول إلى قنديل بحر مضيء
نادى بصوت ارتفع مع خفة جسده بعد الجري :
“ جياااانغ نااااانزي! ماذا تفعل هنا ؟”
وفي ضوء المصباح الخافت ، رأى وين دي زميله القديم يتصلّب مكانه
ومن رد الفعل هذا ، بدا أن في الأمر سرًّا يخفيه
تقدّم وين دي وسأله :
“ عدت إلى البلاد ؟ متى رجعت ؟”
قال جيانغ نانزي وهو يُدخل يديه في جيبيه :
“ من وقت قصير ”
كان الحفاظ على المظهر اللائق وكأنه مبدأ لدى أبناء الأثرياء
— يتحملون الصقيع القارس وهم يصرون على أسنانهم ،
يرفضون ارتداء السراويل الصوفية الداخلية ،
فارتجف وين دي بالنيابة عنه
وين دي:
“ الآن ليس عطلة في الخارج ، لا يزال وقت طويل على الكريسماس .”
ضيّق جيانغ نانزي عينيه :
“ طلبت إجازة من مشرفي .”
وين دي:
“ حتى لو رجعت ، ما الذي جاء بك إلى بكين ؟
ألم يكن من المفترض أن تعود إلى مسقط رأسك ؟”
جيانغ نانزي:
“ جئت إلى بكين قليلًا للتسلية ، ولألتقي ببعض زملاء الدراسة .
أم أنك وحدك الطالب في جامعة T ؟”
بعد التمارين كان ذهن وين دي نشطًا فقال بسرعة :
“ إذًا لماذا لم تخبرني أنك هنا؟ لقد تحدثنا قبل أيام فقط .”
كان جيانغ نانزي ما زال يفكّر في طريقة للتهرّب،
حينها أخرج وين دي هاتفه وفتح تطبيق ويبو لجيانغ نانزي
حساب نشط بشكل معقول،
كان ينشر فيه معلومات علمية وبعض يوميات دراسته في
الدكتوراه ، وكان وين دي يتصفحه كلما واتته فرصة
أراه الشاشة قائلًا :
“ موقعك الحالي ما يزال في الولايات المتحدة .
هل حفرت نفقًا عبر مركز الأرض وانتقلت إلى هنا ؟”
لكي يبقى موقعه ظاهرًا في الخارج،
كان عليه أن يُبقي برنامج الاتصال على الشبكة الافتراضية
مشغّلًا طوال الوقت
وذلك لم يكن سوى خداع متعمّد
حين كُشف كذبه ، ارتسمت على وجه جيانغ نانزي لمحة من الحرج ،
لكنه سرعان ما استعاد هدوءه ، وحدّق بلا مبالاة في مباني
السكن الطلابي البعيدة
قال وين دي وهو يرمق تعابيره بقلق مفاجئ:
“ ما الذي حدث ؟”
أجاب جيانغ نانزي ببساطة :
“ انسحبت من الدراسة .”
كأن صاعقة نزلت على رأس وين دي فبقي مذهولًا :
“ ماذا ؟”
رفع جيانغ نانزي بصره نحو السماء الخالية إلا من بضع نجوم ،
واتخذ وضعية مفكّر لا تلائمه قط :
“ لا أفكار ، لا نتائج ، وحتى بعد أن بدّلت موضوع بحثي ، لم أصل إلى شيء .
حين بدأت الدكتوراه ، كنت مفعمًا بالحماس ،
أتعافى بسرعة بعد كل انتكاسة ، وأمضي قدمًا دومًا .
لكن الآن…” ابتسم بخفة : “ في ذلك الوقت كنت أظن أنّه
ما دمتَ تعمل بجد ، وتصبر وتثابر ، فلا بد أن تحقّق شيئ .
