القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر الاخبار

ch191 tgcf

 الفصل مئة وواحد وتسعين : لا حزن لا فرح؛ القماش الأبيض يجلب الكارثة إلى هذا العالم.


تحذير: محاولة انتحار.






لم يستطع شي ليان أن يميّز إن كان مستيقظًا أم نائمًا.


إن قال إنه مستيقظ، فهو لم يشعر أو يتفاعل مع أي شيء في العالم الخارجي، بلا أي ذكريات؛ وإن قال إنه نائم، فعيناه ظلّتا مفتوحتين طوال الوقت.


حين استعاد وعيه، كان الأبيض عديم الوجه قد ربط بالفعل ذلك السيف الأسود على خصره، كأنه شيخ يكافئ طفلًا.


قال:

"هذه هديتي لك."


ثم ربت على مقبض السيف وقال بلطف، صوته يحمل معانٍ عميقة:

"سيكون بالتأكيد أكثر حدة من جميع تلك التي جمعتها من جون وو."


تركه شي ليان يعلّق السيف كما يشاء، دون أن يتكلم أو يحاول المقاومة، إذ لم يكن للمقاومة أي معنى.


في تلك الحالة، ارتدى ثوبًا جديدًا، ومعه سيف مقدّس جديد، وجرّ جسده الذي بدا وكأنه وُلد من جديد، وسار خارج معبد ولي العهد باتجاه الظلام.


لكن الأبيض عديم الوجه ناداه من الخلف:

"انتظر."


توقف شي ليان عن السير. جاء الأبيض عديم الوجه إلى جانبه بلا صوت، ووضع في يده شريطًا حريريًا أبيض.


قال:

"لقد نسيت هذا."


كان هو نفسه الشريط الذي استخدمه في البداية ليغطي وجهه، ثم استُخدم لاحقًا لربطه.


ترنّح شي ليان ونزل الجبل بمفرده.


كان النهار قد طلع، والشمس أشرقت، لكن رغم أن أشعتها تسطع فوقه، لم يشعر بأي دفء.


في طريقه إلى أسفل الجبل، لمح جدول ماء صغير، مياهه صافية ومرحة. اقترب وجلس عند ضفته، فرأى انعكاس وجهه في الماء.


وجهه كان شاحبًا ناعمًا كالجص، بلا خدش واحد. وكذلك عنقه، ثم صدره وبطنه، كل جسده كان على الحال نفسه. كلما أطال النظر، عجز عن الاحتمال أكثر. فخفض رأسه، وأخذ يغسل وجهه بماء الجدول، وشرب عدة جرعات. شرب وشرب، ثم فجأة لاحظ شيئًا أعلى مجرى الماء.


رفع رأسه ببطء، فرأى، غير بعيد، عند صخرة كبيرة، جثة ملقاة. من ملابسه بدا أنه ذلك المؤدي الضخم في الشارع.


ذلك الرجل لم ينزل الجبل، بل مات في الطريق. على سطح الصخرة الكبيرة كانت هناك بقعة دم بارزة؛ يبدو أنه قد صدم رأسه بها من شدة الألم أو الرعب، فمات. الجثة كانت قد تعفّنت، نصفها غارق في الماء، تفوح منها روائح نتنة، بلا حراك. ومع ذلك، كانت عدة وجوه صغيرة مشوّهة تنمو على وجهه المتعفّن، لا تزال تتحرك.


جثا شي ليان بجانب الجدول وتقيأ حتى أفرغ أحشاءه لأكثر من ساعة، حتى تقيأ دمًا.


بعد نزوله من الجبل، سار طويلًا، يتجول بلا هدف في الشوارع. فجأة، قبضت يد على كتفه وجذبته إلى زقاق. التفت شي ليان، وقبل أن يرى وجه من أمسكه، تلقى لكمة قادمة نحوه.


"أين اختفيت طوال الأيام الماضية؟؟"


وراء اللكمة كان وجه فنغ شين الغاضب، وبمجرد أن رآه شي ليان، كان قد سقط بالفعل بفعل الضربة.


لم يكن فنغ شين يتوقع أن يسقطه بتلك السهولة، فنظر إلى قبضته ثم إلى شي ليان الممدد على الأرض في حيرة. وقبل أن يمد يده ليساعده على النهوض، كان شي ليان قد نهض بنفسه. تغيرت ملامح فنغ شين، لكنه ظلّ غاضبًا.


قال:

"أي مزاج هذا! ترمي كلمة واحدة وتختفي شهرين كاملين! هل تعرف كم أقلقت جلالتي الملك والملكة؟"


مسح شي ليان الدم النازف من أنفه:

"أنا آسف."


رأى فنغ شين أن مسحه للدم يزيد الأمر سوءًا، فتنهد بعمق.


"سموك ! كفى اعتذارات، فهي لا تعني شيئًا بيننا. لكن أنت... ماذا حدث لك بالضبط؟ ألا يمكنك أن تخبرني؟" لاحظ السيف الأسود المعلّق على خصره وسأله: "ومن أين حصلت على هذا السيف؟"


كان شي ليان يرغب في أن يخبره، لكن حين تذكّر المشادة بينهما قبل أن يغادر، وتلك النظرة المشككة على وجه فنغ شين آنذاك، مضافًا إليها التجربة التي لم يرد أن يفكر بها مجددًا، لم يقل سوى:

"أنا آسف."


