الفصل مئتان وأربعة وعشرين : قلب العالم رأسًا على عقب؛ معركة الحصن الشيطاني المشتعل في السماء -١-.
ارتفع ذلك التمثال الحجري الإلهي العملاق أكثر فأكثر تحت أنظار لا حصر لها من العيون المذهولة المصدومة. ورأى شي ليان أنه كان في حالة مثالية، بلا أي خدش، حتى أثر الساق المكسورة الذي كان الأبيض عديم الوجه قد ألحقه به في السابق لم يعد له وجود.
قال بفرح:
"سان لانغ، أصلحته؟"
ابتسم هوا تشينغ وقال:
"إن كان عليّ أن أصعد إلى السماء لآخذ غاغا معي، فهل أجيء فارغ اليدين؟ فلنذهب!"
أومأ شي ليان. "الجميع، اصعدوا بسرعة!"
لكن عندها فقط رأى جمع المسؤولين السماويين بوضوح أنّ الذي بجانبه هو هوا تشينغ ، فكادوا يسقطون على ركبهم.
"يا سموك ... الشخص الذي بجانبك هو؟؟"
ازدادت الكآبة على جبين فنغ شين، وأخيرًا بدأ يصرخ:
"جيان لان! جيان لان!"
لكن لم يجبه أحد. وفي تلك اللحظة، رأى لانغ شيان شيو شي رونغ يتسلّل مختبئًا في زاوية الشارع، فاندفع ليقبض عليه، لكن ما إن مرّ بجانب قصر تاي هوا حتى اهتزّ القصر بأكمله فجأة وانهار، كأن شيئًا في داخله قد انفجر.
ارتاع المسؤولون السماويون جميعًا، ولما التفتوا أبصروا وسط الأنقاض والنيران المشتعلة، شخصًا واقفًا هناك برأس منحنٍ وصمت قاتم.
لقد تحرر جون وو من أسر الفراشات الفضية.
كما هو متوقع، لم يكن بالإمكان منعه!
تدحرج شي رونغ مسرعًا ليختبئ خلفه، وهو يصرخ بتبجّح على الجمع:
"حثالة! قمامة! اقتربوا إن كنتم تجرؤون!"
لم يزل الوحيد الذي يتجرأ على الاقتراب، غافلًا عن هلاكه الوشيك؛ أما بقية المسؤولين فلم يجرؤ واحد منهم على التفوّه بكلمة.
على جسد ذلك الإله الحربي المتشح بالأبيض، ارتفع هالة سوداء إلى السماء فيما أضاء نور أبيض باهر في الوقت نفسه، يتبدلان باستمرار، لا يمكن التنبؤ بهما. شعر المسؤولون السماويون أن هذا الـ"جون وو" غريب عنهم إلى حد لا متناهٍ، ولم يتجرؤوا حتى على التنفّس بصوت مسموع. أما هو، فكان يحدّق في شي ليان بتركيز، ويتقدم بخطوات بطيئة نحو الحشد. ومع كل خطوة، كانت تندلع تحت قدميه نيران الحرب، تبدأ بشرارات متفرقة، ثم لا تلبث أن تشتعل بجنون لتتحول إلى لهيب هائل يزأر صوب السماء.
تعلقت تلك النار بجسد شي رونغ، فأطلق عويلًا شيطانيًا وهو يفرّ هاربًا حاملاً غوزي بين ذراعيه. وفي وسط الشارع، وقف شوان يي تشين حاملاً جثة يين يو على ظهره، مغطىً بالرماد، ولما وقعت عيناه على جون وو، اشتعلت نيران الغضب فيه كذلك. حتى أنه لم يضع الجثة أرضًا، واندفع نحوه مباشرة، لكن شي ليان أمسك به ليمنعه.
اندفعت موجة أخرى من الفراشات الفضية، واغتنم شي ليان الفرصة ليصرخ:
"هيا! لا تقفوا هكذا متجمدين!"
تردد المسؤولون السماويون لحظة، ثم ما لبثوا أن أجابوا النداء واحدًا تلو الآخر. مئات منهم قفزوا على التمثال الحجري العملاق، كأسراب نمل أسود تزحف، محتشدين على كتفيه وصدره. وإن لم يجدوا موطئًا للقدم، لم يكن أمامهم سوى التعلق بأطرافه.
