الفصل مئتان واثنان وعشرين : لقاء مع ملك الأشباح؛ الاختباء في قصر ولي العهد -٢-.
بمجرد أن سمع شي ليان ما قاله، اجتاحه برد شديد من أسفل ظهره، ووقف شعر جسده.
كأنّه شعر بتلك اللحظة التي تسلّل فيها غوشي إلى غرفة جون وو تلك الليلة وأزال القناع. سمع صوت جون وو وهو ينهض من جانب الطاولة، يقترب ببطء في اتجاهه.
هوا تشينغ كان واقفًا خلف الستائر، تمامًا بجانب السرير!
عندما صعد شي ليان إلى السرير، كان قد أخفى فانغ شين تحت الوسادة. وفي تلك اللحظة، قبضت يده بإحكام على مقبض السيف، مترقّبًا اللحظة المناسبة، لكنه في الوقت نفسه شكّ في ما إذا كانت ستأتي لحظة مناسبة أصلًا. غير أنّ جون وو لم يتوجّه نحو الستائر كما توقّع، بل اقترب من السرير مباشرة ورفع الغطاء عن جسده. شعر شي ليان بقشعريرة تجتاح بدنه فانتفض جالسًا وحدّق به بحدّة، غير أنّ جون وو لم يفعل سوى أن رمقه بنظرة فاحصة مليئة بالحسابات.
قال بصوت خافت:
"هذا الرداء لا يليق بك."
"...."
حينها فقط تذكّر شي ليان أنّه ما زال يرتدي الديباج الخالد !
مع أنّ هذا الثوب كان قد تحوّل الآن إلى زيّ أبيض للزراعة، فمن الطبيعي أنّ جون وو لم يكن ليغفل عنه. راقب شي ليان لحظةً بنظرات مقيِّمة، ثم تنهد.
قال:
"أنت حقًا لا تستمع إليّ. خرجت لتثير المشاكل مجددًا، أليس كذلك؟"
راقبه شي ليان بقلق، لكن فجأة وقعت عيناه على الطاولة، حيث وُضع صندوق هدايا. كان الصندوق مفتوحًا بالفعل، وبداخله بعض حبات الملفوف وعدة بطاطس وجزر.
"...."
فاتضح أنّ ما قصدته سيدة المطر عندما أوقفته قبل قليل وقالت إنها نسيت أن تعطيه شيئًا... لم يكن سوى تذكارات من مملكة يوشي.
خلف جون وو، رفع هوا تشينغ بصمت طرف الستارة، كاشفًا عن وجهه. التقت عيناه بعيني شي ليان من خلال الفراغ بينهما.
وببطء وضع يده على مقبض سيفه الفضي المعلّق على خصره، وكأنّه يفكّر فيما إذا كان عليه أن يهاجم الآن. لكن شي ليان لم يرى اللحظة مناسبة، فتظاهر بعدم الرغبة في محادثة جون وو، وهزّ رأسه نافيًا.
سأل جون وو:
"أين أخفيت لينغ وين؟"
بالطبع لم يكن في وسعه تسليمه لينغ وين. فمجرّد أن يراها على هيئة دمية داروما، سيستنتج فورًا أنّ هوا تشينغ تسلّل إلى العاصمة السماوية.
ومع ذلك، لم يستطع شي ليان إلا أن يتساءل: هل يعقل أنّ جون وو لم يشك أبدًا أنّ هوا تشينغ قد تسلّل بالفعل؟
ثم قال جون وو مجددًا:
"شيان لي، تعابير وجهك توحي بوجود خطأ. ما الأمر؟ أيمكن أن تكون، إلى جانب الديباج الخالد ، قد أخفيت أحدًا آخر؟"
لكن ملامح شي ليان لم تتغيّر مطلقًا. كان جون وو يعرفه حق المعرفة.
تبادل شي ليان نظرة صامتة مع هوا تشينغ خلف ظهر جون وو، ثم تماسَك وقال ببرود:
"فكّر كما يحلو لك. على أي حال، لا أحد يستطيع الخروج الآن، لذا لا أملك ما أفعله. افعل ما تشاء، أيها العجوز."
ثم استلقى مجددًا، وجذب الغطاء فوق رأسه. أما جون وو، فقد استدار وبدأ يتجوّل في الغرفة بهدوء، يبحث بتأنٍ.
وبعد بحث طويل لم يجد شيئًا، فتوقف لحظة، ثم اتجه كما توقّع شي ليان نحو الستائر ومدّ يده.