لكن عندما أفكر بالأمر الآن… إذا كنتَ تضرب صخرة
عشوائيًّا دون اتجاه ، فحتى لو ضربتها لعشرة آلاف سنة ،
هل تظن أنك ستصنع منها تمثالًا جميلاً ؟”
شعر وين دي بألم حاد في صدره،
وكأن جرحًا كان مدفونًا في الأعماق قد انفتح فجأة،
وخرج معه خوف دفين ظلّ مختبئًا لسنوات طويلة
جيانغ نانزي:
“ فقط لم أعد قادرًا على الاستمرار .
كم تمنيت أن أعود أربع سنوات إلى الوراء ، وأجد ذلك
الشخص الذي كان يلهث ليُرضي الأساتذة ،
وأحذّره ألّا يأتي إلى هنا أبدًا .
لكن فات الأوان… فات الأوان كثيرًا ….
من الثالثة والعشرين إلى السادسة والعشرين—أجمل
سنوات العمر—ضاعَت في المكان الخطأ، وفي الاتجاه الخطأ ”
تأمل وين دي وجهه ، وخدّاه متجمّدان من البرد ، ثم تنهد قائلًا :
“ ومن ليس كذلك ؟
لكنك الآن في سنتك الرابعة من الدكتوراه…”
كانت الكلفة الغارقة عالية جدًّا ، يصعب الانسحاب بعدها
وين دي:
“ ابحث فقط عن موضوع مناسب ، انشر بضع مقالات ، وتخرّج بها .”
ابتسم جيانغ نانزي ابتسامة باهتة :
“ لا أريد العودة إلى المختبر الآن .
أحتاج إلى بعض الوقت لأهدأ وأفكر بصدق إن كان البحث هو حقًا ما أريده .”
ظلّ وين دي يحدّق فيه طويلًا ثم انتزع من بين شفتيه جملة بصعوبة :
“ لكنها… جامعة برينستون…”
{ كم من الناس يقاتلون بشراسة ، ويبذلون جهود ثلاثة أجيال كاملة ، فقط ليصلوا ذلك المكان ؟
أيمكن التخلّي عنه بهذه البساطة ؟ }
اكتفى جيانغ نانزي بهز كتفيه صامتًا
تردد وين دي لحظة ، ثم قرر ألّا يضغط أكثر
فمَن ذا الذي ينسحب من دراسته في سنته الرابعة من
الدكتوراه إلا إذا كان قد وصل إلى طريق مسدود ؟
وين دي:
“ لماذا لم تخبرني من قبل ؟ كنت أظن أنك بخير .”
في أحاديثهما السابقة لم يبدُ على جيانغ نانزي أي أثر
للضيق ؛ كان يمزح كعادته
بل إن وين دي كان قد ذكر له بعض موضوعات بحثه،
وكان جيانغ نانزي يبدو حينها متحمسًا كما كان قبل أربع سنوات
جيانغ نانزي:
“ كنت قد تعافيت آنذاك. قبل أن أعود ، كنت في حالة سيئة جدًا ،
لكن بعدما هربت من المختبر وقضيت شهرًا هادئًا
أستعيد نفسي ، صرت أفضل قليلًا .”
الوقوف طويلًا في البرد جعل أقدامهما تتخدّر
وبينما استمرّا في الحديث ، بدآ يسيران لا إراديًّا على طول المضمار
شعر وين دي وكأن آلاف الأفكار تثقل صدره
وبعد صمت طويل، تمتم أخيرًا :
“ كنتُ أظن أنك ستكون بخير حتمًا .”