ولأن الطيران لا يمكن أن يعتمد فقط على فوانيس البركة والفراشات الفضية، وكان العدد كبيرًا للغاية، لم يتمكن شي ليان من اللجوء إلى هوا تشينغ . وفي لحظة طارئة، استلهم فكرة، فسحب أحد المسؤولين السماويين ليحجبه، ثم وضع كفيه على وجه هوا تشينغ وقبّله بعمق.
في لحظة، امتلأ جسد شي ليان كله بالقوة الروحية. أما المسؤول الذي استُخدم كستار فتيبّس مكانه تمامًا، وصاح بصدمة:
"ما الذي تفعلانه خلف ظهري؟!"
وانطلقت نحوهما عيون لا تُعدّ ولا تُحصى. عندها فقط اكتشف شي ليان أنّ الذي سحبه ليحجب الرؤية لم يكن سوى لانغ شيان شيو نفسه. ندم شي ليان في داخله ندمًا شديدًا: يا له من إثم! لا يجب أن يرى هذا الطفل مثل هذا المشهد!
فصاح على عجل:
"لم نفعل شيئًا! لا شيء يستحق أن تراه!"
ثم استدار وصرخ نحو التمثال الإلهي:
"طر!"
وكأن التمثال قد سمع ندائه، فانفتحت عيناه المغمضتان فجأة، وازداد اتساع الابتسامة على وجهه. تناثرت الفراشات الفضية وفوانيس البركة فجأة، لكنه ظل عائمًا بثبات في السماء، فيما بدا شعره الطويل وأكمامه وحوافه وكأنها تتمايل مع الريح.
إنه يطير!
قفز شي ليان وهوا تشينغ فوقه، ووقفا على المنصة الجوهريّة فوق رأس التمثال. صاح شي ليان:
"تمسكوا جميعًا جيدًا! تشبثوا بقوة!"
وبمجرد أن أنهى كلامه، هبط جسد التمثال قليلًا، ثم اندفع إلى الأمام بقوة هائلة!
وقف شي ليان وهوا تشينغ في أعلى نقطة، ومع التمثال العملاق، حملا مئات المسؤولين السماويين بعيدًا عن العاصمة السماوية. لكن عددًا منهم ظل يلتفت إلى الوراء بقلوب كسيرة، فسنوات من مدخراتهم وكنوزهم بقيت هناك وسط النيران.
وبينما بدأ الهدوء يعود، تذكّر شي ليان فجأة أن الفوضى السابقة لم تترك وقتًا لحصر الغائبين.
فقال:
"هل صعد الجميع؟ أين غوشي؟ الجنرال باي؟"
من يدري إن كان الجنرال باي قد هلك أم لا. أخذ شي ليان يتلفت بين الظلال، مناديًا:
"معلمي!"
فجاءه صوت غوشي من بعيد:
"لقد جئت!"
تنفس شي ليان الصعداء قليلًا. لكن فجأة صاح أحدهم:
"إنه يقترب! يقترب!"
كما توقّع! وراء ظهر التمثال العملاق، كان شيء قرمزي يلاحقهم، أشبه بضوء أحمر قاتل للحياة.
لقد كانت العاصمة السماوية نفسها!
العاصمة التي كانت من قبل ملفوفة بالغيوم الميمونة، غدت الآن قلعة شيطانية ملتهبة!
قال أحدهم مرتاعًا:
"إنه الإمبراطور... الإمبراطور يحرك العاصمة السماوية... يريد أن يفنينا جميعًا..."
"سوف يلحق بنا!"
لكن شي ليان صرخ:
"ليس بهذه السرعة!"
غيّر أختام يديه بسرعة، فأضاءت عينا التمثال العملاق. والريح التي كانت تعصف حول آذان المسؤولين السماويين ازدادت عنفًا، تعوي بجنون، وفي لحظة ابتعد الضوء الأحمر الملاحق عنهم مسافة شاسعة.
لقد صار التمثال يطير أسرع!
وبينما تسارعت الأمور من جانبهم، لم يستسلم ذلك الضوء الأحمر أيضًا. إذ فجأة انفجرت سرعته، دويّ دويّ، واقترب أكثر فأكثر، مما جعل العديد من المسؤولين السماويين يصرخون بفزع. وبهذه المسافة، كادوا يرون بوضوح الهيئة القائمة داخل العاصمة السماوية!
أما العالم البشري فلم يكن يدرك شيئًا مما يجري؛ كان الأطفال يضحكون ويلعبون، وحين رأوا في السماء ضوءًا أبيض يشقّها، يتبعه ضوء أحمر يطير، فتحوا أفواههم مبهورين وصفقوا ببراءة.