عاد الاثنان إلى مخبأهما السابق، وحين رأت الملكة شي ليان، عانقته وهي تبكي. أما الملك، فقد بدا وكأنه شاخ أكثر؛ بعدما كان يجد شعيرات بيضاء وسط السواد، صار الآن يجد القليل من الأسود وسط البياض. لكنه لم يغضب، ولم يقل سوى بضع كلمات ثم صمت. لعل الثلاثة كانوا يخشون أن يثور شي ليان ويهرب مرة أخرى، فكانوا يتعاملون معه بحذر شديد.


بعد وجبة بسيطة، فك شي ليان السيف الأسود من خصره ومده إلى فنغ شين:

"خذ هذا السيف. ارهنه."


لاحظ فنغ شين أن يده التي تحمل السيف ترتجف، لكنه لم يفهم السبب. فسأله:

"لماذا تريد مني رهنه؟"


قال شي ليان:

"ألست من طلب مالًا سابقًا؟"


بدا الألم على وجه فنغ شين للحظة، ثم هز رأسه وقال:

"لم أعد بحاجة إليه."


لم يقل شي ليان شيئًا آخر، وألقى السيف الأسود جانبًا، ثم تمدد لينام.


هذه المرة، حين عاد، تصرف شي ليان وكأن شيئًا لم يحدث، آملًا أن يعود كل شيء إلى طبيعته بسرعة، وأن يستعيد حالته السابقة. وسرعان ما خرج هو وفنغ شين للأداء في الشوارع.


في البداية، كان فنغ شين ما يزال قلقًا:

"انسَ الأمر، ارتح لبضعة أيام أخرى."


لكن شي ليان قال:

"لقد ارتحت قرابة شهرين بالفعل. وإذا عاد أولئك المؤدون المزعجون لإحداث الفوضى، سيكون التعامل معهم أسهل بوجود شخصين."


غير أن فنغ شين قال:

"لقد توقفوا عن المجيء منذ زمن."


لم يكن السبب وفاة ذلك المؤدي الضخم الذي رآه شي ليان عند الصخرة، بل لأن فنغ شين استقر هنا لفترة طويلة. في البداية، كان الناس يعتبرونه أمرًا جديدًا مثيرًا. لكن مع مرور الوقت، تلاشى ذلك الانبهار، وصار أداؤه لا يختلف عن باقي المؤدين المحليين. ولم يعد تهديدًا لهم، فأوقف الآخرون مضايقته، إذ صار الجميع يربح تقريبًا المقدار نفسه.


لذلك، مهما أطلق فنغ شين سهامه، ومهما بلغت براعته، لم يعد يجذب سوى نصف الجمهور السابق، بل أقل من عُشره. وبعد يوم طويل من الأداء، كان ينهك ويتصبب عرقًا ويجلس على جانب الطريق.


قال شي ليان:

"دعني أصعد."


رد فنغ شين:

"لا، لا داعي."


لكن شي ليان لم يأبه بكلامه وصعد للأداء. حين رأى الناس وجهه، عاد اهتمامهم فجأة.


وسأله أحدهم:

"وما مهارتك أيها الصغير؟"


لم يجب شي ليان. التقط غصن شجرة، وبدأ يؤدي به حركات السيف. ومع صرخات الهواء التي أحدثها، بدا وكأنه يحمل سيفًا حقيقيًا. فصفق له البعض مجاملة. راقب فنغ شين من الجانب، بملامح معقدة، وبعد برهة أدار وجهه بعيدًا.


أما شي ليان فلم يشعر بأي خجل أو عبء، بل واصل الأداء جادًا.


وفجأة، صرخ أحد المتفرجين في الحشد:

"ممل! ممل! عرض سخيف! من يود أن يشاهدك تلوّح بغصن شجرة كالأحمق؟"


قفز فنغ شين فورًا وصاح:

"انتبه لكلامك!"


توقفت حركات شي ليان ونظر ناحية الصوت. كان هناك رجل في الحشد يأكل بطيخة ويبصق بذورها، بوضوح كان ينتظر إثارة المشاكل.


قال موجّهًا كلامه لفنغ شين:

"جئت هنا لأشاهد عرض شارع! سأقول ما أشاء، أنتما هنا لتكسبا نقودنا، وتجرؤ على الاعتراض؟ استبدل الغصن بسيف حقيقي! لو فعلت، سأفكر في رمي بعض البذور لك!"


وما إن صرخ، حتى تبعه الآخرون يرددون. غضب فنغ شين وهمّ بالتحرك، لكن فجأة ومضة بيضاء مرت، وكان شي ليان قد ظهر بجانب ذلك الرجل. أمسكه، ورماه عاليًا في الهواء.


لقد أظهر قوة مذهلة، فاندفع ذلك الرجل أمتارًا بعيدًا، وتدحرجت قشور البطيخ على الأرض. فتح الحشد أفواههم ذهولًا. ارتطم الرجل بالأرض بقوة، وأخذ ينزف من أنفه وأذنه وفمه، مطلقًا صرخة بائسة عالية.