حتى في جامعة T قلّة قليلة من الطلاب وصلوا إلى برينستون
جيانغ نانزي كان الثاني على دفعتهم—متحمّسًا، ذكيًّا، وذا هدف واضح
منذ سنته الأولى، كان قد حدد مساره نحو البحث العلمي؛
كان من أولئك الذين طالما حسدهم وين دي
كان يظن حقًا أنه سيكون بخير
جيانغ نانزي:
“ أنت تتوقع مني أكثر مما أستحق ”
حين سمع وين دي ذلك الصوت الذي اعتاد الثقة بالنفس
وقد صار متواضعًا فجأة ، غمره حزن شديد
سأله:
“ هل يعلمون عائلتك ؟ هل يفهمونك ؟”
كان وين دي يعتقد دومًا أنه يملك أفضل والدين في العالم
ومع ذلك، لو قال لهما إنه يريد الانسحاب، لما تقبّلا الأمر بسهولة
فكيف إذا كان الأمر يتعلّق بجامعة T أو حتى برينستون ؟
حين يتعثّر المرء أكاديميًّا ، ويبدو المستقبل مظلمًا ،
وتهوي الحياة إلى القاع ،
ويصبح الانهيار النفسي وشيكًا — فإن دفع الأهل أكثر مما
يجب قد يقود إلى نهاية مأساوية
لقد سمع وين دي الكثير من القصص المرعبة كهذه
جيانغ نانزي:
“ لا ”
رفع وين دي حاجبيه :
“ حقًا ؟”
: “ لم يصفعوني ، ولم يقولوا إنني دمّرت مستقبلي ، أو
خيّبت آمالهم… لم أرهم أصلًا .
خرجت من المختبر وأنا أحمل طلب الانسحاب ،
واتصلت بهم لأخبرهم أنني سأترك الدراسة .
فقالت لي أمي إنها ستتزوج من جديد وتنتقل إلى كندا .
وقال أبي إن أعماله ليست على ما يرام مؤخرًا ،
وإن السوق ككلّ صعب .”
وين دي { لم يذكر أيّ منهما اسم جيانغ نانزي أصلًا …
إذن هكذا الأمر ،،،،،
لا عجب… لا عجب أن ' توماس' ظهر مجددًا }
فجأةً، راود وين دي شعور قوي برغبته في معانقته، فسأله:
“ أين تعيش الآن ؟”
جيانغ نانزي:
“ استأجرتُ شقة بغرفة واحدة في مجمع سكني بجوار الجامعة .
لا تقلق بشأن المال ، ما زال لدي مصروف يكفيني .”
المعيشة لم تكن المشكلة ، بل الصحة النفسية
فحتى وإن قال جيانغ نانزي إنه تعافى،
إلا أن طالب الدكتوراه في الكيمياء الذي ألقى بنفسه من
فوق المبنى كان يبدو بخير تمامًا قبل يوم واحد فقط
وين دي:
“ إذا أردت أن تفضفض لشخص ما، يمكنك الاتصال بي في
أي وقت. أنا طالب، وجدولي مرن .”
نظر إليه جيانغ نانزي لحظة ، ثم دفعه بمرفقه بخفة ، وأعاد
يديه إلى جيبيه قائلًا :
“ أنا بخير حقًا ، لا تكن متوترًا هكذا .
فقط اعتنِ بنفسك—ألستَ أنت من يلاحق شخصًا الآن ؟”
وين دي:
“ الأصدقاء أهم من العشّاق .”
ضحك جيانغ نانزي:
“ هذا كلام جميل ….
حسنًا، أنا مرتاح بالوحدة والهدوء .
