Ch27 برج الأبروش
لم يكن تشن جيايو يتوقع أن تأتي فرصته بهذه السرعة ،،
ففي رحلة عودته من شنغهاي إلى بكين ،
كان من المقرر أن تقلع طائرته عند الثانية ظهرًا ،
لكن ظروف غير متوقعة أجّلت الرحلة حتى الثامنة مساءً ،،
ولحسن الحظ لم يُحتسب وقت انتظاره في المطار ضمن
ساعات عمله الرسمية ، مما سمح له بأن يقود الطائرة
بنفسه لاحقًا في ذلك المساء
وقبل الإقلاع تفقد تشن جيايو النشرة الجوية
وجد أن عاصفة قوية تتجمع فوق بكين ، محمّلة بسلسلة
من العواصف الرعدية العنيفة ،
لم يسعه إلا أن يتنهث تنهيدة طويلة — { لو لم يتعطل
خزان الوقود في وقت سابق ، لكنت الآن مستريحًا في منزلي }
لكن لم يكن أمامه سوى الأمل بأن تنقشع السماء عند وصولهم
وما إن اقتربوا من أجواء بكين ، حتى واجه الحقيقة المرعبة
مباشرة —- : 'عواصف رعدية مصحوبة برياح عاتية' —
الكابوس الأكبر لأي طيار —-
ألقى نظرة سريعة إلى مؤشر الوقود ، فوجد أن المتبقي
يكفي لساعة ونصف فقط، أي لهبوط أو محاولتين اثنتين لا أكثر ،
وإن فشل ، فخيار تحويل المسار إلى تيانجين أو حتى شنيانغ يبقى آخر الحلول ،
امتلأت قناة الاتصال اللاسلكي بضجيج الأوامر السريعة
والنداءات المتتابعة ،،، وفجأة ، ميز بين ذلك الزحام الصوت
العميق الخافت ، صوتًا بدا مألوفًا وإن كان متغيرًا على غير العادة…
“CA1328، هنا اقتراب بكين، الاتصال بالرادار مؤكد. استعد للاقتراب على المدرج 17 يمين، حافظ على الارتفاع 4000 متر.”
ما إن ذُكر رمز ندائه ، حتى أدرك تشن جيايو أن المتحدث هو فانغ هاو —-
لكن صوته المعتاد الواضح والواثق ، بدا أجشًّا مبحوحًا بالكاد يُعرف ، فتفاجأ
تأمل شاشة الرادار أمامه وأجاب بسرعة :
“الحفاظ على ارتفاع 4000، CA1328. أطلب توجيهًا على المحور 350.”
ساد صمت قصير ثم ظهر صوت فانغ هاو مجدداً ، و هذه المرة محمّلًا بالحذر:
“CA1328، هل تتجه نحو النقطة الخماسية؟ نقوم حاليًا بتعديل اتجاهات المدارج بسبب مشاكل في الرياح السطحية.
الطائرات القادمة من الجنوب نحو المدرج L17 يتم تحويل مسارها.”
شعر تشن جيايو بقلق عابر—فالرياح القصيرة المتقلبة هي
الخطر الأكبر أثناء الإقلاع والهبوط ،
صحيح أن الطائرات الحديثة مزودة بأنظمة استشعار لتلك الظاهرة ، لكن يوم كهذا ، مع عواصف رعدية ورياح متقلبة،
يعني ببساطة الفوضى ،
خمس أو ست طائرات تضطر إلى إعادة المحاولة في وقت
واحد ، ومع تغييرات متزامنة في اتجاه المدارج—ذلك عبء
ثقيل حتى على أكثر المراقبين الجويين خبرة
تمالك أعصابه وردّ بصرامة :
“ مؤكّد ، نتجه نحو النقطة الخماسية ،
أطلب توجيهًا على المحور 350، CA1328.”
أتاه صوت فانغ هاو مُتعب عبر الراديو :
“CA1328، المحور 350 مسموح.
وأرجو مراقبة مستوى الوقود لديكم.
سنضطر لتأخير اقترابكم قرابة ثلاثين دقيقة.