ومع ذلك، لم يكتفِ شي ليان، فتقدّم للإمساك به مرة أخرى، وقال ببرود وحياد:

"قد لا توجد سيوف حقيقية، لكنني حقًا أستطيع أن آخذ حياتك. أتريد أن ترى؟"


فانفجر الجمهور بالهرب، يصرخون مرعوبين:

"أحد ما! النجدة! هناك جريمة قتل!"


حتى فنغ شين صُدم أكثر:

"سموك !!!"


تظاهر شي ليان وكأنه لم يسمع، وهمّ بأن يقذف ذلك الرجل الكسول بعيدًا مرة أخرى ليمتد لعدة أمتار أخرى ويسقط حيث يسقط. لكن فنغ شين انقض عليه وأمسك به، ناسياً تمامًا أن يخفي هويته، وصاح بأعلى صوته:


"سموك !!! اصحُ! ستقتل هذا الرجل!!!"


كانت عينا شي ليان كلتاهما تتوهجان بلهب أسود. دفع يد فنغ شين بعيدًا، وضغط الرجل على الأرض. ففقد الرجل وعيه وتوقف عن الحركة. أسرع فنغ شين ليتحقق إن كان لا يزال يتنفس، لكنه سمع من نهاية الشارع صرخة حادة:


"هُم هناك! هناك!"


كان هذا سيئًا! لقد وصل جنود يونغ آن!


انطلق فنغ شين على الفور، لكنه حين رأى شي ليان لا يزال واقفًا هناك، يحدق في الجنود وكأنه على وشك مقاتلتهم، استدار ورجع نحوه وجذبه قائلًا:


"ماذا تفعل واقفًا؟ اهرب!"


اختبأ الاثنان وركضا طوال الطريق حتى تمكّنا أخيرًا من الإفلات، وعادا إلى الكوخ الصغير حيث كانوا يختبئون. وما إن دخلا، حتى صرخ فنغ شين أمام وجه الملكة:


"كيف تفعل شيئًا كهذا؟؟"


لو كان هذا في الماضي، لما تجرأ فنغ شين قط أن يتصرف بهذه الوقاحة أمام جلالتي الملك والملكة، لكن بعد ما تحمّلوه معًا، تغيّرت أشياء كثيرة.


التفت شي ليان إلى الملكة وقال:

"ادخلي غرفتك."


قالت الملكة مترددة:

"بني، ما الذي..."


صرخ شي ليان:

"ادخلي غرفتك فورًا!"


فلم تجرؤ على السؤال أكثر، وعادت إلى غرفتها. ثم التفت شي ليان إلى فنغ شين:

"ماذا فعلت؟"


قال فنغ شين بغضب:

"كنت ستقتل ذلك الرجل!"


رد شي ليان ببرود:

"لم يمت. وحتى إن مات، فما المشكلة؟"


"... " تجمد فنغ شين مذهولًا. "ماذا قلت؟ ماذا تقصد بـ'ما المشكلة إن مات'؟"


قال شي ليان:

"ذلك الحقير جلبها لنفسه. بما أنه طلبها، فقد أعطيته ما يستحق. هل أخطأت؟"


وكأن كلمات شي ليان صعقت فنغ شين، فلم يتكلم إلا بعد فترة طويلة:

"لقد كان يثير المشاكل، صحيح... لكن لم يكن عليك أن تقتله. لك أن تضربه وتتركه، لكنه لا يستحق الموت لمجرد كلمات تافهة."


قاطعه شي ليان:

"بل يستحق. تجرأ وقالها، إذن عليه أن يدفع الثمن."


"... " بدا الذهول يملأ وجه فنغ شين. "كيف يمكنك قول شيء كهذا؟"


سأله شي ليان:

"شيء كهذا؟"


قال فنغ شين:

"لم يسبق لك أن استخدمت كلمة 'حقير' من قبل. لم تقلها أبدًا."


فقال شي ليان:

"وما الذي تحاول قوله؟ ألستُ بشرًا؟ ألا يحق لي أن أغضب؟ ألا يحق لي أن أكره؟"


صمت فنغ شين مرتبكًا، وبعد لحظة قال بصعوبة:

"هذا ليس ما أعنيه، لكن، على أي حال، لم يكن من الضروري..."


لكن شي ليان لم يشأ الاستماع، ودخل غرفته وصفق الباب بقوة.


وما إن أُغلق الباب، حتى صرخ وألقى بنفسه على السرير.


لقد كان يكذب على نفسه ويكذب على الآخرين! كل شيء لم يكن سوى خداع!


مهما حاول، لا يمكن أن يتظاهر أن شيئًا لم يحدث، ولا يمكن أن يعود كما كان من قبل!!!


في تلك الليلة، طرق أحدهم الباب، وظن شي ليان أنه فنغ شين فلم يرد. وبعد لحظات، جاء صوت الملكة من الخارج:


"بني، إنها أمك. دع أمك تدخل لتطمئن عليك، حسنًا؟"


كان شي ليان يريد أن يبقى ممددًا بلا حركة، لكنه بعد قليل نهض وفتح الباب بتعب وقال:

"ماذا؟"


كانت الملكة واقفة على الباب تحمل طبقًا. قالت:

"بني، لم تأكل بعد، أليس كذلك؟"


حدّق بها شي ليان، وكبح نفسه طويلًا حتى لا يتفوه بالكلمات التي كادت تخرج من حلقه: "حتى إن لم آكل، فلست أريد طعامك." ثم تنحى جانبًا ليدعها تدخل، ووضعت الملكة الطبق على الطاولة.