وعندما رفع الستارة، لم يجد شيئًا.
توقف لحظة، ثم أسدل الستارة وعاد إلى الطاولة. أما قلب شي ليان، المستلقي في السرير، فما زال يخفق بقوة ولم يهدأ بعد.
تحت الغطاء، كان هوا تشينغ مستلقيًا إلى جانبه مباشرة، وجهيهما متلاصقان قرب بعضهما حدّ الالتصاق. خفق قلب شي ليان بعنف، وجسده كله كان متوترًا مشدودًا.
ابتسم هوا تشينغ وهمس دون صوت:
"لا تخف سموك ."
ففي اللحظة ذاتها التي استدار فيها جون وو، كان هوا تشينغ قد أسدل الستارة بخفة، ثم بعدما مرّ بجانبه، انزلق بهدوء إلى جانب سرير شي ليان. فما كان من شي ليان إلا أن جذبه إلى الداخل وأخفاه تحت الأغطية، وفي اللحظة التي استدار فيها جون وو ثانية، كان هوا تشينغ قد استقر بالفعل.
كان التوقيت مثاليًا، والوضعية مدروسة، فلم يرى جون وو شيئًا سوى بطانيات مبعثرة.
أخيرًا، قال جون وو:
"شيان لي، كفّ عن النوم. فلن تستطيع النوم على أي حال. انهض وتعال معي."
في الواقع، كان شي ليان يرغب في التظاهر بالنوم وألا ينهض، لكنه خشي أن يقترب جون وو مجددًا ويرفع الغطاء. لم يكن أمامه سوى أن ينهض ببطء من السرير، ويخفي دمية الداروما الزرقاء في كمّه بجانب الوسادة.
كان جون وو قد غادر الغرفة، فألقى شي ليان نظرة إلى الوراء. كان هوا تشينغ قد خرج من السرير بالفعل، وعيناه مظلمتان وكأنه يستعد للحاق به. لكن شي ليان أسرع وأشار إليه بألا يظهر مطلقًا، مطمئنًا إياه أنّ كل شيء على ما يرام.
ناداه جون وو من الخارج:
"ما الأمر؟ لماذا لم تأتِ بعد؟ هل ثمة ما يبقيك هناك في السرير؟"
فعاد شي ليان على الفور إلى الغرفة، والتقط صندوق التذكارات عن الطاولة، ثم خرج وأغلق الباب خلفه. تناول جزرة من الصندوق وقضمها.
وأجاب بفتور:
"لا شيء. ألا يجوز أن أكون جائعًا؟"
نظر إليه جون وو ورمق الجزرة في يده قائلًا بلطف:
"إن أعجبتك، لدي المزيد. سأرسل لك بعضًا منها في وقت آخر."
شي ليان: "..."
سارا بضعة شوارع، وإذا بصوت صاخب يدوّي من بعيد:
"هاهاهاهاها! فنغ شين! أيها الكلب! هذا الملك الأشباح يدوس على قصرك الآن، ماذا ستفعل؟ هاه؟ تعال قاتلني! هاهاهاها!"
إنه شي رونغ مجددًا!
وعندما اقتربا، شاهدا القصر الذهبي بأسره يتعرض لهجماته، والكلمات الضخمة القبيحة "شي رونغ كان هنا" منقوشة في كل مكان. بل إنه قفز إلى الأسطح وبدأ يكشف القرميد، وهو يصرخ ويعوي على المسؤولين السماويين في الداخل. وكان غوزي إلى جانبه، يبدو عليه الحزن، يريد الكلام لكنه يمتنع.
كان حينها يقفز ويدوس فوق قصر نان يانغ، لكن فنغ شين كان متضايقًا لدرجة أنه تجاهله تمامًا. صرخ شي رونغ لفترة حتى ملّ، فاتجه إلى قصر مو تشينغ وصرخ الكلمات نفسها. بدا أنّ مو تشينغ اكتفى بالتدحرج بعينيه عليه مرارًا، ما أثار غضب شي رونغ الذي راح يقفز بعشوائية في كل مكان، ثم صعد فوق قصر شوان يي تشين.
غير أنّه وقبل أن يفتح فمه، اندفع تمثال إلهي ذو شعر مجعَّد من القاعة، وطار نحوه، مسقطًا إيّاه من على السطح برأسه أولًا. لقد كان شوان يي تشين الغاضب، الذي استخدم تمثاله الإلهي سلاحًا، وقذفه مباشرة في وجهه!