هل لديكم أي اعتراض؟”
شدّد تشن جيايو على نبرته ليُخفي قلقه :
“ لا توجد اعتراضات في الوقت الحالي .”
لكن في أعماقه ، كان يعرف أن الانتظار نصف ساعة إضافية
مع هذا المستوى من الوقود ليس بالخبر الجيد ،
لكن لم يصرّح بذلك ، كان يفضّل الهبوط عاجلًا ، خصوصًا
بعد تأخير دام خمس ساعات ، إذ صبر الركاب بدأ ينفذ بالفعل
——-
في الطرف الآخر ، فتح فانغ هاو الميكروفون، لكن بدا أنه
سعل وانقطع صوته لثانية ، ثم عاد مجددًا: "الرحلة 1328 إير تشاينا ، استلمت.
رادارنا… يظهر أن الأحوال الجوية قد
تحتاج نصف ساعة إضافية لتتلاشى ."
قال تشن جيايو بهدوء هذه المرة : " لا بأس، مفهوم."
بعد لحظات، عاد صوت فانغ هاو عبر التردد:
" الرحلة 1328… هل يمكنك مساعدتي في التحقق من
الطقس عند اتجاهك بين الساعة العاشرة والحادية عشرة،
وعلى بعد عشرين ميلاً بحريًا ؟"
ففي الغالب تعتمد أبراج المراقبة على تقارير الطائرات في
الجو لمعرفة تفاصيل الطقس في محيط المطار، كما أن
المراقبين على الأرض أحيانًا يحتاجون لمؤشرات الطقس من
الطائرات لتقدير الوضع ،،
من المؤكد أن فانغ هاو قد تعرّف على صوته ، لكنه كان
متحفظًا جدًا واستخدم أسلوبًا رسميًا ،،
لكن تشن جيايو لم يكن لديه وقت للتفكير في ذلك ، إذ كان
عليه التركيز على مراقبة الطائرة ، فالطقس السيئ أكثر ما قد يسبب الحوادث
أجابه بصبر: " من موقعي الحالي ، السماء فوق المطار
مغطاة بمنطقة صفراء واسعة على الرادار ،
الرياح شمالية غربية 300، بسرعة 32 عقدة ."
اعتمد فانغ هاو التقرير باختصار : "الرحلة 1328 إير تشاينا، تم الاستلام ."
بعد قليل، جاء صوته مجددًا، يتخلله تشويش: " الرحلة 1328، أول طائرة على الاقتراب من المدرج 04 هبطت للتو .
ما رأيك في التحويل والمحاولة على المدرج 04؟"
ألقى تشن جيايو نظرة على الرادار: " المدرج 04… الوضع
ليس مثاليًا للتحويل. الطقس يحيط بي من الجانبين ."
لقد اصطفّ بالفعل للهبوط على المدرج 17 يمين ،
لكن مع استحالة الهبوط عليه ، فحتى لو تجاوز المدرج
سيضطر للدوران والعودة لاصطفاف جديد على مدرج آخر
وبينما يراجع مؤشراته ، جاء صوت فانغ هاو مجدداً بنبرة مترددة : "الرحلة 1328، ما رأيك بانعطاف يمين أولاً ، ثم انعطاف على شكل U-turn؟"
تردّد تشن جيايو قليلًا وهو ما زال يحلّل الطقس ومسار
الرحلة الظاهر على شاشاته ، حينها قدّم فانغ هاو بصبر خيار آخر :
“ أو يمكنني أن أوجّهك شمالًا أولاً ، ثم أُعيدك جنوبًا ،
لتكوين مسار مثلث للمدرج 04؟”
هزّ تشن جيايو رأسه بصمت وهو يقرأ من رادار الطائرة، ولم يبدُ أن أيًّا من الخيارين ممكن :
“ لا يصلح أي منهما ، الطقس يحيط من الجانبين ،
حسب راداري ، علينا الحفاظ على الاتجاه الحالي لمسافة
عشرين ميلًا بحري تقريبًا .”