قالت بابتسامة:

"انظر."


نظر شي ليان، فإذا به يغتاظ حتى كاد يضحك. "ما هذا؟"


قالت الملكة كأنها تقدّم كنزًا:

"هذه كرات لحم 'العاشقان على غصن'، وهذه 'حساء الزهور المتفتحة والقمر المكتمل'..."


لكن تلك "العاشقان" بدت كالموت، وذلك "القمر المكتمل" مليء بالحفر. فقاطعها شي ليان:

"لماذا أعطيتِ هذه الأطباق أسماء؟"


قالت الملكة:

"أليست كل الأطباق تحمل أسماء؟"


قال شي ليان:

"ذلك في مطابخ القصر الإمبراطوري فقط. أما الناس العاديون فلا يطلقون أسماء على أطباقهم."


قصر. إمبراطوري. أناس عاديون. توقفت الملكة لحظة، ثم ابتسمت وقالت:

"لم يقل أحد إن عليك أن تكون في القصر حتى تمنح الأطباق أسماء. اعتبر هذا أمنية بالبركة."


ثم مدّت له عيدان الطعام. لكنه لم يبتسم، ولم يمد يده.


جلست الملكة مبتسمة قليلًا، لكن ابتسامتها خفتت تدريجيًا. قالت:

"بني."


قال بحدة:

"ماذا؟"


سألت الملكة:

"لماذا تشاجرت مع فنغ شين مرة أخرى؟"


لم يرغب شي ليان في الشرح، ولم يكن لديه طاقة للشرح أصلًا. فقال:

"ابقيا في غرفتكما واستريحا. لا حاجة لأن تهتما بهذه الأمور."


ترددت الملكة قليلًا ثم قالت:

"أعلم أنه ربما لا يجب أن أقول هذا، لكن... في الأيام الطويلة التي غبت فيها، كان ذلك الطفل فنغ شين هو من اعتنى بنا..."


قاطعها شي ليان بحدة:

"أمي، ماذا تحاولين قوله؟"


أسرعت الملكة تقول:

"بني، لا تغضب، لست ألومك، أبدًا. أنا أعلم أنك تعاني أنت أيضًا. لكنني أقول فقط إن ذلك الطفل فنغ شين ظل يتبعنا، يتبعك، وليس الأمر سهلًا. شعرت أنه لم يبقَ لأنه لا يملك مكانًا يذهب إليه، بل لأنه ما زال يذكر المودة التي بينكما..."


وما إن سمع ذلك، حتى نهض شي ليان صارخًا:

"وماذا عني؟ هل كان الأمر سهلًا بالنسبة لي؟؟ أمي، هل يمكنك أن تكفي عن الأسئلة؟؟ هل يمكنك ألا تتدخلي في أمور لا تفهمينها؟؟؟"


ولما هرع نحو الباب، فزعت الملكة ونهضت لتلحق به:

"بني، إلى أين تذهب؟ سأتوقف عن الكلام، لن تقول أمك شيئًا بعد الآن! عد!"


صرخ شي ليان:

"أعرف! أعلم أن الجميع يعاني، لكن لا تقلقي! سأذهب وأجعل الأمور أسهل للجميع!!"


لم تستطع الملكة اللحاق به، وبعد قليل اختفى عن نظرها. ولم يعد حتى المساء، وهو يحمل عدة أكياس.


حين فتح الباب، كان الجميع ما يزالون مستيقظين ينتظرونه، ووجوههم متجهمة.


أغلق شي ليان الباب بيده وقال:

"ماذا هناك؟"


كان الملك على ما يبدو قد وبّخ الملكة، فعيناها حمراوان من البكاء. ولما رأت عودة شي ليان، تنفست الصعداء، وابتسمت ابتسامة متكلّفة:

"بني، لقد عدت! أعدك ألا أسألك أشياء لا ضرورة لها بعد الآن. فقط لا ترحل فجأة مرة أخرى. مهما كان الأمر، ستستمع أمك إليك..."


كانوا جميعًا خائفين. خائفين أنه لو استدار وخرج الآن، فسيختفي شهرين آخرين.


لكن شي ليان قال:

"تتوهمون كثيرًا. لم أكن أنوي المغادرة. ارتاحوا فقط."


انتظر شي ليان حتى دخل الملك والملكة غرفتهما، وبعد لحظة من الصمت قال فنغ شين:

"حتى لو سألتك أين ذهبت، فلن تخبرني، أليس كذلك؟"


لم يتكلم شي ليان، بل رمى الأكياس على الأرض. أصدرت الأكياس أصواتًا واضحة عند ارتطامها.


سأل فنغ شين:

"ما هذا؟"


فتح شي ليان الأكياس وقلبها، فاندفع منها كومة كبيرة من الذهب والفضة، حتى أنها أضاءت البيت بأكمله.


انتفض فنغ شين واقفًا فورًا. "أنت... من أين جلبت هذه الأشياء؟؟"


لم يكلّف شي ليان نفسه عناء النظر إليه، وجلس على الأرض يعدّها وهو يجيب:

"لا داعي لكل هذا الانفعال. فقط زرت بيتًا كبيرًا في المدينة، هذا كل ما في الأمر. ارتح، لم يرني أحد."