"ما أجمله!"
كان شي ليان يعلم أن الأمر لا يمكن أن يستمر على هذا النحو، وأن عليهم أن يزيدوا السرعة مجددًا، لكنه شعر بدوار خفيف. فقد ظلّ يحلّق طويلاً مستندًا إلى نفس واحد فقط. كان هوا تشينغ يدعمه، لكن قبل أن يتبادلا الكلام، دوّى صوت غوشي من الأسفل:
"ماذا تفعلون واقفين هكذا؟! أَمسؤولون سماويون بعد كل هذا ما زلتم تنتظرون أن تستعيروا القوة الروحية من ملك أشباح لتنجوا؟ ألا تخجلون من أنفسكم؟"
لم يُعجب بعض المسؤولين بنبرته، فهتف أحدهم:
"مَن أنت حتى تعظنا؟ ما الذي يمنحك الحق؟"
أجابه غوشي:
"لا يهم مَن أكون؛ حين كنتُ في البلاط الأعلى، كنتم ما زلتم تلعبون في الرمال. المهم الآن أن تضعوا أيديكم الناعمة الذهبية على هذا التمثال الإلهي، وتغذّوه بأكبر قدر من قوتكم الروحية! عندها فقط سيتمكّن من الطيران أسرع، وإلا فهل تنتظرون حتى يدركنا؟ هل أنتم معتادون على الوقوف متفرجين لدرجة أنكم نسيتم أن حياتكم على المحك؟ هل تحتاجونني لأذكّركم بأمر بديهي كهذا؟"
وعند تذكيره هذا، استعادت العقول وعيها. صاح المسؤولون الواحد تلو الآخر، وقد خجلوا من أنهم نسوا حيلة كهذه، ثم مدّوا أيديهم بالفعل على جسد التمثال.
"يا سموك ، هذا الحقير سي... يساعدك!"
"آه، وأنا أيضًا..."
"ليست لدي قوة كثيرة... لكن سنفعل ما بوسعنا."
وبذلك، ومع مئات الأيدي والأقدام (سبع إلى ثمان مئة)، امتلأ التمثال الإلهي من جديد بالقوة الروحية، فأحسّ شي ليان بطاقة متجددة تتدفّق في جسده. هدر التمثال مرة أخرى، وبقوة عظيمة، ابتعد عن ذلك الضوء الأحمر مسافة عشرات الأميال!
تنفّس المسؤولون السماويون جميعًا بارتياح، ومسح كل منهم العرق عن جبينه.
فجأة، قال هوا تشينغ :
"غاغا ، انزل للأسفل."
وبما أنه هو من طلب، لم يسأل شي ليان عن السبب، بل اندفع إلى أسفل فورًا. اخترق التمثال الإلهي طبقات الغيوم السوداء الكثيفة، ليجدوا تحتها أيضًا ساحة من الظلام الدامس، لا ضوء فيها ولا دخان. اضطرب المسؤولون السماويون وقالوا:
"ماذا... ما هذا المكان؟ لماذا هو مظلم هكذا؟ إنه مخيف جدًا."
"يا سموك ، لماذا جئنا إلى هنا؟"
"لا أظن أنه من الحكمة البقاء هنا طويلًا!"
لكن هوا تشينغ قال:
"سنظل هنا، ولا نتحرّك. فلننتظر."
ظلّ التمثال العملاق معلّقًا في الهواء، فقال شي ليان:
"إن. ننتظر ماذا؟"
أجاب هوا تشينغ بصوت منخفض:
"ننتظر حتى يلحق بنا... ثم نخوض جولة معه."
وما إن خرجت الكلمات من فمه، حتى اخترق الضوء الأحمر ظلام الغيوم من الأعلى، ونزل هو الآخر نحوهم. كحصنين عظيمين، تقابلا وجهًا لوجه في سماء الليل.
تجمّدت عيون المسؤولين السماويين مفتوحة، يتابعون اقتراب ذلك الضوء الأحمر، والبرد يزحف في ظهورهم، وراحوا يتهامسون:
"يا سموك ، لماذا لا نغادر؟"
"لا يمكن أن تكون تنوي مقاتلته وجهًا لوجه؟ لا أمل في النصر!"
"لقد جُنّ مجددًا! كنت أعلم أن هذا الرجل لا يتوقف عن الحماقات!!! مرّت مئات السنين وهو دائمًا..."
"من ركلني؟!"