ذهل غوزي، فتشبّث بحافة السطح وهو يبكي:
"أبي! هل أنت بخير؟"
استشاط شي رونغ غضبًا وهو يصرخ:
"شوان يي تشين! أيها الأحمق عديم الشرف! أتجرؤ على الغدر بي من الخلف؟!"
تردّد غوزي لحظة، ثم سأل بارتباك:
"أبي، كيف كان ذلك غدرًا؟"
ألم يرمي شوان يي تشين التمثال الإلهي علنًا أمام الجميع؟
زمجر شي رونغ:
"أيها الابن الغبي! طالما أنّه هزمني، فمهما كانت الطريقة، فهي غدر! وإلا فكيف يمكن أن ينتصر على هذا الجد العظيم؟!"
قال غوزي: "آه..."
"...."
لم يكن شي رونغ سوى ابن عمه الصغير مهما حدث، فلم يستطع شي ليان إلا أن يرفع يده ويغطي وجهه. عندها توقّف جون وو عن السير.
قال بصوت هادئ:
"الشبح الأخضر."
بمجرد أن سمع شي رونغ هذا الصوت، تجمّد وجهه، ثم نهض متحسّسًا الأرض بحذر، يبدو عليه الحذر الشديد من جون وو. ومع تلك النظرة، رأى كلٌّ من الأب والابن شي ليان.
هتف غوزي بفرح:
"الأخ جامع الخردة!"
أما شي رونغ، فلم يزد إلا أن أطلق شخيرًا ساخرًا:
"هاه! من هذا؟ أليس ولي العهد ابن عمي العزيز!"
لم يكن شي ليان يرغب في الاعتراف به مطلقًا، لكنه مع ذلك جاء ليزعجه، يطوف حوله ساخرًا.
قال متهكمًا:
"ألم تكن متعجرفًا في الماضي؟ مع جبلين خلفك تسند ظهرك، تزدري بي من علو. ما بالك الآن تبدو ككلب ضال؟"
استغرب شي ليان، "جبلين خلفه"؟ ثم أدرك أن أحدهما كان هوا تشينغ ، والآخر جون وو. نظر إلى جون وو الواقف أمامه، ولم يستطع منع مشاعره المتخبّطة.
تذكّر فجأة قبل زمن بعيد حين سأل هوا تشينغ : "كيف هو جون وو؟" وكان جواب هوا تشينغ حينها: "لا بدّ أنّه يكرهك كثيرًا."
واصل شي رونغ ساخرًا:
"هيهيهي، في السابق استعنتَ بذلك الحقير هوا تشينغ كظهرٍ تسند إليه، وغدرتَ بي. ولم أطلب الثأر منك بعد، فإذا بشخص آخر يسبقني وينتقم منك! يا له من جزاء عادل!"
قال جون وو بهدوء:
"أيها الشبح الأخضر، كفّ عن الهراء مع شيان لي. أخرج أتباعك الآن."
مع أنّ شي رونغ كان يلعن جون وو في الخفاء طوال الوقت، إلا أنّه حين واجهه وجهًا لوجه، طأطأ رأسه وذيله بخنوع. ورغم أنّ ملامحه أظهرت كل عدم الرضا، إلا أنّه لم ينبس بكلمة أخرى، بل قفز إلى السطح، وحمل غوزي، وانطلق مسرعًا لينفّذ الأوامر.
التفت جون وو إلى شي ليان وقال:
"لنذهب."
نظر شي ليان إلى الطريق الذي يقوده فيه، وفكّر في نفسه: "هذا الاتجاه... هل هو نحو أتباع شي رونغ؟ هل يعقل...؟"
وبعد قليل، انعطفا عند زاوية، فإذا بقصر فخم للقتال يظهر أمامهما.
إنه قصر "مينغ غوانغ"!
وكانت أصوات غاضبة وصراخ مبعثر يخرج من الداخل.
فزع شي ليان، ولم يهتم باتباع جون وو، بل ركض مسرعًا إلى الداخل.
وكان المشهد في الداخل فوضويًا للغاية!
كان وجه باي مينغ أسود كالحجر، فيما كانت شوان جي كأفعى سامة، تلتفّ حوله بخناق محكم، تكاد تعقد نفسها عقدًا على عنقه. شعرها الطويل متناثر، وجهها أخضر، أسنانها حمراء، وعيناها متوحشتان تلمعان، تبدو كأنها تريد أن تعضّ عنقه حتى تنزع رأسه. لكنها في الوقت نفسه كانت ممسكة من عنقها بقوة على يد بان يوي، وفي الجهة الأخرى، كان سيف مكسور موجّهًا إلى عنق باي مينغ، يكاد يخترقه، لولا أنّ يدي باي سو أمسكتا بالشفرة ومنعت تقدّمها.
