Ch35 احتراق القلب
فو نان آن :
“ لا شيء ”
كان البروفيسور فو دائمًا يردد هذه العبارة — ' لا شيء ' —
هكذا ، في كل مرة ، مهما كان الحال ،
الجميع كان مستاءً من فشل المشروع ، لكن فو نان آن كان
أكثرهم توترًا وقلقًا ——
في الأيام القليلة الماضية ، نحُل جسده بشكل ملحوظ ،
وظهرت الهالات السوداء تحت عينيه ، وتشققت زوايا فمه
رأى تشي تشاو كل ذلك بعينيه ، والقلق ينهشه من الداخل ،
لكنه لا يملك ما يفعله
ولم يكن تشي تشاو وحده من يشعر بالضيق ؛
فكل أعضاء فريق المشروع كانوا على أعصابهم ….
ورؤية البروفيسور فو بهذه الحال جعلت الكل يشعر بالأسى ،
حتى إن بعضهم بدأ يفكّر بالتراجع ….
قال أحدهم مترددًا:
“ ربما… علينا فقط أن نترك الأمر ؟”
وسرعان ما تبعته أصوات أخرى توافقه :
“ نعم، لمَ لا؟ ما حدث هذه المرة مجرد حادث عابر ،
وسنحاول مجددًا .”
“ بالطبع ، قدرات فريقنا واضحة للجميع .
هل سنخاف من زلّة واحدة ؟”
“ فلنركّز الآن على التجارب بهدوء ، فالدفعة القادمة ستبدأ قريبًا .
وسننجح بالتأكيد في المرة القادمة .”
كان الناس بارعين دائمًا في مواساة أنفسهم —-
لم يشأ أحد أن يبقى غارقًا في الكآبة …
وبدأ الجميع يتحدثون في وقت واحد عن خطط التجارب المقبلة ،
وحين وصل هذا الكلام إلى فو نان آن، ساد الصمت طويلًا
مرّت أصابعه فوق عصاه البيضاء، وقال بصوت خافت:
“ امنحوني بعض الوقت فقط "
كانت نبرته تحمل إرهاقًا لم يسمعه تشي تشاو من قبل ،
تعب أثقل من الكلمات …
لا يدري تشي تشاو ما الذي يستطيع فعله أو قوله ،
فاكتفى بأن يرافقه كلما سنحت الفرصة ،
يساعده في الأشياء الصغيرة — كأن يضع له كمّادة دافئة على عينيه
و حين أسند البروفيسور فو المنشفة الدافئة فوق عينيه ،
قال فجأة :
“ ما رأيك ؟”
تشي تشاو تفاجأ بالسؤال ، سأل:
“ رأيي في ماذا ؟”
قال فو نان آن بهدوء :
“ في هذه المسألة ….
الجميع يقول إن الأفضل أن نتراجع…
وأنا أريد أن أسمع رأيك أنت .”
حتى هذه اللحظة ، لم يُفصِح تشي تشاو عن رأيه قط ،
خوفًا من أن يُربِك تفكير فو نان آن أو يزيده ضغطًا ،
لكن طالما أن البروفيسور فو سأله صراحةً ،
فلن يختبئ خلف الصمت هذه المرة
توقّف لحظة ، ثم قال بهدوء وحزم:
“ لا أرى أننا يجب أن نتخلى عن الأمر هكذا "
فو نان آن:
“ ولمَ لا؟”
أجاب تشي تشاو :
“ لأن في الأمر ظلمًا .
ألستَ أنت من قال إن علينا أن نناضل من أجل حقوقنا ؟
ما هو لنا يجب أن يكون لنا ،
ولا ينبغي أن يُنتَزع منّا بلا وجه حق ،
بل على الأقل ، نحن نستحق تفسيرًا واضح .”
