Ch14 برج الأبروش
كان فانغ هاو يظنّ أن حادثة الرحلة 3536 التي اتخذت مسارًا
خاطئًا ستمرّ مرور الكرام —— لكن حين وصل إلى غرفة المراقبة
في اليوم التالي ،
أدرك أنّ الأمر لن يكون بتلك السهولة —— استدعاه يان شيونغ،
نائب مدير مراقبة الحركة الجوية في مطار داشينغ، على الفور،
وطالبه بشرح مفصّل عمّا جرى بالأمس ——
العلاقة بينه وبين نائب المدير لم تكن على ما يرام،
وكان هذا واضح بالنسبة لـ فانغ هاو ولا حتى على وانغ تشانبو — المتدرّب الذي التحق قبل بضعة أشهر فقط
جذر الخلاف ربما بدأ خلال اجتماع لمناقشة اللوائح ، حين أشار فانغ هاو
إلى أنّ بعض القوانين غير قابلة للتطبيق عمليًّا ،،، أغلب القادة لم يسبق لهم أن عملوا كمراقبين ميدانيين في الصفوف الأمامية ،،،
وعندما وُجّهت إليهم الأسئلة ، كان ردة فعلهم الأول دائمًا هو الدفاع عن اللوائح
لكن فانغ هاو رفض ذلك بشدة حينها ، واقترح تعديلات على القوانين مباشرة أمام الجميع
هذا الموقف أحرج القيادات وجعلهم في وضع صعب
وبما أنّ يان شيونغ كان مسؤولًا كبيرًا ، فقد كان من المفترض أن
يلعب دور الوسيط بين هيئة الطيران المدني والمراقبين ،
وأن ينقل وجهات نظر المراقبين ويُسهّل التواصل مع الإدارة ،
لكن راتبه ومكافآته كانت تأتي من جانب الإشراف نفسه ،
فكان من الطبيعي أن يفضّل إبقاء الأمور هادئة دون إثارة المتاعب ،
لذا ظلّ يان شيونغ غير راضٍ عن أسلوب فانغ هاو لوقت طويل ——-
ولولا أنّ فانغ هاو بارع للغاية في عمله ، و يتمتّع بقدرة مميزة على
التعامل مع الحالات الطارئة ، بل وحطم الرقم القياسي في توجيه
أكبر عدد من الرحلات في ساعة واحدة بمطار داشينغ ، لكان يان شيونغ قد نقله من موقعه منذ زمن بعيد
بعد تلك الحادثة، سألت لو يان فانغ هاو لماذا أصرّ على موقفه بتلك العلانية ، أمام أكثر من عشرين شخصًا،
مما وضع القادة في موقف حرج
هل كان يتوقع منهم تعديل اللوائح في الحال ؟
ماذا يمكن أن يقولوا ؟
أن يوافقوا فورًا ويغيروا اللوائح ؟
أن يرفضوا ويطردوه ؟
أيًّا كان الرد ، فلن يكون المخرج سهلًا
لكن فانغ هاو أجاب ببساطة أنّ الغرض من اجتماع اللوائح هو مناقشة تعديلها — فإذا لم تُطرح المسائل هناك ، فمتى إذن؟
ينبغي تحديث القوانين الجوية باستمرار ، فلماذا ننتظر وقوع كارثة قبل أن نقوم بتغييرها ؟
كان هذا العناد جزءًا من طبيعته ، ولم تعرف لو يان كيف تتعامل معه
عاد يان شيونغ لينتقد فانغ هاو من جديد:
“ عادةً تكون حذرًا للغاية ، لكن إن وقع مثل هذا الموقف أثناء
الاقتراب ، وفي ظروف أكثر ازدحامًا ، فقد يؤدي ذلك إلى مشاكل خطيرة . فكّر في الأمر مليًا .”