وخلف بان يوي وباي سو، كان كي مو يلوّح بقبضتيه الجبارتين ليستعدّ لضربهما. لولا أنّ باي مينغ الشاحب الوجه تشبّث به مانعًا، لكانت قبضتاه العملاقتان، أكبر من المطارق الحديدية، قد سحقتا باي سو وبان يوي. أما شوان جي ورونغ غوانغ، فكانا يتشاجران حول من له الحق في قتل باي مينغ أولًا، يصيحان ويمزّقان بعضهما.
صرخت شوان جي:
"ابتعد! حياة باي مينغ القذرة ملكي، لي أنا، لي وحدي!!!"
أما رونغ غوانغ، المتجسد في سيف مينغ غوانغ، فقد صاح:
"أنتِ ابتعدي أيتها الجاهلة! هناك على الأقل ثمانمئة، إن لم يكن ألف امرأة، لم يردهن باي مينغ، أتظنين نفسكِ في مرتبة عالية؟ الشخص الذي سينتزع حياته القذرة هو أنا!!!"
انتفخت عروق جبهة باي مينغ بعنف وهو يصرخ:
"... أنتما... كليكما... مجنونان!!! ابتعدا، أيها الأوغاد!!!"
"...."
شعر شي ليان بشفقة بلا حدود. فمن زاوية ما، يمكن اعتبار هذا شقاء الشهرة المفرطة.
ناداه قائلًا:
"الجنرال باي، تمسّك قليلًا!"
وكان على وشك التدخّل لإنقاذه، لكن فجأة، وُضعت يد على كتفه.
خلفه، قال جون وو:
"شيان لي، هل ظننت أنني جلبتك إلى هنا فقط لتساعد في أعمال الخير؟"
وفي خضم العراك، التفت الجميع نحوهم، حتى بان يوي نادت بفرح:
"الجنرال هوا!"
وبضغط تلك اليد على كتفه، شعر شي ليان بأنه لم يعد قادرًا على الحركة. فسأل:
"إذًا، لماذا جئت بي إلى هنا؟"
ظل جون وو ممسكًا بكتفه، ثم دفعه إلى داخل القصر. وما إن دخلا، حتى سقطت تلك المجموعة المتشابكة جميعها على الأرض دفعة واحدة، وكأن قوتهم قد سُحبت منهم، ولم يبقَ سوى بعضهم يتخبط.
قال جون وو:
"مينغ غوانغ."
لم تعد شوان جي تخنق باي مينغ، فعاد لوجهه بعض لونه، وتنفس بارتياح، وقال:
"جلالتك ، حقًا... شكرًا لك على هذا."
مع أنّ نبرته لم تكن ساخرة، إلا أنّ كلماته حملت طابع السخرية. لكن جون وو لم يبدُ أنه اهتم، بل ابتسم قائلًا:
"لا حاجة لشكرٍ مبكر يا مينغ غوانغ، لقد جئت لأطلب مساعدتك في أمر."
قال باي مينغ: "ما هو؟"
قال جون وو:
"في العاصمة الملكية بالعالم السفلي، هناك مصفوفة بشرية الآن."
لقد كان ظنّه صحيحًا!
تابع جون وو بهدوء:
"دمّر تلك المصفوفة البشرية، وسأعيد إليك منصبك كمسؤول عسكري في الشمال."
نظر باي مينغ إلى شي ليان وضحك بمرارة:
"أليس ذلك زهرة المطر الحارس عليها؟ لا أظنني أستطيع كسرها بالقوة."
قال جون وو:
"بالطبع لا تستطيع كسرها بالقوة. لكنني لم أقل إن عليك كسرها بالقوة."
لو كان باي مينغ، فالأمر يسير للغاية. يكفي أن يتظاهر برغبة المساعدة، وعندها سيتركه شي شينغ شوان يدخل بالتأكيد. وما إن يدخل المصفوفة ثم ينقلب عليها فجأة، حتى تنهار! وفوق ذلك، لم يكن هوا تشينغ يحرس العاصمة الملكية الآن، وبالتالي لن يتمكن من إصلاحها إطلاقًا!
يتبع...
تعليقات: (0) إضافة تعليق