"أنا." قال غوشي ببرود. "قل كلمة أخرى وسأرميك من هنا مباشرة."
"مَن تكون بحق السماء؟؟"
كان التمثال الإلهي ضخمًا بلا شك، لكن العاصمة السماوية أعظم وأشد هيبة. لو تواجها وجهًا لوجه، فبالمقارنة سيكون التمثال مهددًا بالتحطيم. ومع ذلك، كان شي ليان يضع ثقته الكاملة في هوا تشينغ ، فاكتفى بالمراقبة صامتًا.
وما إن اقترب الضوء الأحمر مسافة نصف ميل فقط، شعر شي ليان أن شيئًا ما يتفعّل تحت قدميه. نظر إلى الأسفل، فوجد الظلمة التي تحتهم تتحرك غَضْغَضْ، غَضْغَضْ، ترتفع وتطوي نفسها، أشبه بـ...
...الأمواج.
فجأة، أدرك شي ليان مكانهم.
كما لاحظ بعض المسؤولين الآخرين، فصاح أحدهم بذعر:
"يا إلهي... هذا المكان يبدو وكأنه... عرين شيطان المياه السوداء! لقد جئنا إلى وكر الشياطين!"
وما إن قيلت الكلمات، حتى اخترقت عدة شرائط بيضاء الظلام من الأسفل وقفزت إلى الهواء!
أربع مجموعات من العيون؛ ثمانية عيون ضخمة كفوانيس نارية شبحية، خضراء مخيفة، تحدّق في ذلك الحصن الشيطاني المشتعل. أطلقت عواءً طويلًا شريرًا، وكأنها مستاءة للغاية من هذا الدخيل الوقح. راحت ذيولها العملاقة تلوّح جيئة وذهابًا، تضرب سطح البحر، مثيرة أمواجًا شاهقة بارتفاع آلاف الأقدام.
إنها التنانين العظمية الأربعة!
وما إن رفعت رؤوسها نحو الحصن الناري، حتى اندفعت تيارات مائية هائلة من أفواهها، بقوة كافية لتمزق جدران الحديد والفولاذ.
لم يستطع شي ليان إلا أن يعيد تقييم انطباعه. فقال:
"في المرة الأخيرة التي رأيناهم، كانوا... هاها، لم أظن أنهم في الحقيقة بهذه الضراوة."
ومن سطح البحر الأسود، راحت عظام الوحش العملاق تندفع خارجة، والأسماك تقفز مصدرة صفيرًا، كأنها مقاليع تقذف صخورًا نحو الحصن. ولما رأى المسؤولون هذا المشهد، أصيبوا بالحيرة التامة. كان جون وو يلاحقهم ليقتلهم، بينما هوا تشينغ والمياه السوداء يساعدانهم! يا لها من ساحة غريبة حقًا.
أحاطت التنانين العظمية الأربعة بالحصن الشيطاني، وأمطروه بوابل من الماء، لكنه لم يُجدِ كثيرًا، فلهيب الحرب المستعر لا يمكن أن تُطفئه المياه. كلما قفزت الأسماك أكثر، زاد جنون النار، حتى إنها التهمت البحر نفسه. وعلى سطح عرين شيطان المياه السوداء، اجتمعت النيران مع الأمواج، يتراقص لهبهما معًا بجنون. ومن أعماق الماء انبعثت عويلات وأصوات نواح للأشباح.
تكوّرت قطرة عرق على جبين شي ليان وقال بتردّد:
"هل... هل من المناسب... أن نجلب كل هذا الخراب إلى أرض المياه السوداء؟"
فأجاب هوا تشينغ :
"لا تشغل بالك. إنه مدين لي بالمال. قاتل كما تشاء."
شي ليان: "؟؟؟"
فجأة، أشار أحدهم إلى الأمام وهو يصرخ:
"ماذا... ماذا يفعل؟"
أدار شي ليان بصره أيضًا، وما إن رأى، حتى ارتجف قلبه.
يتبع...
ملاحظة المؤلفة:
في الحقيقة، "المياه السوداء" مدين لهوا تشينغ بدَين ضخم فعلًا؛ إنه "الاسمى" فقير جدًا. لقد خفَّض بشكل كبير متوسّط الدخل لدى رتبة "الاسمى" بأكملها (مع أن عددهم ثلاثة فقط). لكن، ليس كل ذلك الدَّين سببه الأكل الكثير فحسب.
تعليقات: (0) إضافة تعليق