أصغى فانغ هاو في صمت —— والحق أنه قد وجّه هذه الملاحظات إلى نفسه مسبقًا
لكن تسعين بالمئة من الخطأ هذه المرة يقع على عاتق طاقم
الطائرة ، الذين لم يعرفوا كيف يقرؤون الخرائط بشكل صحيح
كان يعلم أنّ المدير يان يبحث فقط عن متنفس ليُفرغ غضبه ، لذا أمسك لسانه ولم يرد
ثم غيّر يان شيونغ الموضوع وقال:
“ أنت تعلم أننا نعاني من نقص في موظفي قسم الاقتراب بعد مغادرة لو يان أليس كذلك ؟
وقوه جي أيضًا ستدخل في إجازة أمومة قريبًا .
خلال هذه الفترة، عليك أن تتحمّل المسؤولية .
هذه فرصتك لتُختبر ”
قوه تشيفانغ ، البالغة من العمر خمسةً وثلاثين عامًا هذا العام،
هي مراقِبة ثانوية في قسم الأبروش ببكين ، وتُعدّ الأكثر خبرة .
دقيقة وموثوقة ، وكان فانغ هاو يشعر بالاطمئنان أكثر حين تكون موجودة .
لكن نوبات عملهما غالبًا تكون متعاكسة ، فلم تسنح لهما فرص
كثيرة للعمل معًا مباشرة .
في السنوات الأخيرة ، غادر عدد من المراقبين المخضرمين المهنة ،
معتبرين إياها وظيفة ذات ضغط عالٍ ، وراتب متدنٍ ، ورتابة لا تنتهي .
أمّا من يبقى في هذا المجال أكثر من خمس سنوات ، فهم قلّة .
⸻
بعد حديثه مع يان شيونغ شعر فانغ هاو ببعض الحزن ،
فقرّر أن يتصل بالمنزل بعد انتهاء دوامه ،
والمقصود بـ”المنزل” هنا أمّه وأخوه الأصغر ، إذ إنّ والده قد توفي
قبل خمس سنوات بنوبة قلبية مفاجئة عن عمر يناهز الرابعة والخمسين —— كانت صدمة للجميع
ولم تبدأ والدته بالتعافي من فقدان شريك حياتها إلا مؤخرًا ،
حتى أنّها بدأت في مواعدة شخص ما خلال الأشهر الماضية ،
أما شقيقه الأصغر، فانغ شنغجي، الذي يصغره بعشر سنوات، فكان يدرس في المملكة المتحدة،
ويقضي حاليًا فترة تدريب في أحد البنوك بمدينة شِنْجِن خلال عطلته الصيفية ،
تبادل الحديث قليلًا مع والدته حول ما كانت منشغلة به مؤخرًا. هم يعيشون في تشاويانغ، ولم يكن يعود إليها إلا لبضعة أيام بين
الحين والآخر في عطلة نهاية الأسبوع
أما بقية الوقت فكان يمضيه في شقته القريبة من مطار داشينغ
لكن قبل أن يتحدث كثيرًا، قلبت والدته الموازين وسألته:
“ وكيف حالك أنت ؟ هل خرجت في مواعيد غرامية مؤخرًا ؟”
دخل فانغ شنغجي على الخط أيضًا :
“ هيا ، أخبرنا إن كان لديك جديد ”
اعترف فانغ هاو:
“ ليس هناك ما يُذكر…” ثم صمت قليلًا وقرّر أن يكون صريحًا: “ حسنًا ، يوجد شخص ما على ما أظن .”
ما إن سمعت والدته ذلك حتى انتعشت وبدت متحمّسة :
“ من هذا الشخص ؟ كيف يبدو ؟ أرنا بعض الصور !”
حاول فانغ هاو أن يخفف من آمالهما :
“ الأمر لا يزال عابرًا . سأخبركما إذا أصبح جادًا .” لم يرغب في أن يقلقوا عائلته على حياته الاجتماعية أو أن يتعرض لمزيد من
محاولات الترتيب لمواعيد مدبرة محرجة من طرف والدته
كانت غالبًا تنتهي بمواقف غير مريحة، فإما يشعر هو بالضغط أو يجرح مشاعر الطرف الآخر
سألته والدته:
“ لماذا لم تدعُني لزيارتك مؤخرًا ؟ هل لأنك تعمل لساعات إضافية ولا تجد وقتًا لترتيب البيت ؟
هل منزلك فوضوي ؟”
رفع فانغ هاو هاتفه ليُريها المكان:
“ أبدًا ، انظري ، إنه مرتب تمامًا .