قال فنغ شين مذهولًا، وهو يخفض صوته متذكرًا أن الملك والملكة في الغرفة المجاورة:

"أسرقت؟!"


قال شي ليان:

"لا تنظر إليّ هكذا. الجميع يعاني، ومع هذا سيكون الأمر أسهل."


صاح فنغ شين:

"لكن لا ينبغي لك أن تسرق!! يمكننا الاستمرار في كسب العيش من العروض في الشوارع!"


أجابه شي ليان:

"وكم نكسب من إرهاق أنفسنا في الشوارع؟"


تراجع فنغ شين بضع خطوات مترنحًا، وكانت هذه المرة الأولى التي يرى فيها شي ليان وكأنه سيُغمى عليه.


ثبت فنغ شين نفسه أخيرًا، وتأكد أنه لم يسمع خطأ، وتمتم:

"كيف صرتَ هكذا؟"


رفع شي ليان نظره وسأله:

"هكذا؟"


غضب فنغ شين وقال:

"لا أريد أن أوبّخك، لكن انظر إلى نفسك! ماذا أصبحت؟ لن أسألك عن السرقة بعد الآن، لكن كيف ساءت الأمور أكثر؟"


سخر شي ليان:

"كنت أعلم."


سأله فنغ شين:

"تعلم ماذا؟"


وقف شي ليان وقال:

"كنت أعلم أن أمر السرقة ما زال يشغلك. أردتَ أن تسألني، لكنك لم تجرؤ، أليس كذلك؟ لقد تصورت آلاف الاحتمالات في رأسك، صحيح؟ لا تفكر أكثر، سأخبرك."


تقدّم خطوة بخطوة نحو فنغ شين. "صحيح. لقد سرقت."


تراجع فنغ شين خطوة وقال:

"أنت..." ثم تقدّم هو الآخر خطوة، وقال بغضب مكتوم:

"إذن، لماذا عانينا كل هذا الوقت؟ لو كنتَ مستعدًا لفعل هذه الأمور، لكنا فعلناها منذ زمن، فلماذا تحملنا حتى اليوم؟؟ أتعلم ما الذي تفرّط فيه؟؟ أأنت حقًا سموك كما في الماضي؟"


ابتسم شي ليان بسخرية:

"بالضبط، لماذا عانينا حتى اليوم؟"


أربك كلامه فنغ شين، فتابع شي ليان:

"ما قصة أنا الماضي؟ يتلقى الشتائم دون رد؟ يُضرب ولا يدافع؟ دائمًا يبالغ في تقدير نفسه؟ إنقاذ عامة الناس؟ ما هذا؟ أليس هذا غباء؟ هل تعتقد أن الأحمق أفضل؟ هل هذا هو الشخص الذي ينبغي أن أكونه؟ ولو لم أكن كذلك، هل ستُصدم كثيرًا؟"


قال فنغ شين مذهولًا:

"أجننت؟ لماذا تقولها بهذا الشكل؟"


رد شي ليان ببرود:

"أنت مخطئ. لست مجنونًا. لقد صحوت للتو. ثم اكتشفت أنني في الماضي كنت أنا المجنون."


"... " تمتم فنغ شين:

"لماذا صرت هكذا؟ متى تغيّرت؟ أنا... حقًا لا أعلم... إذن لماذا ظللتُ أتبَعك طوال هذا الوقت..."


قال شي ليان:

"إذن، توقّف عن اتباعي."


تجمّد فنغ شين:

"ماذا؟"


أعاد شي ليان بهدوء:

"قلت: لا تتبعني بعد الآن."


ثم أغلق الباب بقوة.


بعد أربع ساعات، سُمعت أخيرًا أصوات خافتة وحركات خارج الغرفة.


بدا وكأن فنغ شين كان يودّع الملك والملكة. كان صوته منخفضًا للغاية، وصوت الملكة مختنقًا بالبكاء، أما الملك فلم يتكلم كثيرًا، بل تواصل سعاله. وبعد لحظة، فُتح الباب ثم أُغلق، وخفت صوت فنغ شين مع ابتعاد خطواته.


لقد رحل فنغ شين.


ظل شي ليان في غرفته، بلا تعبير ولا مشاعر، ثم أغمض عينيه.


لقد رحل أخيرًا.


منذ أن رحل مو تشينغ، كان شي ليان يخشى هذا اليوم: أن يرحل فنغ شين أيضًا.


ولأنه كان خائفًا جدًا، لم يعد شي ليان قادرًا على تحمّل عذاب هذا الخوف.


فبدلًا من ترك السكين تطحن ببطء كل المودة والصداقة حتى لا يتبقى شيء، وينتهي بهما الحال بالكراهية والضغائن، كان من الأفضل أن ينفجر الأمر عاجلًا.


قبل رحيل فنغ شين، كان شي ليان خائفًا. لكن بعدما رحل، لم يعد خائفًا.


غير أنه، رغم زوال الخوف، غرق في ألم أشد.