كان صوته جادًّا ، مفعمًا بالإخلاص
وحين أنهى كلامه ،
رفع نظره نحو فو نان آن وسأله أيضاً :
“ وما رأيك أنت يا أستاذ ؟”
ظل فو نان آن صامتًا للحظة ، ثم قال بهدوء :
“ فهمت "
وبعد لحظة ، تمتم بصوت خافت :
“ امنحني بعض الوقت فقط "
بعد ذلك ، لم يتحدث بعد ،
ولا تشي تشاو
وحين انتهى من وضع الكمّادة على عينيه ،
نهض بهدوء وغادر دون أن ينبس بكلمة
وعندما خرج ، كان فو نان آن ما يزال جالسًا إلى مكتبه،
ملامحه مليئة ملامح إنهاك لم يسبق لتشي تشاو أن رآها من قبل
تأمله طويلًا، كأنه يتخذ في داخله قرارًا حاسمًا،
ثم استدار وغادر المكتب بخطوات ثابتة وواثقة
—————
في الأيام التالية ،
ظل فو نان آن مشغولًا على نحوٍ مرهق ،
ينتقل من مكان إلى آخر دون توقف ،
حتى إنه بالكاد يجد وقتًا ليأكل ،
وانشغاله هذا جعله لا يتواصل مع تشي تشاو لعدة أيام
متتالية دون أن يشعر
ومرّ يومان آخران بسرعة ——-
وبدأ أعضاء فريق المشروع تدريجيًا بالعودة إلى أعمالهم التجريبية
وعندما جاء فو نان آن لتفقّدهم ،
لم يُبدِي دعمًا ولا اعتراضًا ،
لكنه فجأة لاحظ أن شخصًا ما مفقود
سأل:
“ أين تشي تشاو ؟”
فأجابه أحد الطلاب:
“ يبدو أن لديه أمرًا يشغله هذه الأيام "
رفع فو نان آن حاجبه وسأل:
“ أمر يشغله ؟”
قال الطالب مترددًا :
“ لسنا متأكدين تمامًا ،
لكنه قال إنه بحاجة إلى إجازة ليومين أو ثلاثة لأمرٍ مهم .”
عندها أدرك فو نان آن كم كان غارقًا في انشغاله ،
حتى أنه لم ينتبه أصلًا إلى أن تشي تشاو قد طلب إجازة ،
فتح هاتفه وأرسل له رسالة عبر ويتشات يسأله فيها عمّا يجري
وبعد قليل ، جاءه الرد من تشي تشاو
[ لا شيء يا أستاذ فو، لديّ بعض الأمور الشخصية هذه
الأيام ، سأعود بعد بضعة أيام ]
لم يُفصِح تشي تشاو عن التفاصيل ، لذا لم يُلحّ فو نان آن في السؤال
فلكلّ إنسان شؤونه الخاصة ، ولم يكن فو نان آن من النوع
الذي يتطفّل أو يستجوب الآخرين ،
كما أنه يؤمن بأنّ تشي تشاو قادر على تدبّر أموره بنفسه ،
كان الأستاذ فو يثق بتشي تشاو دائمًا ، لكن الثقة شيء ،
والقلق شيء آخر —- فغيابه عن المختبر لعدّة أيام ،
وتوقّفه عن المجيء لمساعدته في كمّادات العين ،
جعلاه يشعر بالانقباض …. لذا قرّر أن يزوره بنفسه ليتأكّد من أحواله
——
في الليل ، كان تشي تشاو في نوبة عمله
حضر فو نان آن خصيصًا عند موعد تبديل النوبات ،
ودفع باب غرفة المناوبة برفق وهو يقول :
“ هل تشي تشاو هنا ؟”
كان تشي تشاو منحنياً على المكتب يكتب شيئ ،
فتجمد للحظة حين رأى فو نان آن، وبدت الدهشة واضحة على وجهه
“ أستاذ ؟ ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
رفع فو نان آن حاجبًا وقال مازحًا :
“ وهل يُمنع عليّ القدوم ؟”
أسرع تشي تشاو ليجد له مقعد ، فشكره فو نان آن وجلس ،
ثم سأله بنبرة هادئة :
“ بماذا كنت مشغولًا في الأيام الماضية ؟
لماذا لم تعد تأتي ؟”
كان الأستاذ فو دائم اللطف مع الآخرين ، وأكثر مع تشي تشاو
جلس إلى جواره ، مستندًا بيده على الطاولة ،
تردّد تشي تشاو قليلًا قبل أن يجيب :
“ ل… لا شيء مهم "
أدرك فو نان آن من نبرته أنّ الأمر ليس بهذه البساطة
فقد قال سابقًا إنه مشغول ، وها هو الآن ينفي ذلك،
وهذا تناقض واضح
فسأله بقلق :
“ هل أنت بخير حقًا ؟”
فكّر للحظة ، ثم ابتسم فجأة وقال بنبرة خفيفة:
“ هل أنت غاضب مني؟”
فتح تشي تشاو فمه وكأنه سيجيب ، لكن فو نان آن واصل حديثه بلطف:
“ لقد كنت منشغلًا في الأيام الماضية ، ولم أجد وقتًا لك،
إن كنت مستاءً بسبب هذا ، فأنا أعتذر .”