أقضي عطلاتي في تنظيفه . أليس من المفترض أن يعود فانغ شنغجي إلى بكين قريبًا ؟
يمكنه أن يمكث عندي عدة أيام .”
داعبته والدته فان رولان:
“ وما خططكما أنتما الاثنان؟
لا تكتفيا بالذهاب إلى المطار كل يوم ”
ضحك فانغ هاو:
“ فانغ شنغجي حرّ يفعل ما يشاء ،،، عندما أكون في إجازة ، سأصحبه إلى السينما ونستمتع ببعض الأطعمة الجيدة ،،
هذه المرة لن نذهب إلى المطار ”
أما فانغ شنغجي، الذي لم يبلغ الثامنة عشرة بعد ولكنه كان ناضجًا، فسارع بالقول:
“ أخي، لقد كنت مشغولًا جدًّا في عملك مؤخرًا
لا تقلق عليّ، أستطيع تدبير أموري وحدي ”
شعرت فان رولان ببعض الشفقة على ابنها الأكبر وقالت:
“ مكان عملك… آه، ألم يجدوا أحدًا غيرك ليغطي فترة إجازة الأمومة للمديرة ؟”
أجاب فانغ هاو بنبرة عاجزة :
“ أنا ممتن فقط لأنها لم تبدأ إجازتها في موسم الذروة بالصيف ”
قالت له والدته لتواسيه :
“ خذ فترة من الراحة إذا شعرت بالتعب .
أعلم أنك تريد أن تؤدي عملك على أكمل وجه ، لكن هناك أمورًا لا يمكنك التحكم بها ”
أجابها بهدوء:
“همم.” ثم لمح أحدًا ينادي والدته من طرفها الآخر. ابتسم وهو
يشد شفتيه—{ يبدو أن حياة والدتي العاطفية باتت نشطة هذه الأيام } ، وكان صادقًا في سعادته من أجلها
بعد أن غادرت فان رولان، بقي فانغ هاو مع شقيقه على الهاتف
فتذكّر وسأله:
“فانغ شنغجي متى رحلتك عائدًا ؟
وأي مطار ستهبط فيه ؟ هل حجزت تذكرة بعد ؟”
قال شنغجي وهو يقلب في هاتفه:
“ لقد حصلت عليها بالفعل ، الهبوط سيكون في مطارك هيهي .”
أمسك فانغ هاو قلمًا وقال:
“ أعطني رقم رحلتك ووقت الوصول ”
فعلى الرغم من صغر سن شنغجي ، إلا أنه كان يدرس في الخارج
ويسافر كثيرًا في رحلات جوية طويلة دولية
وكان فانغ هاو يطلب دائمًا تفاصيل الرحلة،
ليقوم بمتابعتها بصمت على هاتفه حتى تهبط الطائرة—عادة اعتاد عليها منذ سنوات
قال شنغجي وهو يقلب في هاتفه:
“CA 1462 الوصول إلى داشينغ في التاسع والعشرين من سبتمبر الساعة 7:05 مساءً ”
دوّن فانغ هاو ذلك، ثم سأل بدهشة:
“ اشتريت تذكرة في يوم ميلادك ؟ ألم تفكّر في قضاءه مع أصدقائك من التدريب في شِنْجِن ؟”
ضحك أخوه وقال:
“ لديّ لقاء لخريجي الثانوية في بكين في الثلاثين ، ففكرت أن أعود يومًا أبكر ،،
لقد احتفلت مسبقًا قليلًا مع أصدقائي في شِنْجِن … ” ثم أضاف سريعًا:
“ أخي، لا تكلّف نفسك بشراء كعكة أو شيء من هذا القبيل أحاول أن أقلل من الدهون .”