في الأصل، كان شي ليان يحتفظ في قلبه ببارقة أمل ضئيلة جدًا. كان يأمل أنه، حتى لو اعترف بارتكاب ما لا ينبغي، وحتى لو صار أسوأ نسخة من نفسه، فإن فنغ شين سيبقى. فبعد كل شيء، منذ أن كان في الرابعة عشرة واختير فنغ شين حارسًا شخصيًا له، لم يفترقا أبدًا. ورغم أنهما سيد وخادم، كانا صديقين أكثر من أي شيء. وبعيدًا عن كونه ولي العهد، لم يهتم فنغ شين بأحد سواه. في أحسن الأحوال، ربما بالملك والملكة.


لكن فنغ شين رحل فعلًا.


لقد توقّع شي ليان هذه النهاية، لكنه لم يستطع احتمالها، ولا تحمّلها في تلك اللحظة.


وفجأة، جاء صوت الملكة من خارج الغرفة الصامتة:

"بني، أنا آسفة جدًا."


"...."


نهض شي ليان عن سريره وفتح الباب، ثم خرج وقال بتعب:

"هذا ليس شأنك."


كان الملك والملكة جالسَين عند الطاولة الخشبية القديمة المتداعية. قالت الملكة:

"لقد أثقلنا كاهلك، وجعلناك ترتكب أفعالًا سيئة من أجلنا، وتخاصمتَ مع فنغ شين بسببنا."


ابتسم شي ليان ابتسامة متكلفة وقال:

"أي أفعال سيئة؟ أليست القصص والحكايات مليئة بحكايات 'السرقة من الأغنياء لمساعدة الفقراء'؟ بما أن فنغ شين رحل، فقد رحل. هذا في الواقع أفضل. برحيله، سيكون كل شيء أهدأ. أهدأ من الطرفين. أنتما فقط ركّزا على العلاج. غدًا يمكننا شراء أفضل دواء."


لكن الملك رمقه بحدة وقال:

"لن أستخدم هذا المال."


أسرعت الملكة بركله برفق تحت الطاولة.


سأل شي ليان:

"إذن، ماذا تريد؟"


قال الملك وهو يسعل:

"اذهب... وألحق بفنغ شين وأعِده. لا أريد هذا المال."


رغم محاولات الملكة لإسكاته، فقد أومأت بالموافقة أيضًا.

"صحيح، لمَ لا تلحق بفنغ شين؟ إنه أكثر خدمك إخلاصًا، وأفضل أصدقائك..."


لكن شي ليان قاطعها:

"لم يعد هناك خدم مخلصون. بما أن المال هنا، فاستعملوه فقط، ولا تسألوا أكثر. قلت لكم، هناك أشياء لا تفهمونها."


وبعد صمت طويل، قالت الملكة في النهاية:

"أنا آسفة جدًا، بني. والدك وأنا نرى أنك تكافح بشدة وحدك. لكننا مجرد بشر عاديين، لا نستطيع مساعدتك في شيء، بل نحتاج رعايتك أيضًا."


لم يعد لدى شي ليان طاقة للكلام، فاكتفى بكلمات فارغة لتهدئتهما، ثم أرسلهما إلى غرفتهما. ولتنقية ذهنه، نزع الضمادات، وخلع ملابسه كلها، وأخذ حمامًا خشنًا، ثم سقط فاقدًا للوعي.


غرق في النوم لدرجة أنه حين استيقظ في اليوم التالي، تساءل مشوشًا:

"لماذا لم يوقظني فنغ شين؟"


استغرق الأمر لحظة قبل أن يتذكر أن فنغ شين قد رحل.


اعتدل جالسًا وهو شارد، ثم تذكر شيئًا آخر.


حتى لو رحل فنغ شين، ماذا عن والديه؟ لماذا لم يأتيا لإيقاظه أيضًا؟


عادة في هذا الوقت، كان يسمع صوت سعال والده. ذلك الصوت لم يتوقف يومًا، فلماذا كان هادئًا اليوم؟


لسبب ما، شعر شي ليان بقلق مفاجئ. ارتدى ثيابه ونهض من السرير، مدّ يده نحو رباط الحرير لكنه لم يجده، ثم دفع باب الغرفة المجاورة.


قال شي ليان: "أمي، هل رأيتِ رباطي الحريري—.."


وبمجرد أن دفع باب الغرفة، انكمشت حدقتا عينيه فجأة حتى صارتا نقطتين صغيرتين.


لقد وجد رباطه الحريري الأبيض.


كان ذلك الرباط معلقًا في العارضة الخشبية، يتدلّى منه جسدان ساكنان، متصلّبان منذ زمن.


كانا والده ووالدته.


تساءل شي ليان إن كان ما يزال يحلم، فاهتز واقفًا وهو يمد يده ليتكئ على الحائط. لكنه كان يهتز بشدة لدرجة أنه لم يستطع الثبات، فانزلق جالسًا على الأرض.


جلس على الأرض، وغطّى وجهه بكفيه، وداهمه ضيق مفاجئ في التنفس حتى كاد يختنق. أخذ يضحك ويبكي في الوقت نفسه، ضاحكًا باكيًا، باكيًا ضاحكًا.


"أنا... أنا... أنا... أنا..."


تمتم بكلمات مبعثرة، ثم أضاف: "لا... لم يكن... انتظروا، أنا... لا يمكن... أنا..."


وبالنهاية لم يعد قادرًا على نطق كلمات كاملة، فاستدار وراح يصرخ، ضاربًا رأسه بالحائط مرارًا وتكرارًا.