لكن إن كنتَ قلقًا فعلًا من أنني لن أستطيع الاعتناء بنفسي ،
فتعال في عطلة نهاية الأسبوع . لديّ هدية لك بالمصادفة ”
وين دي مستغربًا :
“ أيّ هدية هذه التي تأتي هكذا فجأة ؟”
ربت جيانغ نانزي على كتفه :
“ إنها سرّ ”
وما إن أنهى كلامه حتى وضع زميله القديم السماعات في أذنيه ، واستأنف جريه الليلي في الريح الباردة
ظل وين دي يتابع جسده يبتعد، وهو غير واثق من شعوره
لكنّه كان في النهاية غريبًا عن تفاصيل حياته،
ولم يستطع أن يقدّر حقيقة ما يعيشه زميله
وبعد طول تفكير، قرر أن يزوره في نهاية الأسبوع ليتفقد حاله بنفسه
أكثر الباحثين الواعدين الذين عرفهم قد سقط،
تاركًا في نفس وين دي شعورًا مرعبًا بالهلع،
وفي طريق عودته، أعاد ترتيب أفكاره التي قد انجلت للتو،
وتأكد أن منطقه سليم، فزفر نفسًا طويلًا في هواء الليل البارد
توقف عند التقاطع،
وشد معطفه المحشو حول جسده
لا يفصله عن مجمع شقته سوى طريق واحد ، ومع ذلك،
كان دومًا يعلق عند الإشارة الحمراء
وكأن إلهًا ما لم يكن راضيًا عنه على الإطلاق
صفير الرياح الباردة يملأ المكان،
فرفع سحّاب المعطف حتى نهايته،
لكن البرد تسلل إلى عنقه،
وأذناه تدفأتا قليلًا تحت القبعة،
لكن وجهه ظل يلسعه الصقيع
مقاومته للبرد كانت ضعيفة جدًا ،
وحتى يداه المرتجفتان لم ينجُهما دفنُهما في جيبيه
وبالطبع، رنّ هاتفه في تلك اللحظة بالذات
ارتعش وين دي، وعطس، ثم وهو يغطي أنفه، أخرج هاتفه ليردّ
{ أي أحمق عديم الذوق يتصل في هذا الوقت ؟ }
: “ مساء الخير ”
ظهر صوت حبيبه السابق ——
تدحرجت عينا وين دي بضيق
{ كما توقعت ، هذا الوقح لم يتفضل حتى بالاتصال وأنا في مكان دافئ }
هيي ونشوان ببرود :
“ لم تتوقع أني سأتصل؟”
أجاب وين دي وهو يضبط حزام حقيبته :
“ أنا مشغول . سأغلق الخط .”
هيي ونشوان:
“ أنا اتصلت رغم ما فعلته بي آخر مرة .
على الأقل أعطني فرصة لنتحدث .”
أضاء الضوء الأخضر ، فاتجه وين دي نحو مجمع شقق هتشينغ غاردن
ورغم أن المبنى قديم ، إلا أن خضرته جميلة
في الحديقة الصغيرة بوسطه ، الممرات مرصوفة بالحصى،
وأشجار السرو دائمة الخضرة كثيفة حتى في الشتاء،
سهلة الاختباء بين ظلالها
شبك ذراعيه وهو يسير في الممر،
وجهازه اللابتوب وكتبه على ظهره يثقّلانه،
بينما البرد يتسلل إلى أطرافه
تمنى لو تنتهي المكالمة بسرعة
وحاول ألا يُظهر أن ارتجافه يضعف جدية نبرته، فقال:
“ لقد قلتُها كثيرًا من قبل . لا رغبة لي بالعودة إليك .
أي جملة لا تفهمها ؟
أذكر أنك بارع في اللغة الصينية .”
تنهد هيي ونشوان
كان بارعًا في إظهار ملامح الندم ونبرات الذنب ليكسب الشفقة
وللحظة تذكّر وين دي اليوم الذي استلم فيه رسالة قبوله
وكما توقع ، جاء صوت هيي ونشوان ضعيف ، مليئ بالأسى:
“ كل الخطأ كان منّي في السابق .
أعطني فرصة أعوّضك فيها . سأفعل بالتأكيد…”
قاطعه وين دي بصرامة :
“ لا حاجة .
الحياة ليست مباراة كرة ، إذا أخطأت في الشوط الأول ثم
لعبت جيدًا في الثاني ، فلا يعني أن النتيجة تعادلت .
أنا لم أؤمن يومًا بمثل هذه التعويضات .”
