Ch28 الخطاف الخلفي
في الأشهر التالية ،
كلما استعاد تشو تشيتشن ذكرى الأسبوعين اللذين قضاهما
في أمستردام، شعر وكأنها كانت شهر عسل حقيقي
خلال تلك المدة لم يقد الطائرات لانغ فنغ سوى رحلتين فقط ،
أما بقية الوقت فكانا يقضيانه في شقته بهدوء ودفء ،
بعيدًا عن كل ما يشبه الواقع ،
لم يكتفِ لانغ فنغ بأن يُعرِّفه إلى عائلته ، بل اصطحبه أيضًا
لزيارة مختلف المعالم السياحية ،
في البداية ضحك تشو تشيتشن قائلًا إن تلك الأماكن تبدو
مملة جدًا ، كأنها جولة مخصصة لكبار السن— حقول
التوليب ، ومزارع الجبن ، والطواحين الهوائية — لكن لانغ
فنغ قال له مبتسمًا :
“ طالما أنك تريد الذهاب ، فسأرافقك.
وسأجد لك أماكن صغيرة لا يعرفها السياح .”
وبالفعل ، أخذه إلى مزرعة خاصة يملكها صديقان قديمان
من أصدقاء عرّابي لانغ فنغ، حيث يُصنَع الجبن يدويًا
و هناك ، تمددا على العشب يستمعان إلى همس الرياح ،
ثم قضيا ليلتهما في كوخ خشبي صغير غارق في السكون والظلام
و الطواحين الهوائية ذهبا لرؤيتها على الدراجات الهوائية ،
أما التوليب فصادفاه مصادفةً على جانب طريق ضيّق تحيط
به الأعشاب البرية ، فتوقفا طويلًا يتأملان هذا المكان
الملوّنة كأنه لوحة سقطت من السماء
وقبل مغادرتهما ، خرج لانغ فنغ واشترى كاميرا بولارويد
ثم سحب تشو تشيتشن ليلتقطا صورة تذكارية معًا
كان يعلم أن تشو لا يحب التصوير ، فظل يلحّ عليه بلطف حتى وافق ، وقال مازحًا :
“ فقط صورة واحدة ، أضعها في المنزل لأشاهدها حين أشتاق إليك .”
في الصورة الفورية ، بدا تشو تشيتشن مبتسمًا ابتسامة
خفيفة ومرتّبة ، انعكست عليه أشعة الضوء فجعلته يشبه
ممثلًا من أفلام التسعينيات ، من أولئك الذين يؤدّون دائمًا
دور الرجل الطيب الذي لا ينال البطلة في النهاية ~
أحب لانغ فنغ هذه الصورة كثيرًا ، فأصرّ على التقاط المزيد ،
حتى صار لديه ثلاث نسخ : واحدة علّقها على باب الثلاجة ،
وأخرى احتفظ بها لنفسه ،
أما الثالثة فكانت من نصيب تشو تشيتشن
وضع تشو الصورة بعناية في الجيب الداخلي لحافظة جواز سفره ،
هذه الحافظة تحتوي على جوازه ورخصة طيرانه وغيرها من
أوراقه المهمة ، أغلى من محفظته نفسها ،
وأحيانًا وهو ينتظر إقلاع رحلته التالية ، كان يخرجها خلسة
ليتأملها
ورغم أن التكنولوجيا اليوم تسمح بتبادل الصور ومكالمات
الفيديو في كل وقت، بل وتتيح نشرها على كل مواقع
التواصل الاجتماعي ، فإن لتلك الصورة الورقية الصغيرة
سحرًا لا يشبه شيئًا آخر
بعد رحلة أمستردام بدأ لانغ فنغ رحلاته الجديدة على الخط
بين أمستردام وسنغافورة
كان شهرًا مزدحمًا للغاية بالنسبة له، وعندما وجد أخيرًا
متسعًا من الوقت ، كان تشو تشيتشن قد اجتاز الفحص
الطبي واستعاد صلاحية الطيران ،
وفي ذلك الشهر كله ، لم يلتقيا في بكين سوى مرتين فقط
