Ch56 | DSYOM
[ إن حضورك في الليل يجعل صباحي نديًّا جديداً ]
خرج سونغ يوتشي من مبنى معهد وودز هول لعلوم
المحيطات ،،
فاستقبله نسيم البحر المالح الرطب ،،
هذا المعهد الشهير لأبحاث أعماق البحار في أمريكا
الشمالية لم يكن فقط محراباً أكاديمياً ، بل أيضاً يزدان
بمشاهد بحرية خلّابة ،
سار عبر غابة الصنوبر ، ثم خطا إلى الدرب الضيق المؤدي
إلى الشاطئ ،
بدأت الخضرة تتناقص لتحلّ محلها الكثبان الرملية
ترددت في الأجواء أصوات النوارس ،
وحفيف أعشاب الشاطئ ،
وهدير الأمواج المتكسّرة على الساحل
وما إن تجاوز صخرة حتى انفتحت أمامه الرؤية فجأة
القوارب تتأرجح صعوداً وهبوطاً مع البحر ،
والغيوم الملبّدة تبدو قريبة كأنها في متناول اليد
كان الجو قاتماً ، البحر رمادي ، والرياح البحرية كذلك رمادية ،
تعوي في نوبات متلاحقة كما لو أنها تنذر بعاصفة قادمة
وسط هذا المشهد الموحش ، رأى سونغ يو تشي شخص على الشاطئ
شاب ، في مثل عمره تقريباً ، بملامح جميلة ،
لافتاً للنظر على الرمال بسبب لون شعره الأزرق
في هذا اليوم الكالح ، لم يبقَى من زرقة البحر إلا ما في رأسه
كان الشاب جاثياً على الرمل ، و عند قدميه حفرة ضحلة ،
وإلى جواره كومة صغيرة من الرمل
كان يضع شيئاً بعناية في الحفرة ، ثم يغطيه بلطف بطبقة من الرمال
سأله سونغ يو تشي:
“ ما الذي تدفنه ؟”
بدا الشاب غارقاً في عمله ، فلم ينتبه لاقترابه
وما إن سمع السؤال حتى ارتجف ، وانهارت الكومة الرملية بجانبه
عاود سونغ يو تشي:
“ هل أنت طالب دكتوراه في المعهد ؟
أي مشروع تعمل عليه ؟”
الشاب :
“ قناديل البحر "
انتظر سونغ يو تشي مزيداً من التفاصيل ،
إذ من المفترض أن يكون المشروع أكثر تحديداً
قال الشاب:
“ أنا أدفن قناديل البحر ” وأشار إلى الشاطئ
ألقى سونغ يو تشي نظرة إلى الأسفل ،
فرأى عدة قناديل وراء الشاب ،
لوامسها الشفافة تخرج من تحت الرمال عند قدميه
كان من الشائع رؤية قناديل جرفتها الأمواج وجفّفتها
الشمس على الشاطئ،
لكن هذه المرة الأولى التي يرى فيها أحداً يدفنها
لم يقل الشاب شيئاً آخر ، بل تابع عمله
بدأ سونغ يو تشي يراقبه وهو يحفر حفرات ضحلة ويكوّم
فوقها تلالاً صغيرة من الرمال بلا شواهد ،
تلالاً قد تذيبها الأمواج في أي لحظة
كان الشاب مركز في الدفن إلى حدٍ جعل سونغ يوتشي
يشعر فجأة بأن ما يدفنه ليس قناديل البحر ، بل نفسه ….
سأله :
“ هل أنت مختص في علم الأحياء البحرية ؟”
ردّ :
“ لستُ كذلك بعد الآن .”
: “ لماذا ؟”
: “ لستُ مناسباً له "
: “ هل واجهت صعوبات في بحثك؟”
نظر إليه الشاب بنظرة عابرة ، ثم أجاب بهدوء :
“ مرّت ثلاث سنوات ، وكل جهدي باء بالفشل .