ساد صمت قصير على الخط ثم ظهر صوت فانغ هاو
و هذه المرة أكثر بحّة وقد قاطعه سعال:
“ إذن… كح .. انعطف 360 شمالًا ، ثم…”
سعل مجددًا وأضاف بسرعة :
“ تصحيح ، انعطف 360 شمالًا ، بعدها نوجّهك لليسار نحو الجنوب ؟”
أجاب تشن جيايو بنبرة يائسة :
“ ما زال غير ممكن. الطقس يقترب من مسافة 5 إلى 10
أميال بحرية فقط، الوضع غير مناسب .”
لكن فانغ هاو دون أن ييأس ، اقترح خطة أخرى :
“ إذن حافظ على الاتجاه الحالي ، ثم اتجه جنوبًا… وأخيرًا
انعطف 180 للاقتراب ؟”
كان يبذل جهدًا كبيرًا لإيجاد حل يضمن هبوط تشن جيايو بأمان ،
فخلال وقت قصير فقط قدّم أربع أو خمس خطط مناورة
مختلفة ، وفي الوقت نفسه كان ينسّق مع الطائرات الأخرى
لتأجيل هبوطهم ، خاصةً أن إحدى الطائرات القادمة من
الجنوب قد ألغت الهبوط ثلاث مرات متتالية
شعر تشن جيايو بالأسى ، ولم يعد يحتمل ، في هذه اللحظة
كان أكثر قلقًا من فانغ هاو نفسه ، فالأمر لم يكن متعلقًا
فقط بتجاوز العاصفة ، فهو كان واثقًا بمهاراته في القيادة ،
ولديه ما يكفي من الوقود ، وحتى لو لم يتمكن من الهبوط هنا ،
يمكنه التحويل إلى مطار آخر ، ما كان يقلقه بالفعل هو فانغ هاو الذي أنهك صوته المبحوح وهو يواصل إعطاء التعليمات
ومتوتر لإنهاء الموقف ، طرح خطة جديدة بنفسه :
“ ماذا لو اتجهت يمينًا لمسافة عشرين ميلًا بحريًا ، ثم
قمت بانعطافات متتالية لليسار ؟”
تسرّبت تنهيدة مستسلمة عبر موجات الراديو:
“ الرحلة 1328، هذا ممكن، لكنك ستخرج من نطاق مجالي الجوي بعد تلك المناورة .”
فكّر تشن جيايو :
“ إذن، هل أجعل الانعطافات متتالية نحو اليمين؟
على اتجاه 180؟”
راجع فانغ هاو الخرائط أمامه وأجاب:
“ ممكن . الرحلة 1328، غيّر اتجاهك إلى 200.”
أعاد تشن جيايو التكرار:
“ اتجاه 200، الرحلة 1328.”
مرّت ثوانٍ قليلة حتى أصدر فانغ هاو تعليمات جديدة :
“ الرحلة 1328، غيّر الاتجاه إلى 210 واهبط إلى 3600
قدم ، إعداد ضغط الجو 1001.”
أجاب تشن جيايو فورًا:
“ مفهوم . النزول إلى 3600 قدم ،
ضبط الارتفاع على 1001،
وتغيير الاتجاه إلى 210، الرحلة 1328.”
جاء صوت فانغ هاو يحمل في نبرته شيئًا من الاطمئنان :
“ الرحلة 1328، استعد لتصريح الهبوط على المدرج 04، وواصل اقترابك .”