كان ينبغي أن يعلم. فوالده الملك كان محافظًا تقليديًا بشدة، ووالدته لم تكن تحتمل رؤية من تحبّ يتعذب، خصوصًا إن كان ذلك العذاب من أجلها. وكلاهما كانا من النبلاء الذين نشأوا في الرفعة والمجد؛ أن يصمدا حتى هذه اللحظة كان بحد ذاته معجزة.


ضرب شي ليان رأسه بالحائط أكثر من مئة مرة وهو يتمتم:

"فنغ شين، والدي ووالدتي قد رحلا."


لكن لم يكن هناك أحد ليسمعه.


عندها فقط أدرك أنه يحتاج لإنزال جثتي والديه. وبعد أن أنزلهما، بدأ يتجول في المنزل وكأنه بلا هدف. رأى على الطاولة عدة أطباق لطعام بائس المظهر وقد برد منذ زمن. كان هو نفسه قد جعل الملكة تضعها جانبًا ليلة البارحة من دون أن يذوقوا منها شيئًا. الآن، سحبها أمامه بلا وعي، وأكل كل شيء، لم يترك ورقة خضار واحدة، ولا حبة أرز واحدة، خوفًا من أن يفوته شيء. وبعد أن انتهى، أخذ يتقيأ.


وفجأة، قبض شي ليان على الرباط الحريري الأبيض، ورماه مجددًا فوق العارضة، وأدخل عنقه في العقدة.


انهالت عليه موجات الاختناق، لكنه ظل متيقظًا. حتى حين امتلأت عيناه بالدماء، وبدأت عظام ترقوته تتشقق، ظل واعيًا. ثم، لسبب ما، وبينما كان يتدلى، انحل الرباط فجأة من تلقاء نفسه، وسقط شي ليان ارتطامًا عنيفًا على الأرض. وسط الدوار، رأى أن الرباط الحريري الأبيض بدأ يتحرك وحده دون أي نسمة هواء. كأنه أفعى سامة، بدأ يلتف ويتكوّر.


لقد وُلد لهذا الرباط روح!


فمع تدفّق الطاقة الروحية فيه، وتشرّبه دم شي ليان، وبعد أن شنق به ملكًا وملكة – ولو تمكن شي ليان من شنق نفسه لكان الثالث – صار الرباط يحمل حقدًا وشرًّا عميقًا، فلو لم يتحول إلى روح لكان الأمر الأغرب.


أما الروح الصغيرة التي وُلدت للتو، فلم تفهم أنها خرجت من رحم يأس مطلق، بل راحت تطفو بمرح نحو مَن منحها الروح، كما لو كانت ترجو لمسة حنان. لكن شي ليان لم يلتفت إليها أبدًا. كان يمسك رأسه ويصرخ:


"أحد ماااا!!! أحد ماااا تعالوا واقتلوني!!!"


كل ما استطاع أن يفعله هو أن يتضرع أن يأتي أحد في تلك اللحظة ليُنهي حياته، ويحرره من هذا الألم والعذاب الذي لا ينتهي!


وفجأة، جاء من بعيد صوت هدير الطبول والأجراس. كان شي ليان يلهث بعنف، عيناه محمرتان، وتساءل في داخله:

"من؟ ما هذا؟"


قوة غامضة دفعته على قدميه، فترنّح خارجًا ليرى. مشى طويلًا قبل أن يدرك أن تلك كانت أصوات الاحتفالات بالقصر الإمبراطوري الجديد، بعد أن تأسست مملكة يونغ آن ونُقلت العاصمة إليها.


حتى السماء كانت تحتفل! كل سكان شيان لي السابقين كانوا الآن يهتفون ليونغ آن. في الشارع الرئيسي، كانت وجوه الناس مغمورة بالابتسامات، مألوفة جدًا. تذكّر شي ليان. هكذا كان الناس في عاصمة شيان لي يهتفون أثناء موكب طقس السماء في مهرجان الشانغيوان.


ترنّح شي ليان وسقط جالسًا بلا حراك على الأرض.


لماذا كان عليه أن يشهد فرح وضحك "أناس يونغ آن" في اللحظة التي كانت فيها جثتا ملك وملكة شيان لي بجوار قدميه؟


غطى وجهه بيديه، ضاحكًا وباكيًا، هاهاهاها، هاهاهاها، شهقة..شهقة..شهقة ...


وبعد لحظة، ضحك بخفّة: "لن تفلتوا بسهولة."


مرّ في ذهنه صوت: داء الوجه البشري... إنه الحقد... طريقة صناعة داء الوجه البشري، هي...


بريق وحشي لمَع في عينيه، وانخفض صوته فجأة:

"لن أدع أيًّا منكم يفلت بسهولة."


كان وجهه مزيجًا بين البكاء والضحك، بين الفرح والحزن، ونهض ببطء مستندًا إلى الحائط.


"يونغ آن، 'السلام الأبدي'؟ احلموا. احلموا إلى الأبد! أنا... ألعنكم جميعًا. ألعنكم جميعًا!!! أريد أن تموتوا كلكم، تفنوا تمامًا!! هاها، هاها، هاهاهاهاهاهاها!!!"


كان يضحك بجنون، واندفع خارجًا كالإعصار. وعندما مرّ بجانب المرآة، توقّف فجأة، وأدار رأسه.