كان صادقًا في اعتذاره ، أدرك أنه أهمل تشي تشاو دون قصد ،
وانشغل تمامًا عنه ،
بعد أن أنهى كلامه ، سكت منتظرًا رده
فسارع تشي تشاو بهزّ رأسه قائلًا :
“ لا، لا، لست غاضب ”
ابتسم فو نان آن :
“ إن لم تكن غاضب ، فلماذا توقّفت فجأة عن المجيء ؟
لقد مضت عدّة أيام ، أليس كذلك؟”
تشي تشاو:
“ أربعة أيام ، ويبقى يوم واحد فقط ، وسأنتهي من كل شيء قريبًا ”
عندما سمع فو نان آن ذلك ، ابتسم وبدت عليه بعض الراحة :
“ إذًا لديك حقًا أمر يشغلك حقاً ؟”
تشي تشاو:
“ حقًا ! "
سأله فو نان آن برفق:
“ أتستطيع أن تخبرني ما هو؟”
تحركت شفتا تشي تشاو قليلًا ثم شدهما من جديد،
وكأن الكلمات على طرف لسانه ، قال مترددًا :
“ أستاذ ، أنا…”
رفع فو نان آن رأسه مشيرًا له أن يُكمل
فشدّ تشي تشاو شفتيه للحظة ، ثم قال أخيرًا:
“ دعني أخبرك بعد أن أنتهي من كتابته .”
قال فو نان آن بهدوء :
“ حسنًا "
ولأن تشي تشاو لم يرغب البوح بما يشغله ، لم يُلحّ فو نان آن بالسؤال أكثر ،
و يكفيه أنه تأكد أنّ تشي تشاو لم يكن غاضبًا منه ،
فاطمأن قلبه ، وبدأ يتحدث معه في حديث عابر
وبينما يتبادلان الكلام ، لم يستطع تشي تشاو أن يمنع نفسه
من التحديق في عيني فو نان آن
{ عيناه جميلتين بحق ، لولا أنّ شيء من الضباب يغطيها ،
فبدت خالية من اللمعان } اضطرب قلب تشي تشاو فجأة،
ولم يتمالك نفسه من أن يناديه بصوت خافت:
“ أستاذ…”
رفع فو نان آن رأسه نحوه ،
فهزّ تشي تشاو رأسه سريعًا وقال:
“ لا شيء "
بعدها تحوّل حديثهما إلى أمور أخرى ، وقضيا معًا مساءً لطيفًا هادئ …
لم يحدث شيء يُذكر أثناء نوبة العمل ، فانجرفا في الحديث
دون أن يشعرا بالوقت
وتجنّبا الحديث عن فشل المشروع ، مكتفيَين بمواضيع
خفيفة وسعيدة ، فارتسمت على وجهيهما ابتسامات نادرة
افتقداها منذ زمن
وبحلول هذه الليلة ، فقد مرّ ستة أيام على رفض المشروع
حين يثقل الهمّ القلب ، يصعب الشعور بالراحة ، لذا كانت
هذه الأمسية بمثابة نسمة دافئة نادرة لكليهما
مكث فو نان آن حتى ساعة متأخرة ثم غادر
————
وفي صباح اليوم التالي، عاد تشي تشاو إلى المختبر
حين سمع فو نان آن صوته ، بدا عليه شيء من الدهشة ،
لم يتوقّع عودته بهذه السرعة
“ هل أنهيت أمورك ؟”
أومأ تشي تشاو قائلًا :
“ تقريبًا ، بقي فقط أن أُنهي بعض التفاصيل الصغيرة "
فقال أحد الزملاء الذي سمع حديثهما وهو يقترب مبتسمًا :
“ هاه؟ يبدو أن شياو تشي يخفي عنّا أمرًا سريًا !”