النتائج ما زالت كما كانت حين بدأتُ الدكتوراه ،
بلا أي تقدّم .”
سونغ يوتشي:
“ تمكّنت من الصمود ثلاث سنوات وهذا بحد ذاته إنجاز "
لم يبتسم الشاب لمديح سونغ يوتشي ،
بل قال وهو يُنزل رأسه من جديد :
“ لقد بالغتُ في تقدير نفسي .
حين كنتُ في البكالوريوس ، فزتُ بجائزة في مسابقة
جامعية ، فظننت أنني عبقري في البحث .
لكن الآن حين أتذكر ، أجد أن أستاذي هو من وجّهني إلى
مسار جيد ،
وكنتُ محظوظاً لأنني لم أصادف صعوبات في التجربة .
أما حين دخلتُ فعلياً هذا المجال ، أدركت أنني لا أساوي شيئ .”
لم يعرف سونغ يو تشي بمَ يرد
أحياناً، حين تكون الرنّة الشعورية قوية أكثر من اللازم ،
لا تترك للسان مجالاً للكلام ،
قال الشاب بضع كلمات أخرى لتفريغ ما في صدره،
ثم واصل دفن قناديل البحر
كان شعره الطويل يتطاير مع نسيم البحر ،
وأذناه محمرتين قليلاً من الرياح ، كأنهما متجمدتان
سونغ يوتشي:
“ بإمكانك أن تستدير قليلاً نحو الجانب "
رفع الشاب رأسه مستغرباً
أوضح سونغ يوتشي وهو يلوّح بيديه:
“ تخيّل الإنسان أسطوانة متجانسة ، والرياح تهب عليه من الأمام مباشرةً .
من منظور ديناميكا الموائع ، سرعة الرياح على المحور
المركزي للأسطوانة تساوي صفراً،
لكنها تبلغ أقصاها على الجانبين . لذا الأذنان أكثر عرضة
للتجمد من الأنف في الشتاء .”
رمش الشاب ببطء ، وكأنه يفكر مع كل حركة لعينيه :
“ إذن إن استدرت ، ألن يكون أنفي و رأسي هما من يؤلمانني ؟”
سونغ يوتشي:
“ يمكنك أن تتناوب بين مواجهة الرياح والالتفاف جانباً.”
ابتسم الشاب
كان قد خطط لكل شيء مسبقاً — دفن قناديل البحر ،
توديع الماضي ، ثم القفز إلى البحر وقت العاصفة
مع هذا الطقس السيئ ، لن يأتي أحد إلى الشاطئ ، ولن يوجد من يمنعه
تساءل { هل سيلحظ أحد اختفائي أثناء الرحلة البحرية الطويلة ؟ }
لكنه كان واثقاً أن والديه لن يفعلا
لكن شخص غريب ظهر فجأة على الشاطئ ،
وقبل أن ينهي حياته ، بدأ يحدثه عن ديناميكا الموائع
فسأله :
“ هل أنت مهندس؟”
أجاب سونغ يوتشي بجدية :
“ تخصصي هو الطاقة والقوى ، واتجاه بحثي هو التحليل الطيفي ،
تحديداً التحليل الطيفي الناجم عن الانهيار بالليزر ' LIBS اختصاراً ' "
بدا صوته جاداً كأنه يقول ' انظر ، سأريك الآن كيف يقدّم
المرء موضوع بحثه '
ثم فجأة خفض صوته ، وقال بنبرة أقرب إلى السرّ :
“ سأخبرك بسر "
تساءل جيانغ نانزي { لماذا يخبرني بسر ؟ }
همس سونغ يوتشي:
“ أنا في الحقيقة … لا أريد أن أكون ممثلاً .”