ساد صمت طويل ، ثم قال هيي ونشوان بأسف:
“ لم تكن هكذا من قبل .”
ارتجف وين دي وهو يتذكر أحداث الماضي التي لا يليق
وصفها إلا بـ “روايات الدراما السخيفة”،
وتساءل { كيف ما زال هذا الرجل عالقًا في وهمه كأمير مدلل ؟ }
هيي ونشوان :
“ مهما فعلتُ سابقاً ، كنتَ دائمًا تدعمني ، تتحملني…”
فأجابه وين دي ببرود :
“ هذا لم يكن بفضلك . أنا فعلتُ ذلك لأني كنت أحبك .
والآن بعدما انتهى ذلك الشعور ، رجاءً لا تذكره ثانيةً .”
هيي ونشوان بإصرار:
“ أنا لا أصدق . علاقتنا استمرت لسنوات طويلة ، كيف
يمكن أن تنتهي فقط لأنك تقول إنها انتهت ؟”
{ هل هذا الرجل يفهم لغة البشر أصلًا ؟ اعترف بخطئه ،
لكنه ما زال يتعامل وكأن المشاعر لا يمكن أن تزول!
لم يكن في حديثه أي نية حقيقية للتأمل في نفسه }
تنهد وين دي وقال بحدة :
“ دعني أوضح لك: أنت أيضًا لم تكن تحبني كثيرًا ، لذا توقف
عن التظاهر وكأنك عاشق مخلص بعمق .”
عبس هيي ونشوان حاجبيه:
“ كيف تقول ذلك ؟ لقد أحببتك دائمًا ، فقط لم أُدرك ذلك من قبل .
جننت وأنا أبحث عن رقمك ، وسافرت آلاف الأميال لأراك ،
ووقفت في الرياح الباردة بانتظارك —ألا يُثبت ذلك شيئًا ؟”
صمت وين دي يحدّق في الفراغ بينما تتطاير أوراق الشجر
اليابسة حول قدميه، تتساقط وترتجف فوق غطاء مجاري صدئ
حين تكلم مجددًا ، كان الغضب يتفجر في صوته:
“ اليوم حتى أطفال الروضة يعرفون من يحبون ،
وأنت ، رجل بالغ ، لك عمل وعائلة ، تأتي لتقول لي: لم أكن
أدرك أني أحبك ؟” صرخ بغضب : “ لقد أسأتَ لكرامتي في
الماضي ، والآن تهين عقلي !”
كان من الواضح أن هذا الرجل يستغل كونه في الطرف الآخر
من الهاتف ليقذف بتلك الترهات بلا خجل
ساد صمت قصير، ثم قال هيي ونشوان ببرود :
“ أنا فقط أعرف أني أحبك . ولن أترك شيئًا أحبه .”
مدّ وين دي يده إلى شعره ، شد عليه بقوة ،
يشعر بحرارة الغضب ترتفع في حلقه ،
وأنهى المكالمة بجملة واحدة :
“ مجنون .”
ثم أغلق الهاتف ، ويداه ترتجفان بلا سيطرة،
غير متأكد إن كان السبب البرد أم الغضب
لم يعد يفهم ما أصاب هذا الرجل هذه السنة ،
رسائل واتصالات بلا توقف
{ إن استمر الأمر ، فلن أجد حلًا سوى إبلاغ الشرطة ورفع شكوى تحرش }
وبينما كان شارد الذهن بالمكالمة ، وجد نفسه قد تجاوز الحي بأكمله
وفي هذا البرد القارس، اضطر أن يعود أدراجه،
وهو يسبّ بين الحين والآخر
وعندما وصل إلى أسفل المجمع ، شعر ببرودة على مؤخرة عنقه.