ثم ربت على كتف تشي تشاو ضاحكًا
جميع أفراد فريق البحث ينسجمون جيدًا ،
و يقضون أيّامهم ولياليهم معًا ،
يجمعهم العمل والصداقة في آنٍ واحد ،
لذا كان غياب تشي تشاو في الأيام الماضية سببًا في قلق الجميع ،
وكان هذا ثالث شخص يسأله عن حاله
ابتسم تشي تشاو وقال مفسِّرًا:
“ ستعرفون خلال يومين ! "
ضحك زميله الأكبر :
“ ما هذا الغموض يا فتى ؟ أحقًا تخفي عنا شيئ ؟”
هزّ تشي تشاو رأسه نافيًا :
“ ستعرفون قريبًا "
حاول زميله أن يستدرجه ليعرف شيئًا بطريقة غير مباشرة ،
لكن تشي تشاو لم ينبس ببنت شفة ،
كأن فمه قد أُغلق بالصمغ ،
وفي النهاية ، لم يجد الزميل حلاً غير التنهد قائلًا :
“ حسنًا ، حسنًا ، لن أسأل بعد الآن ،،
يبدو أنك تُتقن حفظ الأسرار يا فتى ...
أيمكن أن تكون قد أعددت لنا مفاجأة ؟”
لم يُجب تشي تشاو ، بل اكتفى بنظرة هادئة ، ثم قال
بصوتٍ خافت :
“ آمل أن تكون مفاجأة فعلًا "
كان تشي تشاو يُعدّ بالفعل مفاجأة للجميع ——
ومع حلول الظهيرة ، انتشر الخبر في أرجاء فريق البحث بأكمله ——
و توالت المجموعات إلى مكتبه يسألونه عن حقيقة الأمر ،
فرفع تشي تشاو يده إلى صدغيه يفركهما وقال مبتسمًا بتعب :
“ يا إلهي ، كيف ينتشر الخبر بهذه السرعة ؟”
قالت له إحدى الزميلات مُلحّة :
“ طالما انتشر الأمر ، أخبرنا به إذًا ! ستقول عاجلًا أو آجلًا ،
فقل الآن وانتهِي من الأمر !! .”
فتح تشي تشاو فمه ليجيب ، لكن أحد الزملاء تدخّل بحماس:
“ بل هذا وقت الإعلان المناسب ! إن كانت حقًا أخبارًا سارّة،
نخرج جميعًا لتناول الغداء احتفالًا !”
فأيدوه أصوات أخرى من حولهم :
“ اوووه، اوووه !”
“ لنخرج ونحتفل !”
و تعالت الضحكات والهتافات ، فقد كانت الأيام الماضية
ثقيلة على الجميع بعد فشل المشروع ، والرفض الذي أصابهم بالإحباط ،
لذا انتهزوا الفرصة ليمزحوا قليلًا ويخففوا عن أنفسهم ،
ولم يكن مهمًا لديهم إن كشف تشي تشاو عمّا يفعله أم لا،
المهم أنهم وجدوا لحظة مرح في وسط الضيق
الجميع يرى أن الرفض مؤسف، لكنه واقع لا يمكن تغييره ،،
لقد مضى أسبوع كامل ، وبدأوا يستعيدون نشاطهم
ويستعدّون لتقديم طلبٍ جديد ، مطمئنين إلى أن الماضي
قد انقضى
“ انتهى الأمر ، و مضى ما مضى .”
قالوا ذلك ، وعادوا للعمل بحماس متجدد
وفي فترة ما بعد الظهر ، جلس تشي تشاو وحده أمام
اللابتوب ، يكتب طويلاً بصوت المفاتيح المتتابع ،
وبعد لحظة ، ضغط على مفتاح “الإدخال” أخيرًا ،
وقال بصوتٍ هادئٍ ثابت :
“ الأمر لم ينتهِي بعد …"
و تابع بصرامة وجدية :
“ نتيجتنا فيها مشكلة ، وقد قدّمت بلاغًا رسميًا باسمي ضد
لجنة مراجعة المشروع ! "
يتبع
تعليقات: (0) إضافة تعليق