على مدار الشهرين التالية ، عاش تشو تشيتشن حياةً لا
تلامس فيها قدماه الأرض ،
إلا أثناء نومه أو تبديل الترانزيت أو خلال فترات الراحة
الإلزامية التي تفرضها الشركة ،
حتى إنه أمضى أسبوعين كاملين دون أن يتذكر ارتداء أي
ملابس غير زيه الرسمي أو بجامة ،
كان يستيقظ كل صباح ليذهب إلى العمل ، ويعود إلى
المنزل لينام فور أن يخلع ملابسه ،
و أحيانًا تمرّ سبعة أيام متتالية وهو إمّا في الجو أو في مدينةٍ
أخرى ، لا يدخل بيته تقريبًا
حتى أصدقاؤه ، مثل فَانغ هاو الذي يعمل مراقبًا جويًّا ،
ولين شياو التي تعمل ممرضة وتعتاد نوبات الليل ، قالا له
بعد أن فشلا أكثر من مرة في تحديد موعدٍ معه أنه أصبح
مجنونًا تمامًا ،
فالجميع يعرف أنه كان مجتهدًا في عمله منذ البداية ،
سواءً في بكين أو في خطوط هاينان الجوية ، لكنه الآن فاق نفسه
ولأن جدول رحلاته كان مزدحم للغاية ، حاول لانغ فنغ
مرتين السفر من سنغافورة إلى بكين ليراه ،
لكن تشو تشيتشن لم يستطع أن يضمن وقتًا مناسبًا ،
و لاحقًا ، صادف أن التقيا مصادفة في سنغافورة ، وهناك
طرح لانغ فنغ مسألة قلّة لقائهما ،
فأجابه تشو تشيتشن قائلًا إنه يمكن الحديث بالأمر في نهاية
العام ، لكن اللقاء انتهى بخلافٍ بسيط بينهما
كان لانغ فنغ يتفهّم انشغاله ، وتشو تشيتشن أيضاً كان
يهتم ، بل كان مشتاقًا له حقًّا ،
ولهذا اتصل به لاحقًا ليُرضيه حتى هدأ ،
لكن وصل لانغ فنغ إلى حدّ الانفجار العاطفي لم يكن بسبب
ما بينهما، بل بسبب ما حدث لتشو تشيتشن ….
ففي أحد الأيام ، عند الساعة الحادية عشرة بتوقيت بكين،
أجريا مكالمة فيديو
و أثناءها قال تشو تشيتشن عدّة مرات إنه لا يسمع جيدًا ،
ويقترب من الهاتف مائلًا برأسه نحو الأذن اليسرى ،
لم يشكّ لانغ فنغ بالأمر حينها ، لكن بعد إنهاء الاتصال ،
خطر بباله شيء فاتصل به ثانية وسأله :
“ ما خطب أذنك؟”
وعلى خلاف ما يظنّه الناس ، فإصابات الطيّارين لا تقتصر
على آلام الظهر والعنق الناتجة عن الجلوس الطويل ،
بل أكثر ما يصيبهم هو انخماص طبلة الأذن ،
بسبب تغيّر الضغط الجوي المتكرّر أثناء الإقلاع والهبوط ،
تشو تشيتشن الذي كان في الجيش ، اعتاد عشرات
الإقلاعات والهبوطات يوميًّا ، أي أكثر مما في الرحلات
المدنية ، ولهذا كان يعاني من هذا المرض المزمن
ومع تزايد رحلاته مؤخرًا ، أصيب بنزلة برد خفيفة وانسداد
في الأنف ، ومع ذلك واصل الطيران رغم إرهاقه ، فاشتد
الأمر خلال يومين ،
حين اتصل به لانغ فنغ في المرة الأولى كان يشعر فقط
بطنينٍ خفيفٍ في أذنه، كأن ماءً دخلها، ولم يُعره اهتمامًا،
معتقدًا أنه سيتعافى بعد نومٍ جيد كما جرت عادته، فصحته كانت قوية دائمًا
لكن هذه المرة كانت مختلفة ؛ استمر الطنين يومين
متتالية ، وفي اليوم الثالث بدأ يفقد السمع بوضوح ،
مع ألم نابضٍ مستمر
وحين جاء لانغ فنغ لرؤيته ،