كان التصريح مربكاً لدرجة أن جيانغ نانزي عقد حاجبيه
سونغ يوتشي:
“ أنا في سنتي الخامسة من الدكتوراه ،
من المفترض أن أكون الآن أستعد للدفاع عن أطروحتي
وأبحث عن عمل، لكنني بدلاً من ذلك انتهيت هنا .
سأضطر بالتأكيد لتأجيل التخرج .”
تمتم جيانغ نانزي :“ اووه .”
لكنه بقي غير فاهم سبب حديث الآخر بكل هذا
تابع سونغ يوتشي:
“ الجميع يظنون أنني أؤجل التخرج لأني مشتت ،
و ذهني مشغول بالتمثيل ،
في سنتي الثالثة ، أخّرتُ التقديم للخارج بسبب بروفات
نادي المسرح ، فلم أذهب .”
زاد ارتباك جيانغ نانزي وقال:
“ لكنّك قلت للتو إنك لا تريد أن تكون ممثلاً "
سونغ يوتشي:
“ صحيح ، كان مجرد عذر "
ثم صمت قليلاً و تابع:
“ أنا أطيل فترة دراستي لأنني عاجز عن كتابة أطروحة لائقة؛
سيئة لدرجة أنني أعلم بنفسي أنني لا يمكن أن أتخرج بها.
كان الأمر مشابهاً في سنتي الثالثة.
كنتُ أعرف أنني لا أستطيع التقديم لجامعة جيدة ،
وحتى لو قدمتُ فلن أستطيع مجاراة العبء الدراسي .
فاخترعتُ قصة أنني أحب التمثيل لأواسي بها نفسي ووالديّ .
لم يكن الأمر أنني غير قادر ، بل أنني لم أبذل ما يكفي من الجهد .”
منذ صغره، كان والداه يظنّانه ' موهوباً ' و 'ذكياً '
الشهادات المعلّقة على الجدار وكؤوس أولمبياد الرياضيات
في الخزانة كانت تبدو شاهداً على ذلك
الناس من حوله كانوا ينادونه بـ ' الطفل المعجزة '
وكلما قابلوه أثنوا عليه
وكان والداه يضعان يدهما على كتفه ، وابتسامة فخر تعلو وجهيهما
الجميع قالوا إن مستقبل هذا الطفل سيكون مشرقاً لا محالة
لكن مع تقدمه في العمر وارتقائه إلى مستوى أعلى،
لم تعد تلك الفطنة الطفولية كافية
وفي النهاية ، صار واحداً آخر من أولئك ' الأطفال المعجزة
الذين لا يلبون التوقعات في كبرهم '
تماماً مثل ' فانغ تشونغيونغ '
أما المديح والانبهار الذي حصده في الماضي ، فلن يعود أبداً
لكن والديه لم يتمكنا من تقبّل هذه الحقيقة
فاخترع عذراً يثبت الكذبة التي صدقها الجميع :
“ لقد كان دائماً ذكياً، لكنه لم يعمل بجد بما يكفي .”
وفي زاوية من قلبه ، كان يتمنى سرّاً لو أن هذا صحيح حقاً
زحفت أمواج البحر الزبدية حتى وصلت إلى أقدامهما،
ممحيةً الآثار التي تركاها خلفهما
سونغ يوتشي :
“ ما رأيك أن تنصحني ؟”
رفع جيانغ نانزي رأسه:
“ أنصحك بماذا ؟”
:“ بأن أجلس مع والديّ وأتحدث معهم بصدق وأوضح لهم كل شيء "
هزّ جيانغ نانزي رأسه، وخفّض يده ،
تاركاً مياه البحر تحمل الرمال عن كفّه ، ثم قال:
“ أعرف أن بعض الآباء في هذا العالم يصعب التواصل معهم .
حتى لو حاولت بكل جهدك ، قد لا يصدقونك ،
ويظنون أنك فقط تتكاسل حين لا يراقبونك ...”