قال فانغ هاو متردّدًا :
“ إذن… ماذا تحب أن أحضر لك ؟”
أجاب شنغجي :
“ لا أريد شيئًا حقًّا . أنا بخير ”
تنهد فانغ هاو :
“ حسنًا، سأفكّر في شيء ما ”
تحدث الشقيقان قليلًا قبل أن يُنهيا المكالمة ، وكلٌّ منهما يتطلّع للقاء الآخر في أقل من أسبوع
—
خلال العامين الماضية ، لاحظ فانغ هاو بوضوح سرعة نضوج أخيه
لم يقتصر الأمر على أنّه بات مماثلًا له في الطول ، بل أصبح أكثر نضجًا في تعامله مع شؤون الحياة
كان يدرس التمويل والرياضيات في المملكة المتحدة ، وبنى دائرة أصدقائه الخاصة،
ل و أمّن لنفسه فرصة تدريب في شِنْجِن بمجهوده
كان فانغ هاو يعلم أنّه في عمر شنغجي ، ينفتح العالم أمام المرء
كأفق واسع يُطلّ عليه من علو
وبالمقارنة مع حياة أخيه ، بدت حياته هو أشبه بفيلم بطيء مكرّر
كما أدرك فانغ هاو أنّه حين وُلِد ، لم تكن أوضاع الأسرة المادية تتجاوز الطبقة المتوسطة العادية
كان والده محاسبًا، وأمّه معلمة لغة إنجليزية في مدرسة ثانوية
وخلال عقد من الزمن، غيّر كلا والديه مسارهما الوظيفي، خاصة
فان رولان، التي تولّت منصبًا إداريًا في مدرسة دولية حديثة
الافتتاح، الأمر الذي جلب للأسرة راحة مالية كبيرة
لذا حين حلم شنغجي وهو في الخامسة عشرة بالدراسة في الخارج ، كانت لديهم القدرة على دعمه
وذات مرة، خلال حوار عميق في ساعة متأخرة من الليل، سألته أمّه:
“ هل يضايقك الأمر ؟ أن شنغجي هو المحظوظ ؟ ”
فكّر فانغ هاو قليلًا ثم قال:
“ درجاتي لم تكن بتلك الجودة حينها . لن أتمكّن من الدراسة بالخارج حتى لو رغبت بذلك ،،
ولماذا أتضايق؟ أنا المحظوظ ،، لقد حظيت بعشر سنوات إضافية مع أبي لم يحظَ بها شنغجي ”
في الحقيقة ، كانت هناك أسباب أخرى كثيرة لشعوره بالامتنان لم يُصرّح بها لوالدته
فحتى أكثر الآباء تساهلًا ، تكون لديهم توقعات من أبنائهم.
وبوجود شنغجي، شعر هو بحرية كاملة دون أي ضغط،
يعيش كما يريد، يعمل فيما يحب، ويحب من يريد
وكان شنغجي بمثابة شعاع شمس صغير، يدفئ قلوب الجميع.
عندما كان يشعر بالضغط أو الإحباط، كانت حركات شنغجي الطفولية المرحة دائمًا ترفع معنوياته
أما السبب الحقيقي لانفصاله عن حبيبه السابق لو جياوي
فلم يخبر به والدته قط، إذ كان يخجل من الحديث عنه
لكنه أسرّ به إلى شنغجي—الذي منذ ذلك الحين رفض أن يطلق على لو جياوي أي اسم غير “ الحقير”
تذكر فانغ هاو أنّه قال لشنغجي مبتسمًا :
“ الأمور ليست دائمًا بهذه البساطة ”
في ذلك الوقت، كان شنغجي قد أنهى للتو المرحلة الإعدادية،
وخاض أول تجربة فاشلة في الحب
وعندما نظر إلى أخيه وسأله :
“إذا كان هذا الشخص يجعلك حزينًا من دون سبب واضح أليس هو المخطئ ؟”
تذكر فانغ هاو أنّه لم يجد ما يقوله — { ربما كانت الأمور فعلًا بهذه البساطة }
يتبع
تعليقات: (0) إضافة تعليق