الشخص في المرآة قد تغيّر تمامًا.


لم يكن يرتدي رداء المزارع الأبيض الممزق الذي بلي من الغسل، بل كان يرتدي ثوب جنازة أبيض واسع الأكمام. لم يعد وجهه وجهه، بل قناع نصفه يبكي ونصفه يبتسم – قناع "البكاء الضاحك"!


لو كان شي ليان السابق، لرأى نفسه هكذا في المرآة لصرخ رعبًا. لكن هو الآن لم يشعر بالخوف مطلقًا. ضحك بجنون وكأنه لم ير شيئًا، ثم اقتحم الباب مترنحًا واندفع خارجًا.


لقد أصبحت العاصمة الإمبراطورية القديمة لشيان لي مجرد أنقاض مدمّرة.


بالقرب من الخراب، كان لا يزال هناك بعض السكان الناجين، ولاجئون لا مأوى لهم. فمنذ تفشي داء الوجه البشري وسقوط العاصمة، باتت هذه المدينة التي كانت يومًا براقة مسكونة بنسمات باردة تقشعر لها الأبدان. واليوم، كانت البرودة أشد من أي وقت. بعض المتسولين البائسين تفرّقوا، شاخصين إلى السماء وهم يهربون. أحس الناس أن شيئًا مشؤومًا على وشك الحدوث، فالأفضل ألا يبقوا في الشوارع.


أمام بوابات المدينة المدمّرة كان ميدان المعركة. عادةً لم يجرؤ الكثيرون على الاقتراب منه. لم يكن هناك سوى مزارع عجوز، يجري هنا وهناك، يلتقط بعض الأرواح التائهة، ويضعها في كيسه ليصنع منها فوانيس. وبينما يركض، لمح فجأة على أطراف ساحة المعركة، هيئة غريبة بملابس بيضاء.


كان المنظر غريبًا بحق. ثوب جنازة أبيض واسع الأكمام، رباط حريري أبيض مربوط على أحد الأكمام يطفو في الهواء كأنه حي. وعلى وجهه قناع باهت، نصفه يبكي ونصفه يضحك.


ارتجف المزارع العجوز بشدة، وقبل أن يدرك السبب، كانت قدماه قد حملتاه بعيدًا عن ساحة المعركة. وبينما كان يحاول تهدئة رعبه، توقف فجأة والتفت إلى الخلف.


ذلك الرجل ذو الثياب البيضاء لم ينطق بكلمة، بل كان يتجوّل فوق أرض المعركة. الرياح العاصفة تدور من حوله، ومع كل خطوة، كان يدوس عظام القتلى.


كانت أرواح لا حصر لها من الموتى تعاني وتنوح على هذه الأرض، حتى أن الهواء كان أسودَ من شدّة الحقد.


سأل الرجل ذو الثياب البيضاء ببرود:

"هل تكرهون؟"


فصرخت الأرواح وبكت. فتقدّم بضع خطوات أخرى.


"الذين أقسمتم أن تحموهم وتفدُوهم بأرواحكم، صاروا الآن مواطنين في المملكة الجديدة. هل تكرهون؟"


امتزجت صرخات الأرواح بالعويل الحاد.


قال الرجل ذو الثياب البيضاء ببطء:

"لقد نسوكم أنتم الذين ضحيتم في ساحة المعركة، نسوا تضحياتكم، ويهتفون لمن سرق حياتكم. هل تكرهون؟"


وسط العويل علت صيحات غضب وزئير.


صرخ الرجل ذو الثياب البيضاء فجأة:

"ما فائدة الصراخ؟ أجيبوني، هل تكرهووون؟؟"


وفي سماء ساحة المعركة بأكملها، دوّى صدى لا يُحصى من أصوات الحقد واليأس:


"نحن نكره..."


"نحن نكره..."


"اقتل... نريد أن نقتلهم!!!"


فتح الرجل ذو الثياب البيضاء ذراعيه نحوهم ومدّ كفيه:

"تعالوا إلى جانبي."


أوضح كلماته:

"أعدكم، لن ينعم شعب يونغ آن بالسلام أبدًا!"


صرخات، عويل، نحيب، زلزلت الأرض وارتجت لها السماء. أرواح جنود شيان لي الموتى، ممزوجة بأرواح ضحايا داء الوجه البشري، أجابت. وفي السماء المغطاة بالسواد، بدأت تأخذ شكلًا!


المزارع العجوز الذي شاهد المشهد من بعيد أصيب برعب شديد.


"هذا... هذا هو...!!!"


لمعت في ذهنه ثلاث كلمات فقط:


الكارثة ذات الثياب البيضاء!


وفجأة، سمع ذلك الرجل ذو الثياب البيضاء صوت شاب خلفه:

"سموك ..."


التفت، وإذا بشاب أسود الثياب واقف خلفه منذ لا يدري متى. ثم انحنى أمامه، جاثيًا على ركبة واحدة.









يتبع...

  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
Fojo team

عدد المقالات:

شاهد ايضا × +
إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق

X
ستحذف المقالات المحفوظة في المفضلة ، إذا تم تنظيف ذاكرة التخزين المؤقت للمتصفح أو إذا دخلت من متصفح آخر أو في وضع التصفح المتخفي