وجد تشو على هذه الحال — اضطر لطلب إجازة من
الشركة لعدم قدرته على الطيران — وأذنه اليمنى شبه صمّاء ،
كان الألم مختلفًا عن جرحٍ سطحيّ ، إذ يمتدّ من الأذن إلى
الرأس ، فأتعبه حتى حدود الانهيار العصبي
لم يتردد لانغ فنغ لحظة ، فقاد السيارة بنفسه وأخذه إلى المستشفى
وهكذا ، كان أوّل لقاءٍ بينهما بعد طول الفراق ، والذي كان يُفترض أن يكون ليلةً رومانسية ،
قد أمضياه في قسم الأنف والأذن والحنجرة بمستشفى البحرية
——
في اليوم التالي ،
جاءت لين شياو لتناول العشاء معهما ، حاملةً طعامًا جاهز
وما إن رأت تشو تشيتشن حتى قالت وهي تنظر إليه بقلق:
“ قلت لك أن تتمهّل قليلاً ! والآن انظر إلى نفسك ، لا تسمع
بأذنك وتريد أن تطير أيضًا ؟”
ثم أضافت وهي تتحدث عمداً في أذنه اليسرى:
“ قلتُها لأذنك السليمة حتى تسمع جيدًا هذه المرة !!!! "
تشو تشيتشن: “ لا أستطيع الطيران ، فأنا لا أسمع
التعليمات بشكل واضح ، فكيف سأتمكن من الطيران ؟
على أي حال ، هو قرار إجباري بالراحة .” ثم أزاح جسده
جانبًا لتدخل لين شياو ، وقال بصوت خافت :
“ اليوم إيفان أيضًا هنا ، فقللي اهتمامك قليلًا "
ابتسمت لين شياو وردت ايضاً بصوت خافت :
“ نحن نتحدث فقط . ولو سألت من أكثر من يهتم بك،
فبالتأكيد حبيبك .”
رد تشو تشيتشن: “ هو يهتم ، وأنا أؤلم أذني ، فرق بسيط "
لين شياو: “ لا تمزح "
وجبة العشاء هادئة للغاية ، ولم يتحدث لانغ فنغ كثيرًا ،
ولين شياو لاحظت أن مزاجه ليس على ما يرام ،
رغم أنه كان يحاول أن يكون مهذبًا ويحاول فتح مواضيع للحديث ،
اعتمد تشو تشيتشن على عذر ضعف السمع ، فلم يتحدث كثيرًا ،
وفي النهاية شعرت لين شياو بالملل ، فودعتهم وذهبت أولًا
عند الباب ، كان لانغ فنغ هو الذي ودعها ،
وقال بهدوء: “ لين شياو أعتذر اليوم ، لم أكن في كامل تركيزي .
في المرة القادمة سأدعوك مجدداً .”
لين شياو:
“ هذا واضح . مشاكلك هي مشاكلك، وعليك أن تحلها "
بعد إغلاق الباب ، بدأ لانغ فنغ يحل المسألة بشكل جدي
و لم يمض وقت طويل حتى تصاعد النقاش بينهما ،
كامتداد للشجار الذي حدث في سنغافورة ——
كان لانغ فنغ شخصًا صريحًا ومستقيم الطبع ،
وتشو تشيتشن لا يترك أي كلمة دون رد ،
فتبادل الطرفان الحديث بشدة ولم يخفى أي شيء ،
كان موقف تشو تشيتشن واضح ؛ لانتدخل في أمور عمل
بعضنا البعض ،، وقد أخبره منذ البداية أنه سيكون مشغولًا
جدًا هذا العام ، وكان ينتظر جمع ساعات كافية ليصبح كابتن طائرة ،
كان لانغ فنغ قادرًا على التحمل سابقًا ، لكن اليوم ، مع
استمرار تشو تشيتشن في الطيران رغم مرضه ،
أدرك أنه قلل من قدرة تشو تشيتشن على التحمل ،
سواء من ناحية الألم الجسدي أو ضغوط العمل المتواصلة
لانغ فنغ: “ إذا لم ألاحظ ذلك ، متى كنت ستخبرني ؟”
أجاب تشو تشيتشن: “ لم تكن شديدة في السابق .