توقف قليلاً، ثم أضاف:
“ لكن حالك أفضل مني قليلاً ؛ على الأقل والداك ما زالا
يملكان توقعات لك ”
الأمواج تعلو أكثر فأكثر ،
حتى غمرت ساقيهما حتى الساق
و في لحظة ، شعر جيانغ نانزي بشيء من الدوار
لم يكن يعرف إن كان هذا الشخص يريد أن ينتشله ،
أم يمشي معه نحو البحر
عندها قال سونغ يوتشي:
“ إذاً فلنعقد اتفاقاً "
بدت الحيرة على وجه جيانغ نانزي
سونغ يوتشي:
“ أنت ستكون الشخص الذي لا يتوقع مني شيئاً ،
وأنا سأكون الشخص الذي يوليك اهتمامه دائماً "
رفع جيانغ نانزي عينيه إليه ،
والتقت نظراته بصدق وجدية في عيني سونغ يوتشي ،
حتى بدا كأنه يعني ما يقول ،
فسأله :
“ وكيف ستولي اهتمامك بي؟”
أخرج سونغ يوتشي هاتفه :
“ لنتبادل الإضافة على ويتشات.
من الآن فصاعداً، سأطرح عليك سؤالاً واحداً كل يوم "
: “ أي سؤال ؟”
: “ كيف كان شعورك اليوم ؟”
نظر سونغ يوتشي إلى الشاب بعينين حادتين ،
حتى شعر الآخر وكأنه رأى أعماقه
جيانغ نانزي :
“ وماذا عني أنا ؟ ماذا عليّ أن أفعل ؟”
ناولَه سونغ يوتشي هاتفه قائلاً:
“ اختر أحد هذه الملصقات وردّ عليّ به ،، انظر "
كانت مجموعة ملصقات لقط سيامي لطيف ،
كل واحد منها يعبّر عن شعور مختلف —النعاس ، الخوف ،
الحزن ، النشوة…
طلب بسيط ، لكنه بالنسبة لشاب كان قد قرر إنهاء حياته ،
بدا وكأنه جاء متأخراً جداً
سونغ يوتشي:
“ يمكننا أن نجرب ليومين فقط .
العاصفة قادمة ، وسيكون الخروج صعباً خلال الأيام المقبلة .
سنبقى عالقين في المنزل على أي حال ، فلما لا نجرب ؟”
تردّد جيانغ نانزي لوهلة ،
لكنه في النهاية لم يستطع مقاومة نظرة سونغ يوتشي
فأخرج هاتفه ومسح رمز الاستجابة السريعة الباركود
جيانغ نانزي { لنرَ كم سيصمد }
قال سونغ يوتشي وهو يمد يده :
“ هيا بنا .
الرياح تزداد قوة ، انتبه كي لا تصاب بالبرد "
وظلّت عينا سونغ يوتشي عليه
ومع وجود شخص يراقبه ، بدا أن خطته لإنهاء حياته اليوم
قد باتت صعبة التنفيذ
فأمسك يد سونغ يوتشي ونهض ، و نفض الرمال عن ملابسه
سارا معاً على الطريق الساحلي
وأثناء نزوله بعينيه إلى هاتفه ،
رأى طلب الصداقة قد وصله بالفعل
وبينما يضيف ملاحظة ، سأل :
“ ما اسمك؟”
أجابه سونغ يوتشي ثم أضاف:
“ يمكنك أن تناديني باسمي الإنجليزي أيضاً "
: “ اسم إنجليزي ؟”
سونغ يوتشي : “ نعم ،، اسمي توماس "
يتبع
( فانغ تشونغيونغ : طفل صيني من عهد أسرة سونغ ،
عُرف بموهبته الشعرية المبكرة التي ذاعت شهرته بها،
لكنه مع مرور الوقت تضاءلت قدراته حين لم يحظَ بالتعليم المناسب،
فصار رمزاً على أن الموهبة الفطرية وحدها لا تكفي )
تعليقات: (0) إضافة تعليق