: “ مفهوم، المدرج 04، الرحلة 1328.” ردّ تشن جيايو بينما
بدأت أضواء المدرج تشق طريقها عبر العتمة أمامه
وعندما أنهى فانغ هاو بعبارة : “خدمة الرادار منتهية ”،
خفق قلب تشن جيايو فجأة ،
أراد أن يقول له شيئًا مؤثرًا ، لكنه أدرك ازدحام القناة ،
فاكتفى بجملة مختصرة : “ استلمت ، شكرًا على توجيهك ”،
ثم غيّر إلى تردد راديو برج المراقبة
وبينما يسير بالطائرة خارج المدرج بعد الهبوط على المدرج 04، لم يستطع طرد القلق عن فانغ هاو من ذهنه ،
أول ما خطر بباله بعد إطفاء المحركات أن يعرف ما جرى له بمجرد أن يغادر الطائرة …
————————
فانغ هاو يعاني من زكام منذ أكثر من أسبوع ، لكنه استهان به في البداية معتقدًا أن لياقته الرياضية ستُمكّنه من التغلب عليه ،
ربما قضاؤه ليوم نادر من الراحة مع فانغ شنغجي قد أرهقه
أكثر من اللازم ،
أو ربما نوبات العمل غير المنتظمة خلال الأسبوعين
الماضية قد حولت نزلة برد بسيطة إلى حُمّى حقيقية ،
ومع التهاب اللوزتين وحلقٍ متهيج ، شعر بضعف عام في جسده ،
لقد خطط لأن يجد من يغطي نوبته ،
لكن قوه تشيفانغ غير موجودة بعد ، وفو زيسيانغ في إجازة شخصية ، ولم يبقَى سوى المراقبين الجدد قليلي الخبرة ،
عندها شعر فانغ هاو أنه مضطر للبقاء للإشراف ،
ومع سوء الأحوال الجوية ، كان الأمر كمن يضيف الزيت إلى
النار ، لكن بفضل قيادته في قطاع الارتفاعات العالية ،
خف الضغط على منطقة الاقتراب كثيرًا ،
كان من المفترض أن ينتهي دوامه عند منتصف الليل ،
وما زالت ساعة واحدة تفصله عن ذلك بعدما تعامل مع
كثافة الحركة الجوية ومخاطر قص الرياح التي واجهها تشن جيايو وآخرون ،
و الحركة الجوية باتت الآن أهدأ بكثير ، ووفقًا لبيانات الرادار
وتقارير الأرض ، فقد تحسنت الظروف الجوية بشكل
ملحوظ ، وبدأت العواصف الرعدية في الضعف
شعر باهتزاز هاتفه في جيبه ، أخرجه ليرى اسمًا لم يظهر
منذ مدة طويلة— تشن جيايو
و كانت الرسالة قصيرة ومباشرة :
[ ما بك ؟]
أدرك فانغ هاو أن تشن جيايو قد لاحظ التوتر في صوته عبر الراديو ،
فقد تغيّر صوته إلى درجة أن تشو ييرو نفسها بالكاد تعرّفت
عليه في وقت سابق ، فلا عجب أن يلتقط تشن جيايو الأمر أيضًا ،
لكنه لم يتوقع أن يكسر الأخير جدار الصمت بينهما بهذه الكلمات القلقة ،
تفاجأ بسعادة ، وشعر بدفء يتسلل إلى قلبه ، بدأ يكتب ردًا ،
لكن قبل أن ينهيه ، جاءت رسالة أخرى: [ كِدتُ ألا أتعرف عليك ]
رد فانغ هاو بصراحة متعبة : [ آوه ، عندي حُمّى .] وبعد
لحظة أضاف : [ شكرًا لاهتمامك .]
جاء رد تشن جيايو على الفور تقريبًا : [ تعمل وأنت مصاب بحُمّى ؟]
ثم تلتها رسالة أخرى: [ متى تنهي نوبتك ؟]
ألقى فانغ هاو نظرة على شاشة الرادار التي أظهرت حركة
قليلة ، ثم كتب : [ بقيت لي ساعة واحدة .]
هذه المرة كان تشن جيايو مباشرًا جدًا ، و دون أي تردد ،
أرسل: [ هل ترغب في تناول وجبة خفيفة ليلًا ؟ سأنتظرك .]
في الحقيقة لم يكن لدى فانغ هاو أي شهية بسبب مرضه ؛
فقد كان يكتفي بإجبار نفسه على شرب الماء الساخن لطرد
السموم من جسده ،
لكن بما أن تشن جيايو هو من دعاه ، لم يشأ أن يرفض—
فمجرد أن يبادر بالكلام كان أمرًا نادرًا ، وبدا أنه يريد التحدث ،
لذا ، أجاب بالموافقة …..
يتبع
تعليقات: (0) إضافة تعليق