سبق أن حدثت ، ونوم ليلة واحدة كفيل بعلاجها .”
لانغ فنغ: “ وإذا لم آتِ أمس متى كنت ستذهب للمستشفى ؟”
تشو تشيتشن: “ لن أقود الطائرة و سأذهب غدًا إلى المستشفى،
أما لو كان بالليل فسأضطر للذهاب للطوارئ .”
سأل ، فأجاب تشو تشيتشن، فاندهش لانغ فنغ للحظة ،
وأخيرًا هدأ وقال بجدية : “ هذه التفاصيل غير مهمة ،
لست هنا لأجادلك فيها ،
أنت تعرف أن نيتي ليست هذا ،
أنا فقط… وضعنا هذا ، متى سينتهي ؟
أن نرى بعضنا مرتين في الشهر قليل جدًا ، لا أعرف إن كنت
تستطيع ذلك ، أما أنا فلا أستطيع .
قلت أنني سأحاول إيجاد حلول ، لدي اقتراحات ،
لكنك لا تستمع أبدًا "
: " ليس أنني لا أستمع . أنا فقط لا أريدك أن تقدم تنازلات من أجلي .
من جانبي... فقط اصبر حتى نهاية هذا العام .
لم يتبقى سوى ستة أشهر أو نحو ذلك .
ليس أنني لا أريد رؤيتك . فقط اصبر قليلاً ، وسيكون العام
المقبل على ما يرام ."
لانغ فنغ بعناد : " ننتظر نهاية العام من أجل ماذا ؟"
أجاب تشو تشيتشن وهو يتنهد : “ ليس إلا انتظار ترقيتي
لكابتن الطائرة . حسبت الأمور ، وبحلول نهاية العام ،
سيكون الوقت كافيًا .”
تساءل لانغ فنغ بحدة : “ هل يجب أن يكون هذا العام
بالذات ؟
هل يجب أن يكون قبل نهاية العام ؟”
اقترب تشو تشيتشن : “يجب أن يكون قبل نهاية العام ،
في الحقيقة … لم أكن أنوي إخبارك ، لأنه أمر يخصني
وحدي ، لكنك سألت ، فلا يمكنني إخفاؤه الآن …..
بعد ترقيتي لكابتن طائرة ، ستكون مكافأة نهاية العام أكبر .
أريد… العودة إلى شنيانغ قبل نهاية العام .”
لانغ فنغ فهم المعنى الضمني لما قاله: “أنت…”
لم يسمح له تشو تشيتشن بأن يكمل: “ كفى ،
أعلم ما تريد قوله ، فلا تقل .”
تردد لانغ فنغ للحظة ، لكنه في النهاية لم يكمل كلامه ،
وقال : “ أنت دائمًا تتحدث عن أمور مستقبلية ، لكنني لا
أحب أن نحب بعضنا العام المقبل أو مع نسخة العام
المقبل منك ، حبنا هو الحاضر ، اليوم ، الآن ، هذه اللحظة ،
أنا وأنت .”
بعد قول ذلك ، جمع لانغ فنغ حقائبه وغادر منزل تشو تشيتشن
رافقه تشو تشيتشن حتى الباب ، وقال وهو يلحقه :
“ ابق ليلة إضافية ، غدًا يمكنك المغادرة ”
كان يعلم أن خطة لانغ فنغ الأصلية كانت المغادرة غدًا
مساءً ، وقد عدلها مؤقتًا
تردد لانغ فنغ قليلاً ، لكنه أصر في النهاية على أنه بحاجة
للهدوء أولًا ، وقال لتشو تشيتشن: “ فكر جيدًا ، وسنتحدث لاحقًا "
عبس تشو تشيتشن بحاجبيه : “ في هذا الوقت المتأخر أين ستقيم ؟”
أجاب لانغ فنغ بأدب : “ لا تقلق عليّ، كل شيء على ما يرام "
و شاهد تشو تشيتشن لانغ فنغ يرتدي معطفه ويحمل
حقائبه وهو ينزل الدرج ،
عاد ألم أذنه اليمنى فجأة ، نابضًا بشكل لا يمكن كبحه ….
يتبع
تعليقات: (0) إضافة تعليق