مدّ يده ليلمسها، وكأن قطرة ماء سقطت في بحر من الذكريات
فجأة تذكّر البروفيسور الذي لم يسمع منه منذ فترة طويلة
فتح ويتشات وكتب:
[ بروفيسور الجو في بكين يقترب من عشر درجات تحت
الصفر . متى ستعيد لي الوشاح ؟]
جاء الرد بسرعة :
[ أنا في نيفادا للأسبوعين القادمين .]
{ بالتأكيد أنه في بعثة تبادل علمي خارجية } كان وين دي
على وشك أن يكتب: ' إذن نتحدث لاحقًا ' لكن الطرف الآخر
أرسل رابط من تاوباو
فتحه وين دي، فإذا هو وشاح مطابق تمامًا لذاك الذي أعاره له
بيان تشنغ: [ سأشتري واحدًا جديدًا .]
{ يا إلهي ! من الذي يطلب استرجاع وشاح أصلًا ؟
لم أكن فقيراً لدرجة أنني لا أستطيع دفع عشرين يوانًا لأشتري واحد جديد ! }
كتب له وين دي:
[ لا داعي ، الفرق بين حرارة النهار والليل هناك كبير ،
الأفضل أن تحتفظ به لتحمي به عنقك .]
لكن بيان تشنغ أرسل صورتين بعدها مباشرةً
{ البروفيسور يعرف كيف يرسل صورًا أيضًا ؟ }
فتح وين دي الصور ، فإذا بها لقطات طبيعة ،
وكأنها مأخوذة من طائرة مروحية
وادٍ أحمر يمتد عبر الأرض ، جدرانه الصخرية تحمل آثار
تطور القشرة الأرضية
السماء الزرقاء ، والتربة الصفراء ، والطريق السريع ،
والمنحدرات… باختصار ، جوهر الغرب الأميركي تجسد أمام عينيه
أرسل وين دي مجاملة مهذبة :
[ جميلة جدًا ]
لكن الطرف الآخر ظل يظهر أنه يكتب… ثم يمسح…
ثم يكتب… ثم يمسح مجددًا ،
حتى كاد يصيب طالب الدكتوراه ، المرتجف من البرد ،
بالجنون من طول الانتظار
وقبل أن يصل وين دي إلى بوابة مجمع حديقة هيي تشينغ ظهر أخيرًا الرد
بيان تشنغ [ فقط جميلة ؟ ليس لديك رأي آخر؟]
{ أوه؟ مجرد أن أقول إنها جميلة لا يكفي؟
هل التوقعات من الثناء على الصور الطبيعية وصلت لهذا الحد ؟ }
احتار وين دي قليلًا ، ثم كتب بعد تفكير:
[ سيكون جميلًا لو استطعت زيارتها يومًا ما.]
عاد الطرف الآخر لمرحلة الكتابة… ثم الحذف… مجددًا
وبعدما وصل وين دي إلى المنزل،
ظهر إشعار برسالة جديدة،
وحين فتحها كاد يسقط هاتفه من يده
بيان تشنغ: [ هل سبق وتعرضتَ لحادث سير ؟]
{ ماذا ؟! هل صار يلعن الناس بدلًا من الرد ؟ }
كتب وين دي بسرعة:
[ قد أكون فقير ، لكنني لست بائسًا لهذه الدرجة .]
بيان تشنغ: [ هل عندك انفصام شخصية ؟
وكل شخصية لا تحتفظ إلا بذاكرتها الخاصة ؟]
بدأت ملامح وجه وين دي تزداد تشوهًا من الغضب والذهول :
[هل تنوي تغيير مهنتك وتكتب روايات ؟]
وبعد فترة قصيرة ، جاء الرد :
[ آسف، لا تهتم بكلامي . الاجتماع سيبدأ الآن، نلتقي لاحقًا .]
وتوقف الحوار عند هذا الحد
وين دي { غريب جدًا !
أي عطل أصاب هذا العالم اليوم ؟
لماذا يبدو وكأن كل شخص قد تلبّسته الأرواح ؟ }
يتبع
تعليقات: (0) إضافة تعليق